دراسات

أيديولوجيا الدراما الرقمية بين الحفاظ على الخصوصية الثقافية وإعادة تشكيلها

 

تعتبر الدراما الرقمية شكلا من أشكال الدراما الذي ارتبط في عرضه بالمنصات الرقمية؛ حيث تم إنتاج هذا النوع من الدراما ليعرض بشكل حصري على هذه المنصات. ومن المتعارف عليه أن يحتوي العمل الدرامي على عدد من التصورات والأفكار ورؤى العالم وأيضًا العادات والقيم التي تظهر في سياق العمل من خلال سلوكيات وتصرفات شخوص العمل الدرامي، حيث تمثل هذه التصورات والأفكار الأيديولوجية الخاصة بالعمل الدرامي، والتي تخص مؤلفه في المقام الأول، لكنها تخرج للنور من خلال منظومة متكاملة من صناع العمل وهم المؤلف والمخرج والجهات الإنتاجية التي تنتج وتسوق العمل.

وفي هذا الإطار، نشرت المجلة العربية لبحوث الإعلام والاتصال في عددها الصادر في يوليو/ سبتمبر 2024، دراسة بعنوان “أيديولوجيا الدراما الرقمية بين الحفاظ على الخصوصية الثقافية وإعادة تشكيلها؛ رؤية سوسيولوجية” من إعداد الدكتورة سماح عبد الله، أستاذ علم الاجتماع المساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، حيث تتمثل الإشكالية البحثية في الإجابة عن تساؤل رئيس مؤداه هل أيديولوجيا الدراما الرقمية المعروضة على المنصات الرقمية المختلفة عابرة للثقافات، وهل تعيد تشكيل وصياغة الخصوصية الثقافية من خلال بث أفكار وتصورات مغايرة مثلًا أم تحافظ على الخصوصية الثقافية؟

  • العلاقة بين الأيديولوجيـا والدرامـا

أوضحت الدراسة أن الاتجاه النقـدي فـي دراسـته للأيديولوجيـا وعلاقتهـا بالدرامـا بوصفهـا منتـجا ثقافـيا إبـداعيا قـام علـى عـدد مـن المرتكـزات الرئيسـة؛ أهمهـا:

  • الأيديولوجيـا هـي مجموعـة التصـورات والأفـكار ورؤى العالـم التـي تميـز مجتمـعا مـا، وعـادة تفرضها الطبقة المسيطرة اقتصاديًا علـى باقـي الطبقـات فـي المجتمـع.
  • الدرامـا – بـكل أنواعهـا – منتـج إبـداعي ثقافـي ينتمي للبنيـة الفوقيـة فـي المجتمـع، والتي تتأثـر بالبنى الاجتماعيــة الاقتصاديــة السياســية فيــه وتؤثــر بهــا، وتخلــق علاقــة التأثيــر والتأثــر هــذه حالــة مــن الحركـة والصيـرورة والديناميـة.
  • الأيديولوجيـا التي تسـود مجتمـعا مـا نسـبية ومتغيـرة، مـن فتـرة لأخـرى فـي المجتمـع الواحـد وكـذا الأيديولوجيـا الـتي تحكـم المنتجـات الإبداعيـة ومنهـا الدرامـا.
  • قـد يكـون الفـن بـكل أشـكاله وأنواعـه آليـة مـن آليـات إنضـاج الـوعي وإنفـاذ البصيـرة وإعمــال العقــل، وقــد يكــون أداه لتزييــف الــوعي أو تعطيلــه أو تشــويش العقــل وطمــس البصيــرة، ومؤلــف العمـل الـدرامي يقـوم بواحـد مـن الدوريـن وذلـك بمسـاعدة ظـروف وآليـات كثيـرة.

 

  • المرتكزات الرئيسة للأيديولوجيا والدراما في مرحلة ما بعد الحداثة

استعرضت الدراسة مجموعة من المرتكزات الرئيسة بخصوص الأيديولوجيا والدراما في مرحلة ما بعد الحداثة، ومنها:

  • ظهور مفهوم موت الأيديولوجيا أو نهاية الأيديولوجيا الذي يقوم على اختفاء الفروقات الأيديولوجية في المجتمعات أدى إلى وجود نسبة عادلة لكافة الجماعات الاجتماعية من بلوغ أهدافها.
  • نفى الواقع الفعلي في المجتمعات الصناعية مفهوم موت الأيديولوجيا.
  • ظهر مصطلح موت المؤلف في الحقل الإبداعي فيما يخص النص الأدبي والدرامي ليؤكد على أنه ليس للمؤلف دور -وكذلك كل السياقات التي تحيط به- في فرض رؤيته على المتلقي.
  • نفى الواقع الفعلي موت المؤلف، وأعطى عددا من الدارسين آليات بديلة تنمي الخيال والفكر الواعي لدى المتلقي من خلال النص المعروض ليخرج من أسر الأيديولوجيات المفروضة.

