أدت التطورات التكنولوجية عبر التاريخ إلى اضطرابات هائلة في القوى العاملة، فكان اختراع المطبعة والكهرباء والطائرات والإنترنت نهايةً لحرف ومهن محددة كما عرفناها، لكن المجتمعات والوظائف تكيفت مع هذا التطور وازدهرت في النهاية.
وحتى وقت قريب كان العديد من التقديرات يشير إلى تأثيرات كبرى للذكاء الاصطناعي على مستقبل الوظائف والعمالة البشرية، فوفقًا لشركة ماكينزي، قد تفقد 15% من القوى العاملة العالمية(400 مليون عامل)، وظائفها بسبب الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.
كما ترى دراسة لشركة جوجل أن 61% من الوظائف ستتغير جذريًا بفضل الذكاء الاصطناعي، فيما ستكون 31% من الوظائف بعيدة عن تأثيره، وفقا لمجلة “فوربس” الأمريكية.
لكن الأمر اللافت مؤخرًا أن التنبؤ بأن الذكاء الاصطناعي سيحل محل الوظائف البشرية لم يعد نقاشًا مستقبليًا، إذ يُحذّر الرؤساء التنفيذيون للشركات الكبرى في الولايات المتحدة من مخاطر البطالة، بالتزامن مع بدء شركات التكنولوجيا الكبرى بالفعل تسريحات فعلية للعمالة، وتشير التصريحات المُقلقة العديدة وعمليات التسريح الفعلية للعمال التي صدرت مؤخرًا في الولايات المتحدة إلى أن الأتمتة القائمة على الذكاء الاصطناعي لا تُشير فقط إلى تقدم تكنولوجي، بل إلى صدمة هيكلية في التوظيف.
- توقعات بالقضاء على نصف الوظائف المكتبية في أمريكا
وبحسب تقرير نشرته صحيفة “تشوسون ديلي” الكورية الجنوبية، فإن تسريح العمال أصبح واقعًا ملموسًا، فقد صرح داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة الذكاء الاصطناعي الناشئة “أنثروبيك”، بأنه “في غضون سنة إلى خمس سنوات، قد تختفي نصف الوظائف المكتبية في الولايات المتحدة، ويرتفع معدل البطالة إلى 20%”.
وعقب تصريحاته، بدأ المديرون التنفيذيون للشركات الذين كانوا حذرين سابقًا بشأن قضايا التوظيف في مشاركة تحذيرات مماثلة منخرطين في مشهد تنافسي لعمليات تسريح العمال في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث حذر جيم فارلي، الرئيس التنفيذي لشركة “فورد” خلال مشاركته في مهرجان أسبن للأفكار في الولايات المتحدة، الشهر الماضي، من أن “الذكاء الاصطناعي سيحل حرفيًا محل نصف الوظائف المكتبية في أمريكا”.
كما صرحت ماريان ليك، الرئيسة التنفيذية لبنك جي بي مورغان، خلال الحدث السنوي للمستثمرين في مايو الماضي، بأنه “مع إدخال أدوات الذكاء الاصطناعي، سينخفض عدد موظفي القطاع التشغيلي بنسبة 10% في السنوات المقبلة”.
وأشار آندي جاسي، الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، في مذكرة الشهر الماضي إلى أن “الابتكار التكنولوجي يمكن أن يقلل من القوى العاملة”، مما يشير إلى إمكانية تسريح العمال.
وأعرب جيمس لاينر، الرئيس التنفيذي لمنصة “ثريد أب” للتجارة الإلكترونية في الملابس، عن مخاوفه، قائلًا: “سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تدمير وظائف أكثر بكثير مما يتوقعه الجمهور”.
- وتيرة متسارعة لتسريح العمالة
لم يعد يُنظر إلى تخفيض الوظائف على أنه “احتمال مستقبلي”، بل وُصف بأنه “مخاطر واقعية” يناقشها المسؤولون التنفيذيون في الشركات علنًا. وما كان يُتوقع سابقًا بشأن تسريح الموظفين يتحول الآن إلى إجراءات فعلية، بوتيرة متسارعة.
