شكلت زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى العاصمة السورية دمشق، أحدث التحركات الدبلوماسية السعودية لدعم سوريا، بعدما قاد سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، جهود إعادة دمج سوريا في المجتمع الدولي ورفع العقوبات الغربية عنها، والتي تكللت بإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال زيارته التاريخية للرياض رفع العقوبات الأمريكية عن دمشق في خطوة سرعان ما لحق بها الاتحاد الأوروبي.
وتعكس تلك الجهود مجموعة من مرتكزات السياسة الخارجية للمملكة تجاه دمشق، حيث حرصها على الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومؤسسات الدولة، والإبقاء على سوريا في الحاضنة العربية الطبيعية وإبعادها عن أي تجاذبات وصراعات نفوذ بين القوى الإقليمية، وكذلك تحقيق الأمن والاستقرار بما يحول دون عودة تنظيم “داعش” الإرهابي بجانب تعزيز القدرة على التصدي للجرائم العابرة للحدود لا سيما تجارة المواد المخدرة “الكبتاجون” التي ازدهرت في سوريا خلال السنوات الأخيرة في ظل الحرب الأهلية.
ومن بين تلك الأولويات كذلك وقف التغول الإسرائيلي في الأراضي السورية فمنذ الإطاحة بنظام الرئيس السابق بشار الأسد احتلت إسرائيل المزيد من الأراضي في هضبة الجولان السورية بما فيها المنطقة العازلة وجبل الشيخ الاستراتيجي معلنة من جانب واحد انهيار اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، كما شنت العديد من الغارات الجوية على مناطق سورية مستهدفة مواقع للجيش السوري ومخازن أسلحته.
- الطابع الاقتصادي للزيارة
تعتبر زيارة الأمير فيصل بن فرحان إلى دمشق هي الثانية منذ الإطاحة بنظام الأسد بعد زيارة أولى جرت في 24 يناير الماضي، وقد غلب على الزيارة الثانية الطابع الاقتصادي حيث رافق وزير الخارجية وفد اقتصادي رفيع المستوى بحث مع الجانب السوري سبل العمل المشترك بما يسهم في دعم اقتصاد سوريا، ويعزز من بناء المؤسسات الحكومية فيها، ويحقق تطلعات الشعب السوري الشقيق.
وانعكس هذا الطابع الغالب على الزيارة في مخرجاتها، إذ أعلن الأمير فيصل بن فرحان عن تقديم السعودية وقطر دعمًا ماليًا مشتركًا لموظفي القطاع العام في سوريا لمدة ثلاثة أشهر، لتمكين الحكومة السورية من دفع رواتب موظفيها. ويجسد هذا التحرك السعودي القطري استمرارية للتنسيق بين البلدين بشأن جهود دعم سوريا، إذ قامت الرياض والدوحة بسداد المتأخرات المستحقّة على دمشق للبنك الدولي، والتي بلغت نحو 15.5 مليون دولار، مما يسهل من عملية إعادة الاندماج الاقتصادي والمالي السوري مع المجتمع الدولي لا سيما بعدما عين صندوق النقد الدولي الخبير الاقتصادي رون فان رودن رئيسًا لبعثته إلى سوريا في أبريل الماضي، واعتزام الصندوق إرسال بعثة إلى العاصمة السورية بهدف تقييم الأوضاع المالية والاقتصادية هناك عن كثب والاطلاع على واقع المؤسسات السورية من أجل تحديد حاجاتها والدعم التقني المطلوب.
وبالإضافة إلى الدعم المالي السعودي للحكومة السورية، سيزور رجال أعمال سعوديون سوريا خلال الأيام المقبلة لمناقشة الاستثمارات في مجالات الطاقة والزراعة والبنية التحتية وغيرها من القطاعات الحيوية، مما يمهد لمرحلة تتدفق فيها الاستثمارات السعودية إلى سوريا وتتعزز فيها العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
- زيارة المسجد الأموي
جسدت زيارة وزير الخارجية مع نظيره السوري أسعد الشيباني للمسجد الأموي في دمشق، دلالة رمزية، إذ تُبرز عمق ارتباط سوريا بماضيها المشرق وتاريخها الإسلامي وحاضرها الجديد ومستقبلها الذي يتشكل، حيث طوت حقبة نظام بشار الأسد الذي جعل منها حليفا لإيران وحزب الله اللبناني، وعادت سوريا إلى مكانتها الطبيعية والتاريخية كدولة رئيسية تمثل أحد أعمدة النظام الإقليمي العربي.
وكان مشهد إمامة وزير الخارجية للوفد السعودي ولنظيره السوري في الصلاة ووقوفه في محراب المسجد العريق، معبرًا عن عمق العلاقات بين البلدين، ومرسخًا لهوية جامعة، وتأكيدًا على قيادة المملكة لجهود عودة سوريا إلى الحاضنة العربية، والتي كتبت نهاية طموحات قوى إقليمية لطالما سعت إلى الهيمنة على سوريا والتحكم في قرارها والسيطرة على ثروات ومقدرات شعبها.
- مساندة سوريا وإدماجها في المجتمع الدولي
لقد بذلت المملكة العربية السعودية منذ الثامن من ديسمبر الماضي مع انهيار نظام الأسد، جهدًا لا ينقطع في دعم دمشق سياسيًا أو اقتصاديًا أو إنسانيًا وإغاثيًا، إذ أكدت وقوفها إلى جانب الشعب السوري وخياراته في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ بلاده، وأطلقت عبر مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية جسرًا جويًا وبريًا إغاثيًا يحمل أطنانًا من المساعدات إلى الأشقاء في سوريا.
وقادت جهودًا دبلوماسية مكثفة لإعادة إدماج سوريا في المجتمع الدولي ورفع العقوبات عنها، حيث دعا سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، الرئيس الأمريكي إلى رفع العقوبات عن سوريا وهو ما استجاب إليه ترامب، كما عقد سموه لقاء ثلاثيًا في الرياض مع ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع، والذي يعد أول لقاء بين رئيس أمريكي ورئيس سوري منذ 25 عامًا.
وكان هذا اللقاء مفتاحًا لمسار التطبيع بين الولايات المتحدة وسوريا حيث أعقبه لقاء بين وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو ونظيره السوري في مدينة أنطاليا التركية، ثم إعلان واشنطن تعيين سفيرها لدى تركيا توماس براك مبعوثا أمريكيًا إلى سوريا، الذي زار بدوره دمشق قبل أيام حيث تم رفع العلم الأمريكي بمقر إقامته في دلالة رمزية لعهد جديد آخذ في الظهور للعلاقات الأمريكية السورية، منها توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في مجال الطاقة بقيمة سبعة مليارات دولار كأولى ثمار رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية.