لطالما سعت روسيا إلى لعب دور رئيسي في منطقة الشرق الأوسط واكتساب اعتراف بمكانتها فيه كقوة عظمى، حيث عمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ توليه السلطة في مايو عام 2000، على إعادة روسيا إلى الشرق الأوسط، وقد أدّى التدخل العسكري الروسي في سوريا في سبتمبر 2015 الداعم للرئيس السوري بشار الأسد إلى ترسيخ النفوذ الروسي في المنطقة، وشكّل تتويجًا لسنوات من الأهداف الأوسع نطاقاً لدى موسكو لردع الغرب ضمن سياق إرباك السياسات الغربية.
وخلافاً للاتحاد السوفيتي السابق، قام بوتين باستمالة كافة الجهات الفاعلة الرئيسية، ويستمر في ذلك حتى عندما تُعارض هذه الجهات بعضها البعض، فيما بدا أنه نهج عملي ومرن على نحو أكبر من ذلك الذي اتبعه الاتحاد السوفيتي الذي كان يغلب الطابع الآيديولوجي ولديه حلفاء وخصوم واضحون، وقد نجحت استراتيجية بوتين بفضل تضارب الالتزامات الغربية تجاه المنطقة.
وتحافظ موسكو على علاقات جيدة مع إيران وإسرائيل ودول الخليج، وتستخدم كافة الأدوات المتاحة من أجل ترسيخ نفوذ عملي ليس من خلال القوة العسكرية فحسب، بل الشبه العسكرية والاستخباراتية والتجارية والقوة الناعمة أيضًا.
سوريا نقطة انطلاق رئيسية لنفوذ روسي في المنطقة
ووفقًا للمجلس الأطلسي (مركز بحثي مقره واشنطن)، تشكل سوريا مركز نشاط الكرملين، حيث يستخدمها بوتين كنقطة انطلاق لإبراز قوّته في جميع أنحاء المنطقة وفي أوروبا وإفريقيا أيضًا، حيث توجد عسكريًّا في سوريا عبر انتشار للجيش الروسي في قاعدة “حميميم” الجوية، وبموجب اتفاقية بين موسكو ودمشق ستبقى القوات الروسية في سوريا لمدة لا تقل عن تسعة وأربعين عامًا.
ويسمح موقع سوريا الاستراتيجي في شرق البحر المتوسط لروسيا أيضًا بإبراز قوتها في الجناح الجنوبي لحلف “الناتو”.
وفي هذا السياق، كانت ليبيا الغنية بالنفط وذات الموقع الاستراتيجي هي الخطوة المنطقية التالية، حيث تجلى النشاط الروسي هناك على نحو أكبر خلال السنوات القليلة الماضية على الجبهة الدبلوماسية وسط سعي موسكو إلى تصوير نفسها كوسيط، ومن خلال وجود عسكري ممثل في ما يسمى بالمقاولين العسكريين الخاصين على غرار “مجموعة فاغنر”، التي نشرت نحو 1200 عنصر، وفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة.
وفي حين تُعتبر مصالح موسكو جيوسياسية في المقام الأول، إلا أنّ هناك أيضًا جانبًا تجاريًّا – يتعلق بشكل رئيسي بالطاقة والأسلحة – بالإضافة إلى الأبعاد الثقافية والدينية. وعلى الرغم من أن بوتين يعمل على بناء علاقات مع الجميع وهو توازن ليس من السهل الحفاظ عليه، فإن كفة الميزان لا تزال تميل لصالح القوى المعادية للولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدًا سوريا، وإيران وأذرعها المسلحة.
في المقابل، لم تعلن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بعدُ عن سياستها تجاه سوريا، ومن غير المرجح أن تكون دمشق من أولوياتها، الأمر الذي سيؤدي إلى استمرار مساعدة بوتين في مساعيه.
وفي حين تبقى العديد من التفاصيل غير واضحة، إلا أنه من وجهة نظر أوسع نطاقًا، تستمرّ واشنطن في عدم منح الأولوية للشرق الأوسط لصالح منافسة القوى العظمى مع الصين وروسيا في مناطق أخرى، بينما ترى موسكو في الشرق الأوسط ساحة رئيسية لهذه المنافسة.
وفي هذا الإطار، ترى الدكتورة آنا بورشيفسكايا زميلة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أنه إذا استمر هذا الاتجاه، فستواصل روسيا تقاربها العميق أساسًا مع إيران ووكلائها، وسيكون لموسكو في النهاية الكلمة الأخيرة بشأن مستقبل سوريا، ولن يؤدي مثل هذا السيناريو سوى إلى الإضرار بالمنافسة الأمريكية مع الصين وروسيا.
غياب الاستراتيجية الشاملة والاقتصار على التحركات التكتيكية
لقد وجدت الدول العربية نفسها أمام واقع جديد منذ الحرب في سوريا، إذ بات لديهم جار إقليمي جديد له وجود عسكري طويل الأمد في سوريا وارتباطات مهمة مع كل من إيران وتركيا، ومع إدراك أن نطاق المصالح الروسية قد اتسع بشكل ملحوظ، فإن الموقف شبه الجماعي للمنطقة العربية هو الالتزام بالقانون الدولي، ولا يقتصر هذا على دول الخليج العربي، بل يشمل المنطقة العربية بأكملها من شمال إفريقيا إلى الشام باستثناء سوريا، فعلى سبيل المثال، لم تعترف أي دولة عربية بضم شبه جزيرة القرم، وفي الوقت ذاته لم تنخرط الدول العربية في سياسات تفرض عقوبات أحادية الجانب على روسيا.
