تعد نظرية الاستخدامات والإشباعات من بين أهم النظريات التقليدية المفسرة للظواهر الإعلامية، حيث شاع استخدامها في البحوث والدراسات الإعلامية منذ ظهورها في أربعينيات القرن الماضي، ومع تطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال وظهور ما يسمى بالميديا الجديدة أو البيئة الاتصالية الجديدة لم يعزف الباحثون في علوم الإعلام والاتصال عن استخدام هذه النظرية لفهم ما الذي يفعله الجمهور بوسائل الإعلام في البيئة الرقمية، وما الذي تلبيه له من رغبات واحتياجات وما هي الدوافع التي تجعل المستخدم يلجأ إلى استخدام وسيلة معينة دون أخرى.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة رقمنة للدراسات الإعلامية والاتصالية في عددها الصادر في ديسمبر 2023، دراسة بعنوان “نظرية الاستخدامات والإشباعات في الميديا الجديدة محاكاة أم مواكبة؟ (مدخل نظري)” من إعداد الدكتور بن معزوز حميدة من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية -قسنطينة، والدكتور عرقوب نورة في جامعة الجزائر3.
- تطبيق نظرية الاستخدامات والإشباعات على الميديا الجديدة
في ظل التحول الذي طرأ على البيئة الإعلامية فإن توظيف نظرية الاستخدامات والإشباعات لفهم البيئة الاتصالية الجديدة طرح عدة تساؤلات وإشكاليات حول توظيفها ما إذا كان يحاكي ويتواءم مع الظواهر الإعلامية في الميديا الجديدة أم أنها مجرد مواكبة للتطور الحاصل في وسائل الإعلام، وأن فروض هذه النظرية لم تعد تتواءم مع مستخدمي وسائل الإعلام في البيئة الرقمية الجديدة، وفي هذا الصدد نرصد اتجاهين من الباحثين:
- الاتجاه الأول:
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن توظيف نظرية الاستخدامات والإشباعات يلائم ويتواءم مع البيئة الرقمية. وأن هذه النظرية تسهم في فهم ومعالجة الإشكاليات المعاصرة التي تطرحها الميديا الجديدة، حيث لقي اعتماد فرضيات نظرية الاستخدامات والإشباعات الذي نظر لوسائل الاتصال التقليدية استحسانا من جانب الباحثين في مجال الإعلام والاتصال واعتبروها مناسبة لتطبيقها على الإعلام الجديد، فحسب الباحث راي بيرن فإن شكل التفاعلية على مستوى شبكة الإنترنت يتمتع بمستوى أكثر قوة وارتفاع من تلك على مستوى وسائل الإعلام التقليدية، وكون الفرد قصد في تعرضه وتصفحه لمواقع معينة لإشباع حاجاته، فهي تعتبر مناسبة للدراسات الحالية حول شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد عامة.
كما أن بيئة الميديا الجديدة تفرض تفاعلًا نشطًا ومستمرًا من مستخدميها حيث تتيح لهم ممارسة خيار التحكم في اختيار المواقع والمحتوى، وإعادة زيارة الموقع وحفظ وتنزيل المحتوى وغير ذلك من خيارات التحكم، وبذلك تعتبر نظرية الاستخدامات والإشباعات هي المدخل الأكثر ملاءمة لدراسة استخدام الأفراد للبيئة الرقمية، حيث إن الكثير من نظريات التأثير لم تتوسع لمواكبة التغيرات، وهذا ما جعل نظريات الاستخدامات والإشباعات تتصدر الكثير من البحوث التي تدرس استخدام شبكة الإنترنت باعتبار أن الدخول لشبكة الإنترنت أحد بدائل الاستخدام التي يختارها الفرد لتلبية حاجاته ورغباته، وذلك لسهولة تطبيق الفروض الخاصة بنظرية الاستخدامات والإشباعات في هذه البحوث والدراسات.
ويرى محمد عبد الحميد في كتابه نظريات الإعلام واتجاهات التأثير أنه إذا كانت فروض النظرية تشير إلى نشاط جمهور وسائل الإعلام والاستخدام الموجه لتحقيق أهداف معينة، فإن فئات جمهور مستخدمي الشبكة أكثر نشاطًا ومشاركة في العملية الاتصالية بتأثير التفاعلية التي يتميز بها الاتصال الرقمي، وبالتالي فإننا نتوقع أن يتخذ الفرد قراره بالاستخدام عن وعي كامل بالحاجات ومدى إشباعها من استخدام الاتصال الرقمي مقارنة بوسائل الإعلام أو المصادر الأخرى.
