تعد مسألة التنظير من أبرز التحديات والإشكاليات التي تواجهها علوم الإعلام والاتصال منذ تأسيسها وظهورها كعلم مستقل ضمن العلوم الإنسانية والاجتماعية، فرغم التراث النظري المتراكم منذ حوالي قرن من الزمن فإن التنظير في علوم الإعلام والاتصال لا يواكب التطور السريع الذي تشهده التكنولوجيات الاتصالية وما تبعها من تعقد للظواهر التي أفرزتها الوسائط الجديدة للبيئة الرقمية، وهو ما يتطلب العمل على تأسيس لمقاربات نظرية جديدة تتناسب وخصوصية المجتمعات المعاصرة.
والملاحظ أن هناك سعيًا من جانب الباحثين ومراكز الدراسات لتأسيس تراث نظري يعكس خصوصية البيئة الرقمية، إلا أن هذه المحاولات التنظيرية والافتراضات التي قدمها الباحثون لا تزال ترتبط بالنظريات التقليدية وبأدواتها المنهجية، وبالتالي فإن الدراسات الإعلامية المعاصرة ليست سوى امتداد للتراث النظري في الدراسات والبحوث الإعلامية التقليدية، وهو ما يبين الصعوبات في استحداث أطر نظرية ومقاربات منهجية خاصة بالإعلام الجديد.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة رقمنة للدراسات الإعلامية والاتصالية في عددها الصادر في ديسمبر 2023، دراسة بعنوان “التموقعات الإبستيمولوجية في دراسات الجمهور والوسائط الجديدة- قراءة في رهانات المأسسة والتنظير” من إعداد دراجي بوطي الباحث بجامعة الشهيد حمه لخضر- الوادي بالجزائر، نستعرضها على النحو التالي:
- نظريات خاصة بدراسة البيئة الرقمية والوسائط الجديدة
حاول كثير من الباحثين في المجال الإعلامي تقديم كثير من النظريات العلمية والمقاربات لدراسة الظاهرة الاتصالية في البيئة الرقمية، ومن خلال القراءة المتعمقة لهذه النظريات نجد أنها اتسمت بطابعها التقني الخالص أي أنها بحثت الظاهرة الإعلامية من منظور تكنولوجي باعتبار التكنولوجيا وتطبيقاتها بعدًا أساسيًا للإعلام الجديد، وذلك على حساب عوامل أخرى تسهم في تشكيل الظاهرة الإعلامية والاتصالية بشكل عام، كما يلاحظ أن النظريات الاتصالية الخاصة بالإنترنت والبيئة الرقمية لم تتطور بالشكل الكافي، ربما يعود ذلك إلى اتجاه الباحثين إلى تطبيق النظريات الإعلامية القائمة على الوسيلة من جانب، وتفتت العمل البحثي وتركيزه على دراسة خصائصهما المتميزة كالتفاعلية والنصية الفائقة والوسائط المتعددة وتأثيرها واستخدامها من جانب آخر، وهناك الكثير من المحاولات التي حاول من خلالها الباحثون استحداث نظريات خاصة بدراسة البيئة الرقمية والوسائط الجديدة وأهم هذه النظريات:
- نظرية التشكل العضوي لوسائل الإعلام (التحول الرقمي):
تعد من أهم النظريات المستحدثة في الإعلام الجديد، وتكاد تكون النظرية الوحيدة التي اتفق عليها الباحثون أنها نظرية في البيئة الرقمية، وتفسر هذه النظرية التي طورها “فيلدر” عام 1997 العلاقة القائمة بين وسائل الإعلام الجديدة ووسائل الإعلام التقليدية.
وتفترض هذه النظرية أن وسائل الإعلام الموجودة اليوم هي نتيجة لاندماجات لا تعد ولا تحصى بين وسائل الإعلام كانت تحصل بشكل متكرر طوال الوقت، ووفقا لهذا الفهم كان من الطبيعي أن تطور محطات التلفزيون مواقع لها على شبكة الإنترنت، تنشر من خلالها مقاطع الفيديو أو تقدم من خلالها البث التلفزيوني المباشر لقطاعات أخرى من الجمهور، وهذا الأمر ينطبق أيضًا على الإذاعات والصحف الإلكترونية التي أصبح لها مواقع تفاعلية متعددة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ودعمت البحوث القليلة التي تناولت هذه النظرية الأفكار الرئيسية فيها، وطورت مفاهيم مثل التحول الرقمي، ومفهوم إحلال وسائل الإعلام والإحلال الوقتي والإحلال الوظيفي.
- نظرية الكبسة الواحدة
تشكل هذه النظرية النظرة المستجدة للجماهير التي كان ينظر إليها بالتشتت والسلبية في الإعلام التقليدي، فبفضل السمات الجديدة للبيئة الرقمية والوسائط الجديدة أصبحت الجماهير أكثر نشاطًا وقدرة على صناعة المحتويات والاختيار بين المحتويات المعروضة عليها.
