استعراض دراسات

العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والشعور بالوحدة

غيّرت التطورات في التكنولوجيا الرقمية خلال العقود الأخيرة طرق بناء العلاقات بين الأشخاص والحفاظ عليها، فمع تنوع وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت لغة التواصل نفسها مزينة بأشكال رقمية جديدة من الرموز الرسومية، ففي عام 2015 اختارت قواميس أكسفورد لأول مرة رمزًا تعبيريًا كلمة للعام.

وبالتزامن مع هذه التغيرات التكنولوجية السريعة والدور الواسع الانتشار للاتصالات الرقمية في المجتمع الحديث، أُثيرت مخاوف بشأن ارتفاع مستويات الشعور بالوحدة بين المراهقين والشباب، وما إذا كانت الحياة على الإنترنت تُسهم في تعزيز تجارب الشباب مع الوحدة.

ويُمثل الأفراد الذين وُلدوا مع مطلع الألفية الجيل الأول الذي نشأ كمواطنين رقميين، علاوة على ذلك، يُلاحظ أن المراهقين والشباب أكثر عرضة للإبلاغ عن شعورهم بالوحدة في كثير من الأحيان مقارنًة بكبار السن، وقد جادل البعض بأن استخدام هذا الجيل لوسائل التواصل الاجتماعي قد يُشجع على أساليب تفاعل سطحية مما يُؤدي إلى الشعور بالوحدة نتيجة لعدم الرضا عن هذه التفاعلات الرقمية.

وفي هذا الإطار، نشرت “حوليات أكاديمية نيويورك للعلوم” في عددها الصادر عام 2025 دراسة بعنوان “استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتجارب عبر الإنترنت والشعور بالوحدة بين الشباب: دراسة جماعية”، أجراها فريق بحثي دولي بقيادة جامعة غرينتش، بالتعاون مع معهد الطب النفسي وعلم النفس وعلم الأعصاب في كلية كينغز لندن، وجامعة ديوك، وجامعة أوسلو، وجامعة كاليفورنيا إيرفين، لدراسة الروابط بين عادات استخدام التكنولوجيا الرقمية والشعور بالوحدة، نستعرضها على النحو التالي:

  • عينة الدراسة

حلل الباحثون بيانات من مجموعة مكونة من 1632 شابًا بالغًا (تتراوح أعمارهم بين 24 و26 عامًا) في المملكة المتحدة، خضعوا لمتابعات استباقية منذ الطفولة، وذلك في إطار دراسة جماعية واسعة النطاق دخلت الآن عقدها الثالث، كان قد أطلقها باحثون في معهد الطب النفسي وعلم النفس وعلم الأعصاب.

وتم جمع البيانات عبر استطلاع رأي إلكتروني في الفترة 2019-2020، مما أتاح المقارنة قبل جائحة “كوفيد-“19 وفي أثنائها.

  • نتائج الدراسة

وقد وجد الباحثون أن الوقت الذي يُقضى في مشاهدة التلفزيون والألعاب وتصفح الإنترنت يرتبط بارتفاع الشعور بالوحدة، بينما لم يرتبط استخدام منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام وإكس بذلك الأمر.

وأفادت الغالبية العظمى (71.4%) من المشاركين بأن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي “لم يُحدث فرقًا” في شعورهم بالوحدة. أما بالنسبة لبقية العينة، فقد توزعت الإجابات بالتساوي تقريبًا بين من يعتقدون أنها جعلتهم “أقل شعورًا بالوحدة” (12.8%) ومن يعتقدون أنها جعلتهم “أكثر شعورًا بالوحدة” (15.9%).

كما وجدوا أن واتساب يرتبط بشكل فريد بانخفاض مستويات الشعور بالوحدة. ومع ذلك، ارتبطت مواقع التواصل الاجتماعي التي تُشجع على “الاستهلاك السلبي” مثل يوتيوب وريديت بارتفاع الشعور بالوحدة.