وتدرك الدول العربية أن روسيا ليس لديها استراتيجية شاملة للتعامل مع القضايا الإقليمية، وإنما تستند إجراءات موسكو إلى تحركات تكتيكية لتعزيز وجودها فقط، فعلى سبيل المثال، ليس لدى روسيا مشروع قوة ناعمة أو آليات لتعزيز الاستثمارات على غرار ما تفعله الصين.
كما يبدو أن روسيا مهتمة بالانخراط في الأزمة القائمة أكثر من اهتمامها بالإسهام في حلها، وهذا يشير إلى أن موسكو تنظر إلى أي أزمة من خلال كيفية تأثيرها على العلاقات الروسية مع أطراف الصراع الأخرى، فهي غير راغبة أو غير قادرة على المساعدة في إيجاد حلول للمشاكل، وبدلاً من ذلك تقدم مقترحات للحفاظ على وجودها على طاولة المحادثات، ومن الأمثلة على ذلك: اقتراح عقد مؤتمر دولي للسلام أو إحياء اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط، واقتراح آلية أمنية مشتركة في الخليج ورعاية الحوارات بين الأطراف الليبية.
ويوجد ثمة إدراك عربي بأن روسيا تعزز احتمالات أن تصبح لاعبًا نشطًا في المنطقة، ولكن ليس كحليف يمكنه أن يحل محل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
تنسيق مع إسرائيل بشأن سوريا وخلافات بشأن النووي الإيراني والقضية الفلسطينية
أما عن رؤية الجانب الإسرائيلي للدور الروسي، فبينما تعتبر تل أبيب نفسها جزءًا من المعسكر الغربي وحليفًا وثيقًا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فإنها لا تنظر إلى روسيا كخصم، فرغم تعارض البلدان في العديد من القضايا الجوهرية ذات الصلة بسياساتهما الشرق أوسطية، لكنهما يفضلان التركيز على أجندة مقبولة.
وقد أسهم مليون شخص ناطق بالروسية هاجروا إلى إسرائيل بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في تطوير العلاقات بين البلدين بما في ذلك التعاون الاقتصادي والثقافي، فضلًا عن اعتزاز الإسرائيليين بالدور السوفيتي في هزيمة ألمانيا النازية.
وفي الآونة الأخيرة، اتخذت إسرائيل موقفًا حذرًا من الانقسام الروسي الغربي بعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم عام 2014، فهي لم تُدن روسيا ولم تنضم إلى العقوبات المفروضة عليها، وواصلت اجتماعات رفيعة المستوى مع المسؤولين الروس.
وقد أدى قرار روسيا في عام 2015 بالتدخل رسميًّا في الحرب الأهلية السورية إلى خلق بيئة استراتيجية جديدة لإسرائيل، إذ جعل المسرح السوري القضية الثنائية الأكثر أهمية بين تل أبيب وموسكو، لا سيما مع مساعي إسرائيل لمنع وجود عسكري طويل الأمد لإيران والميليشيات التي يسيطر عليها الحرس الثوري الإيراني بالقرب منها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من دعم موسكو للرئيس الأسد واصطفافها مع إيران وحزب الله من أجل الدفاع عن هذه القضية، فإنها لا تدعم نشاطهما ضد إسرائيل، وتغض موسكو الطرف عن الضربات الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية في سوريا، كما تحرص كل من روسيا وإسرائيل على تقليص خطر وقوع اشتباك مباشر بين عسكرييهما.
وعلى الرغم من أن العلاقات الإسرائيلية الروسية قد تبدو علاقة شراكة وثيقة، فإن هذا لا ينفي الخلافات العميقة بشأن مستقبل سوريا والملف النووي الإيراني، ومبيعات الأسلحة الروسية للمنطقة والقضية الفلسطينية، وهو ما يتضح على النحو التالي:
لم تتخل إسرائيل تمامًا عن الأمل في أن نفوذ موسكو على الرئيس السوري قد يساعد في إخراج الإيرانيين من سوريا، إلا أنها تعتمد بشكل أساسي على نفسها وتدعم الوجود العسكري الأمريكي هناك.
تعتبر أن روسيا تُبالغ في حماية خطوات إيران التصعيدية بشأن تخصيب اليورانيوم، وإنهاء حظر الأسلحة على طهران، حيث يسعى المجمع الصناعي العسكري الروسي إلى حماية حصته في السوق الإيرانية.
عدم الترحيب بوساطة موسكو في القضية الفلسطينية، مع الأخذ في الاعتبار بشكل أساسي الموقف الأمريكي.
ولذلك يمكن القول إن مصلحة إسرائيل الأساسية في الحفاظ على روابطها القوية وتعاونها الدفاعي مع الولايات المتحدة يقيد اتصالاتها مع روسيا، لكنها تدرك أن الانخراط النشط في العلاقات مع موسكو يجعلها قادرة على تنفيذ عملياتها العسكرية ضد التمركز الإيراني في سوريا.
وختامًا، يتضح مما سبق الفروق الدقيقة في دور روسيا في المنطقة، وأن تباين الأوضاع في الشرق الأوسط من حيث التنمية الاقتصادية وطموحات قادته والأولويات الأمنية، على سبيل المثال لا الحصر يقدم عددًا لا يحصى من الفرص، ولكنها تشكل أيضًا تحديات معقدة أمام النفوذ الروسي، إذ تدرك موسكو طبيعة القيود على حركتها خاصة فيما يتعلق بالدور الراسخ للولايات المتحدة وتنامي النفوذ الصيني، فروسيا ليست لديها أوهام حول استبدال دور واشنطن في المنطقة، فهو أمر غير مدرج على أجندة الكرملين الذي يدرك تمامًا استحالة ذلك، لكن ما تسعى إليه روسيا هو ملء الفراغ الذي تركه الآخرون، فهذا هو جوهر السياسة الخارجية الروسية في المنطقة على مدى السنوات القليلة الماضية.
5 دقائق