وتشير “آنا أيفرت” و”جون كالدويل” إلى أن الخصائص التي توفرها المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث المدمجة فيها تسمح للجمهور بالوصول إلى أي محتوى بكبسة زر واحدة، وذلك بدلًا من التعرض لمحتويات بعينها كانت تفرضها وسائل الإعلام التقليدية، ويؤكد الباحثان أن هذه النظرية تعتبر مفتاحًا رئيسيًا لفهم مجمل طرق إنتاج واستهلاك المواد والخطابات المتناقلة عبر الإعلام الجديد، وذلك عن طريق خصائص: المشاركة، والانتقاء، والتفاعلية، والتخصيص.
- نظرية المجال العام
يرى بعض الباحثين والأكاديميين أن الأسس النظرية للإعلام الإلكتروني مبنية على النظرية التي صاغها الفيلسوف الألماني يورجن هبرماس، والتي تسمى بنظرية المجال العام، حيث يرون أن الوسائط الجديدة شكلت الفضاء العمومي الافتراضي، باعتباره أحد فضاءات المجال العام، وهو في نفس الوقت يعد فضاءً بديلًا وموازيًا له، ويتميز هذا الفضاء الافتراضي بإعادة تشكيل الحدود بين العام والخاص من خلال تفاعل المستخدمين عبر التدوين والصورة واللغة، فمواقع التواصل الاجتماعي أصبحت تمثل فضاءات لبناء الهوية الفردية واستعراض الذات في المجال العام، وظهور الجماعات الافتراضية وأشكال جديدة من النقاش والتعبير عن الأفكار والتفاعل الاجتماعي الافتراضي، وتحول الجمهور إلى مبتكر للمضامين ومنتج لها، وهذه المضامين تتميز في كثير من الأحيان بالإبداع والابتكار، وبروز نخب جديدة من المدونين والمؤثرين الاجتماعيين والفنانين عبر الوسائط الرقمية خاصة من فئة الشباب وفي مختلف المجالات.
- نظرية التلاقي
تعد هذه النظرية من أهم الأطر المستحدثة التي تسعى لتقديم فهم كامل ومخطط لظاهرة الإعلام الجديد، وهي عبارة عن خلاصة لأهم إسهامات هنري جنكيز وجون بافليك وفريديريك كيتلر، ويدور محتوى النظرية حول جملة من الافتراضات الرئيسية، أهمها أن هناك تغييرات جسيمة تحدثها تكنولوجيات الإعلام.
- نتائج الدراسة
توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج تمثلت في التالي:
- إن الدراسات والبحوث الإعلامية والاتصالية في البيئة الرقمية لا تزال في بدايتها، فالمرحلة التي نعيشها الآن تعد مرحلة انتقالية على الصعيدين النظري والمنهجي، فأغلب الدراسات الاتصالية ما زالت تعتمد على النظريات الكلاسيكية الكبرى والمناهج التقليدية في مقاربة ظواهر الإعلام الجديد من جهة، وارتباط النظريات المستحدثة وفرضياتها بالنظريات التقليدية من جهة أخرى.
- إن دراسة الجمهور ومستخدمي الوسائط الجديدة كحقل بحثي من الدراسات الإعلامية والاتصالية لا يزال في طور التشكل ولا يزال الباحثون يحاولون إسقاط المقاربات النظرية التقليدية في دراسة جمهور البيئة الرقمية، ومحاولة صياغة نظريات وفرضيات محددة يمكن من خلالها دراسة مستخدمي الوسائط الجديدة.
- التأكيد على أن استحداث مقاربات نظرية ومنهجية لدراسة مستخدمي الوسائط الجديدة لا يمكن أن يكون معزولًا عن المداخل النظرية في العلوم الأخرى كعلم الاجتماع وعلم النفس؛ نظرًا لتعقد وتداخل العوامل والمتغيرات التي تشترك في تكوين الظواهر الاتصالية في البيئة الرقمية.
- إن تطور البحوث في دراسات جمهور الوسائط الجديدة يبقى مرتبطًا بجهود الباحثين في الجامعات والمعاهد، ومدى نجاح الجهود المبذولة في تطوير نظريات تتناسب وسمات الظواهر الاتصالية الجديدة، وخصائص المجتمع خاصة في المجتمعات العربية، في وقت لا تزال الدراسات الاتصالية في الوطن العربي تعتمد على النظريات الغربية لمقاربة القضايا والمشكلات الاجتماعية والظواهر الاتصالية في البيئة العربية.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن دراسات الجمهور في البيئة الرقمية كحقل بحثي لا تزال في بداياتها، وفي طور التشكل ما يفسر اعتماد هذه الدراسات على المقاربات التقليدية في معالجة الظواهر الاتصالية الراهنة نظريًا ومنهجيًا، بجانب ارتكاز المحاولات التنظيرية الجديدة على المقاربات الكلاسيكية والمداخل النظرية المستمدة من العلوم الأخرى.