وكانت هذه الأنماط للعلاقة بين منصات التواصل الاجتماعي والشعور بالوحدة هي نفسها قبل جائحة كوفيد-19 وفي أثنائها. كما ظلت هذه الارتباطات قائمة بغض النظر عن أعراض الاكتئاب والقلق السابقة لدى المشاركين في الدراسة، مما يشير إلى أن هذه الحالات الصحية النفسية لم تُفسر هذه الروابط.

وعند دراسة طرق مختلفة للتفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعي، لم يرتبط النشر النشط أو التمرير السلبي بالوحدة ومع ذلك ارتبط الاستخدام القهري أو الإشكالي للتكنولوجيا بزيادة الشعور بالوحدة

علاوة على ذلك، أشار الأفراد الذين أفادوا باستخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي لتحسين صحتهم النفسية أو الجسدية بمشاعر أكبر من الوحدة.

بعبارة أخرى، وجد الباحثون أن الاستخدام القهري للتكنولوجيا الرقمية أو التعرض للتنمر الإلكتروني يرتبط بارتفاع مستويات الشعور بالوحدة. وتشير النتائج إلى أن طبيعة تجارب التكنولوجيا الرقمية هي التي ترتبط بالشعور بالوحدة، وليس التكنولوجيا ككل.

  • اختلافات دقيقة بين وسائل التواصل ورفاهية الشباب

من جهته، رأى الدكتور تيموثي ماثيوز، المحاضر في علم النفس بجامعة غرينتش والمؤلف الرئيسي للدراسة أن هناك جدلا مستمرا حول آثار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الشباب وأفضل السبل لتنظيمها، مشيرًا إلى أن الدراسة تُظهر وجود اختلافات دقيقة بين وسائل التواصل الاجتماعي ورفاهية الشباب، وتحديدًا الشعور بالوحدة.

واعتبر ماثيوز أن التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي ككيانٍ واحد يخفي الاختلافات بين مختلف أنواع المنصات، بالإضافة إلى اختلافات عادات الأفراد الرقمية وأسباب استخدامهم للمنصات.

بدورها، أشارت الأستاذة هيلين فيشر، أستاذة علم النفس التنموي في المعهد الدولي للطب النفسي وعلم النفس الاجتماعي والمؤلفة المشاركة للدراسة إلى أنه ليس من الواضح ما إذا كانت الوحدة تؤدي إلى زيادة استخدام الوسائط الرقمية، أو ما إذا كان استخدامها يؤدي إلى الشعور بالوحدة، إلا أن نتائج الدراسة تؤكد أن التكنولوجيا الرقمية قد تكون سلاحًا ذا حدين للشباب البالغين المعرضين للخطر.

ونوهت فيشر بأنه على الرغم من أننا وجدنا أن الأفراد الذين يشعرون بالوحدة كانوا أكثر ميلًا لقضاء وقتهم على الإنترنت بحثًا عن موارد لدعم صحتهم النفسية والجسدية، إلا أنهم كانوا أيضًا أكثر عرضة للإبلاغ عن استخدامهم للتكنولوجيا الرقمية بطرق غير تكيفية وقهرية تتداخل مع حياتهم اليومية، وبالتالي يمكنهم الاستفادة من التدخلات الموجهة.

وختامًا، خلصت الدراسة إلى أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في حد ذاته وتكراره، لا يشيران على ما يبدو إلى زيادة خطر الشعور بالوحدة، بل قد تُتيح العديد من المنصات الشائعة فرصًا لبناء علاقات اجتماعية والحفاظ عليها.

وفي الوقت نفسه، يبدو أن بعض المنصات الأخرى، مثل ريديت، تتمتع بخصائص ينجذب إليها الأشخاص الذين يعانون من الوحدة بالفعل. ويتطلب الأمر إجراء دراسات مطولة وتجريبية لاختبار الروابط السببية بين استخدام منصات محددة وسمات وتجارب الشعور بالوحدة.

زر الذهاب إلى الأعلى