- الاتجاه الثاني:
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن توظيف النظريات التقليدية عمومًا في دراسة الويب لا يلائم بيئة الإعلام الجديد، ولا بد من تطويرها وتحسينها أو استحداث نظريات جديدة تتلاءم وبيئة الويب، حيث يؤكد كل من كيم سونغتاي ودافيد ويفر أن الحاجة إلى تحسين النظريات التقليدية بما يتلاءم مع الميديا الجديدة من معطيات بالقول بأن نظريات الميديا التقليدية يجب أن يعاد صياغتها لتتلاءم والمعطيات الجديدة لتمدد شبكة الإنترنت في الحياة الاجتماعية وإعادة الصياغة يجب أن تشمل كذلك أدوات البحث الإمبريقي والتأويلي وكذلك إجراء مقارنات بين النظريات لاختيار الأنسب منها لتفسير المتغيرات، ويخص القول الدكتور نصر الدين العياشي على وجه التحديد نظرية الاستخدامات والإشباعات بأنها تبدو عاجزة عن الإلمام بالظاهرة الإعلامية والاتصالية المعقدة في بيئة الويب والغوص في عمقها، فالحاجة العلمية حسب نظره لم تعد قائمة لمعرفة هل الميديا الجديدة تشبع حجة الناس للإعلام في ظل توافر الأخبار والمعلومات في المجتمعات المعاصرة، بل أصبحت تملي على الباحثين الانشغال بالكيفية التي ينتقي بها الناس الأخبار والاهتمام بأساليبهم الخاصة في التأكد من مصداقيتها في ظل تأخر أو عجز الكثير من وسائل الإعلام الكلاسيكية ومواقع الشبكات الاجتماعية عن محاربة الأخبار المزيفة من جهة وضعف الكفاءة التقنية من جهة أخرى، كما أن استخدام مواقع الشبكات الاجتماعية يستلزم إدارة الهوية الرقمية، ولكل مستخدم استراتيجيته في ذلك، ونظرية الاستخدامات والإشباعات لا تستطيع الأخذ بيد الباحثين للكشف عن هذه الاستراتيجية.
وإذا كان من أهداف نظرية الاستخدامات والإشباعات التعرف على استخدام الأفراد لوسائل الاتصال على اعتبار أن الجمهور نشيط ويستطيع أن يختار ويستخدم الوسائل التي تشبع حاجاته وتوقعاته وأن السؤال الذي واظبت على الإجابة عنه طيلة نصف قرن والمتمثل في: ماذا يفعل الجمهور بوسائل الإعلام؟ لم يعد يحظى بالأولوية لأن الجمهور يتجه تدريجيًا لأن يكون شريكًا في منتجات الميديا، وأن ما يقوم به أصبح مرئيًا في مختلف المنصات الرقمية ويمكن ملاحظته وأن السؤال المحوري الذي يتطلب إجابة وافية عنه يتمثل في: ما المعاني التي يمنحها مستخدمو مواقع الشبكات الاجتماعية لما يقومون به في مختلف الشاشات؟
- نتائج الدراسة
توصلت الدراسة إلى عدد من النتائج من أبرزها:
- جمهور الميديا الجديدة جمهور نشط يتفاعل مع المضامين الإعلامية ويساهم في إنتاجها ويود مشاركتها مع الآخرين، لكنه جمهور قلق ومستعجل يبحث عن المعلومات النوعية بأقل جهد وبأسرع وقت ويحبذ المحتويات المشخصنة.
- من أولويات الميديا الجديدة إشباع حاجات الفرد الاتصالية وذلك بتوفير وسائط اتصالية تفاعلية، كما تدعم دوره الاجتماعي من خلال مختلف الشبكات الاجتماعية التي تحقق للفرد إمكانية التواصل مع الغير، وتعزز لديه روح الانتماء.
- تلبي الميديا الجديدة حاجات الأفراد المعرفية والإعلامية من خلال إتاحتها لخلفيات عن الأحداث والوقائع.
- فروض نظرية الاستخدامات والإشباعات مناسبة وملائمة لدراسة بحوث الإعلام الجديد.
- تؤكد الدراسات أنه رغم قدم مدخل الاستخدامات والإشباعات إلا أن مجال البحث في الإعلام الجديد لا يزال يعتمد عليه.
- توصيات الدراسة
قدمت الدراسة سلسلة من التوصيات تمثلت في ضرورة توسيع الاهتمام بدراسة النظريات التقليدية وتبيان مدى ملاءمتها لدراسة ظواهر الميديا الجديدة، وإجراء بحوث لمعرفة خصائص الجمهور في ظل البيئة الرقمية الجديدة وتوحيد الرؤى حول أهم النظريات التي باستطاعتها دراسة ومعالجة ظواهر الميديا الجديدة سواء التقليدية أو المستحدثة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن إشباع حاجة الفرد الاتصالية من أولويات الإعلام الجديد، الذي وفر وسائط اتصالية تفاعلية كثيرة كالبريد الإلكتروني والمنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، حتى تمكن الجمهور من التواصل وتبادل الآراء والأفكار، وتسمح لهم أيضًا بإنتاج مواد إعلامية ونشرها ليحققوا ذاتهم، فهي تشبع لهم حاجة اتصالية كما تشبع لهم حاجات اجتماعية عبر التفاعل مع الآخر.