 

  • موقف الدراما الرقمية من الخصوصية الثقافية للمجتمع

تمتـاز الدرامـا الرقميـة بعـدد مـن الخصائـص الرئيسـة مـن أهمهـا؛ اعتمادها علـى السـرعة وهـو مـا يفرض على صناع هـذا النـوع مـن الدراما البحث عـن نص جيد وحبكـة درامية سريعة الإيقاع، وعلـى الرغـم من أن الدرامـا الرقميـة خارج عباءة الرقابـة فإنهـا ملزمـة بشـروط المنصـة الإلكترونية التـي سـوف تعرضهـا؛ فلا بد أن تكون الفكرة ملائمة للمجتمعات العربية.

ويبـدو أن الفكـرة الأساسـية والهـدف الرئيـس الـذي تقـوم عليـه الدرامـا الرقميـة هـو جـذب عـدد كبيـر مـن المشـاهدين لتحقيـق نسـبة مشـاهدة عاليـة لصالـح الإنتـاج بمضمـون تشـويقي، وهـو الـشيء الـذي أثـار مخـاوف العديـد مـن المعنييـن بالدرامـا والمجتمـع حـول فقـد الهويـة أو المسـاس بالخصوصيـة الثقافيـة للمجتمـع.

وانقسـمت آراء المهتميـن إلـى رأييـن؛ الأول يبـدي تخوفـه مـن تأثيـر الدراما الرقمية على القيم الخاصة بالمجتمعـات العربية وهـدم الهويات الثقافية، ودعا أصحاب هـذا الـرأي إلى حتميـة وضـع ضوابـط ومعاييـر رقابيـة للمعالجات الدرامية للدراما المعروضة علـى المنصات الرقمية، فـي حيـن أكـد الـرأي الثاني علـى أن لـكل مجتمـع هويتـه وخصوصيتـه التي مـن الصعـب المسـاس بهـا مـن خـلال عمـل درامي مهمـا بلـغ نجاحـه أو عظـم أثـره.

ورأت الدراسة أنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار المخاوف التي تحيط بمسألة تفتيت الدراما الرقمية للخصوصيات الثقافية أو إعادة تشكيل هذه الخصوصيات، لقد ذكر أصحاب الاتجاه النقدي في علم الاجتماع مسألة تبعية البنية الثقافية للبنية الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع وأن من يملك الاقتصاد يتحكم في كافة شروط الوجود الاجتماعي ومنها الأفكار والقيم التي تشكل جوهر الهويات ومن ثم الخصوصيات الثقافية، ولو حاولنا تطبيق هذا الأمر على واقع الدراما الرقمية نجد أن هناك قواعد تحكم هذا المنتج الابداعي الثقافي منها القواعد التي يفرضها المنتج أو جهات الإنتاج والتي قد لا تأخذ بعين الاعتبار مسألة الحفاظ على الخصوصيات الثقافية للمجتمعات المذاع بها العمل الدرامي.

وأقرت الدراسة بأنه من الصعب التحكم في المضمون الإبداعي الرقمي بكافة أشكاله- وخاصة الدراما الرقمية، لذلك يكمن الحل في خلق وعي مستنير وحقيقي لدى جموع المتلقين لأن العقل الواعي يستطيع الفرز والانتقاء والتمييز، وأن الحفاظ على الخصوصيات الثقافية لمجتمعاتنا تبدأ بإعمال العقل وخلق الوعي من خلال وسائط التنشئة الاجتماعية المختلفة ومن خلال وسائل الإعلام المحلية والوسائط التي تستخدمها وغيرها من الآليات ذات التأثير.

وأخيرًا، خلصت الدراسة إلى أنه قــد تكــون أيديولوجيـا الدرامـا الرقميــة المعروضة علـى المنصـات الرقميـة المختلفـة عابـرة للثقافـات أي لا تمثـل المجتمـع الـذي تعـرض فيـه، وأن القيـم الكونيـة قـد تطغـى علـى السـياق الـدرامي لمسلسـل يتـم عرضـه علـى منصـة رقميـة فـي مجتمـع عربـي، مشيرة إلى أن هنـاك إعـادة صياغـة للخصوصيـة الثقافيـة الخاصـة بالمجتمـع العربـي مـن خـلال بـث أفـكار وتصـورات مغايـرة عـن الواقـع.

ووجدت الدراسة أنـه مـن الصعـب التحكـم فـي المضمـون الإبـداعي الرقمـي بكافـة أشـكاله وخاصـة الدرامـا الرقميـة، لذلـك يكمـن الحـل فـي خلـق وعي مسـتنير وحقيقـي لـدى جمـوع المتلقيـن لأن العقـل الـواعي يسـتطيع الفـرز، والانتقـاء والتمييـز، مؤكدة أن الحفـاظ علـى الخصوصيـات الثقافيـة لمجتمعاتنـا تبـدأ بإعمـال العقـل وخلـق الوعي من خـلال وسـائط التنشـئة الاجتماعيـة المختلفـة ووسـائل الإعـلام المحليـة وغيرهـا مـن الآليات ذات التأثيـر.

زر الذهاب إلى الأعلى