مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير الماضي، ارتفعت حدة المخاوف من انتقال هذا الصراع إلى الفضاء الإلكتروني لدرجة دفعت البعض إلى التحذير من اندلاع حرب عالمية سيبرانية، وثارت شكوك حول ما إذا كانت تلك المعارك التي تستهدف تغيير جغرافية العالم، قد تمتد إلى إحداث تغيير راديكالي في طبيعة الإنترنت العالمية، لا سيما وأن من بين السيناريوهات المطروحة منذ بدء هذه الحرب، استهداف روسيا للكوابل الموجودة في عمق البحر بهدف قطع الإنترنت عن العالم بأسره. وقد عزز من وتيرة تلك المخاوف والتحذيرات ما ذكره الرئيس الأمريكي جو بايدن في 21 مارس الماضي من أن روسيا كانت تفكر في شن هجوم ضد بُنى تحتية دولية حساسة للغاية.
ومما لا شك فيه أن هذا المشهد يدفع نحو تساؤل رئيسي مفاده هل تكون الحروب السيبرانية بديلًا للحرب الفعلية؟ وقد كانت الإجابة عنه محور مقال بعنوان “الحرب لا تزال هي الحرب” نشرته مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأمريكية لبراندون فاليريانو الزميل في معهد كاتو وجامعة مشاة البحرية بالولايات المتحدة، نستعرضه على النحو التالي:
ثقافة المحارب السيبراني وعقيدة الحرب السيبرانية
هل هناك شكل من أشكال السمة الثقافية، أو الروح، أو المثل العليا التي تجمع المحاربين المتشابهين في التفكير والراغبين في تحقيق النصر في الحرب؟ وفي حال طبقنا تلك الأسئلة على الأمن السيبراني، فما هي ثقافة المحارب السيبراني؟ يمكن تعريف الثقافة ببساطة على أنها العادات والممارسات الاجتماعية لمجموعة ما، وهنا يُثار تساؤل آخر ما الممارسات الثقافية التي تحدد وتميز أولئك الذين سيخوضون المعارك الرقمية في المستقبل؟
لسوء الحظ، لا توجد ثقافة حقيقية للمحارب السيبراني، ولكن هناك أيديولوجية تؤمن بالحلول التكنولوجية للمشاكل البشرية، وتزيد من تأثير العمل السيبراني.
يسود توقع بأن تكون الحرب السيبرانية عاملًا يقي من ممارسة الحرب الفعلية، مما يجعل شن الحرب أسهل، لكن الواقع يشهد بعدم إمكانية إزالة أهوال الحرب والتخلي عن ممارسة القتال، فالحرب لن تنقرض أبدًا لأنها تعد حلًّا – وإن كان غير فعّال- لمسألة الخلاف السياسي، أو لتحديد من يحصل على ماذا؟-( أي توزيع المكاسب والخسائر)- ولا يمكن القيام بذلك من خلال أنشطة على الحاسوب.
ومع ذلك، نمت عقيدة المحارب السيبراني بالقوة التغيرية التي تتمتع بها القدرات السيبرانية، على غرار ما حدث من سوابق بشأن الحروب في الماضي، فعلى سبيل المثال تم وصف الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى بأنها عقيدة الهجوم. وأدت الفكرة القائلة بأن العقائد الهجومية تتفوق على العمليات الدفاعية في زيادة الثقة في الخطط الهجومية، والتي اصطدمت بحقيقة حرب الخنادق والمدافع الرشاشة. وتكررت تلك التوقعات مرة أخرى حاليًا، في ظل الاعتقاد بأن تُحول التقنيات ساحة المعركة في أوكرانيا إلى واقع المعارك المتعثرة، وذلك بمساعدة الأسلحة الخفيفة والطائرات دون طيار رخيصة الثمن.
الغرض من الحرب السيبرانية
لا يزال أنصار الحرب السيبرانية يبحثون عن مثال عظيم للنجاح في تلك الحرب، إذ لا يوجد هدف استراتيجي مركزي وراء الحرب السيبرانية، فهي ليست أسلوبًا قسريًا فعالًا أو شكلًا مفيدًا من أشكال التجسس ولكنها أداة للاضطراب. وحتى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أشار إلى ذلك مؤخرًا عندما اشتكى من وقوع “هجمات خطيرة تستهدف المواقع الرسمية للسلطات الروسية”. كما تم تسجيل محاولات اختراق لشبكات شركات روسية رائدة.
وفي الفترة التي سبقت حرب أوكرانيا، كثرت التوقعات بحدوث “صدمة ورعب” دراماتيكي في الفضاء السيبراني، ولم يتخط الأمر “محاولات الاختراق غير القانوني”، بل إن حتى إظهار التنسيق مع العمليات في ساحة المعركة يبدو بعيدًا عن متناول المحاربين السيبرانيين، إذ لم يُظهر تقرير شركة مايكروسوفت حول النشاط السيبراني لروسيا في أوكرانيا التنسيق بين الأنشطة السيبرانية والهجمات التقليدية، فقط لاحظ أن الهجمات السيبرانية تأتي بعد إخفاقات في ساحة المعركة، وهو بالكاد دليل على نشاط إلكتروني تكميلي توقعه الكثيرون.
ويأمل أنصار الحرب السيبرانية أن تحل العمليات السيبرانية عبر كابلات الألياف الضوئية محل قذائف الهاون والقنابل التقليدية، من منطلق اعتقادهم بأن القدرات السيبرانية تزود الدولة بالوسائل لتحقيق أهدافها دون إطلاق رصاصة واحدة، لكن الحقيقة هي أن المهاجمين بالكاد يظهرون تأثيرهم على البنية التحتية الحيوية ضعيفة الحماية.
من جهة أخرى، تسهل القدرات السيبرانية في الغالب التواصل والتنظيم. قد يكون المثال الرئيسي هو نظام “GIS Arta” في أوكرانيا لتوجيه كثافة النيران العسكرية على هدف محدد، حيث تقوم الخوارزميات بتخصيص حجم القوات بناءً على المسافة والجاهزية والقدرة، وبينما يحل نظام “GIS Arta” مشكلة واحدة عن طريق تخصيص القوة بسرعة في ساحة المعركة المتنازع عليها، فإنه يجعل المستخدم أيضًا يعتمد على النظام، مما يخلق نقاط ضعف جديدة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مشكلة العديد من التقنيات تكمن في أنها تخلق مشاكل جديدة أثناء حل تحديات أخرى، لكن السمة الثقافية السائدة للمحارب السيبراني هي صنع المشكلات وحلها بنفس التكنولوجيا.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن أولئك الذين يؤمنون بأيديولوجية الحرب السيبرانية يتوقعون أن تتحول ساحة المعركة من خلال الإنترنت، وهم يفرطون في تعظيم قدرات تلك الأدوات السيبرانية لدرجة تجعلهم يتصورون أنها توفر القدرة للقراصنة الإلكترونيين على إسقاط بلدان عن بُعد.