ففي 20 فبراير الماضي، أعلنت شركة مايكروسوفت العملاقة أنها ستسرح حوالي 9 آلاف موظف، أي ما يعادل 4% من قوتها العاملة العالمية. ويأتي هذا في أعقاب إعادة هيكلة سابقة طالت أكثر من 6 آلاف موظف.
كما كشفت شركة “أمازون” للتجارة الإلكترونية مؤخرًا عن خطط لاستثمار 80 مليار دولار في بناء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي للسنة المالية 2025، مما أدى إلى تفسيرات بأنها استراتيجية لخفض تكاليف العمالة من أجل توسيع استثمارات الذكاء الاصطناعي، إذ تعمل الشركة بشكل خاص على توسيع نطاق أتمتة الذكاء الاصطناعي في الخدمات اللوجستية، وتوقعات المخزون، وتحليل الطلب، مع توقعها أيضًا انخفاضًا في عدد موظفي مكاتبها البالغ عددهم حاليًا 350 ألف موظف من إجمالي 1.5 مليون موظف في الشركة.
ووفقًا لشركة استشارات الموارد البشرية “تشالنجر، جراي آند كريسماس”، فقد بلغ عدد حالات التسريح في شركات التكنولوجيا الأمريكية من يناير إلى مايو من العام الحالي 74700 حالة، بزيادة قدرها 35% مقارنة بالعام السابق.
وأظهر استطلاع حديث أجراه موقع ” Adzuna” للتوظيف، انخفاضًا بنسبة 31.9% في الوظائف المخصصة للخريجين الجدد بعد إطلاق شات “جي بي تي” في نوفمبر 2022، بحسب صحيفة “إندبندنت” البريطانية.
- تقليل كثافة العمالة في الشركات يجذب المستثمرين
ويعكس هذا المناخ تحولًا من موقف حذر إلى “تحذير صريح من البطالة”. ولهذا بدأ المدراء في وادي السيليكون، الذين لطالما أكدوا على كفاءة الذكاء الاصطناعي والتفاؤل التكنولوجي، يعترفون الآن بأن الذكاء الاصطناعي يُقلص الوظائف فعليًا.
فعلى سبيل المثال توقف تطبيق ” دوولينجو-Duolingo” لتعلم اللغات عن توظيف موظفين بعقود للمهام التي يُمكن استبدالها بواسطة الذكاء الاصطناعي. وأصدرت شركة “موديرنا- “Moderna للأدوية تعليمات داخلية لإكمال إطلاق منتجات جديدة دون زيادة عدد الموظفين.
وبهذا لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد “أداة للمساعدة في العمل”، إذ يُشير الرؤساء التنفيذيون علنًا إلى تسريح العمال المتاح بفضل الذكاء الاصطناعي، وتحصل هذه الشركات على تقييمات أعلى من المستثمرين.
- طرق حماية الوظائف
في مواجهة بيئات العمل سريعة التغيير بفعل الذكاء الاصطناعي، يبقى السؤال الأبرز كيف يمكن حماية الوظائف من خطر الإلغاء وإنقاذ الموظفين من التسريح، والإجابة تكمن في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي الجديدة وتوظيفها بشكل تكاملي مع الوظائف، وهو ما يتطلب الاستثمار في التدريب على الذكاء الاصطناعي، وإعادة تأهيل مهارات موظفين، وإعطاء الأولوية للمهارات الشخصية لتعويض أتمتة الوظائف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وأخيرًا الاستمرار في استحداث وظائف جديدة لتعويض أتمتة الوظائف.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي، الذي كان من المتوقع في السابق أن يؤثر فقط على المهام المتكررة البسيطة، يتغلغل الآن في الوظائف المكتبية، والتخطيط، والتسويق، و”العمل القائم على الإدراك”، مما يهز سوق الوظائف نفسه.