في مؤشر واضح على تصاعد المخاطر جراء الأزمات المركّبة التي تضرب لبنان من فراغ سياسي واضطراب أمني وانهيار اقتصادي وعدالة مُسيسة، بادرت دول عدة عربية وغربية خلال الأيام القليلة الماضية إما إلى إصدار تحذيرات من السفر إلى لبنان أو دعوات لمغادرة رعاياها أو إصدار نصائح وإرشادات بتجنب مناطق الخطر على أراضي الدولة اللبنانية، وذلك على وقع اشتباكات دامية بالأسلحة الثقيلة في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين بمدينة صيدا جنوب لبنان، بين حركة فتح وفصيل متشدد والتي خلفت 13 قتيلًا وأكثر من 60 جريحًا.
وقد دفعت تلك الأوضاع ألمانيا لتحذير مواطنيها من السفر إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان ومناطق أخرى. وحذت بريطانيا حذوها إذ نصحت مواطنيها بعدم السفر “إلا للضرورة” إلى مناطق جنوب لبنان. كما حذرت السفارة السعودية في بيان مواطنيها من الوجود والاقتراب من المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة، وطالبتهم بسرعة مغادرة الأراضي اللبنانية، مشددة على أهمية التقيد بقرار منع سفر السعوديين إلى لبنان، وذلك في تحرك استباقي يعكس حرص المملكة على سلامة أبنائها في الخارج. وعلى ذات النهج، دعت الكويت رعاياها في لبنان إلى التزام الحيطة والحذر والابتعاد عن مواقع الاضطرابات الأمنية في بعض المناطق والتقيد بالتعليمات الصادرة عن السلطات المحلية المختصة.
وإزاء تلك التطورات سارعت حكومة تصريف الأعمال اللبنانية لإصدار تصريحات تؤكد أن الوضع الأمني في البلاد لا يستدعي القلق، بموازاة تكثيف الاتصالات الخارجية لطمأنة الدول على رعاياها؛ لكن واقع الحال يشير إلى أن ما يمر به لبنان المأزوم من مخاطر أعمق بكثير من أن تحتويه مجرد تصريحات سياسية أو اتصالات دبلوماسية، فكل الأزمات التي يتعرض لها لبنان عرض لمرض الطائفية التي تضرب جذور الدولة اللبنانية، وأدى لتشويه مؤسساتها وتقويض سلطتها لمصلحة توازنات وارتهانات خارجية كانت وما زالت مُعطلة لا مُيسرة لمصالح الوطن والمواطن اللبناني وهو ما انعكس في مظاهر عدة نستعرضها على النحو التالي:
- الفراغ السياسي
يعتبر الشغور الرئاسي والفراغ الحكومي حيث الاعتماد على حكومة تصريف أعمال قد تمتد لشهور بل وأحيانًا سنوات سمة مميزة للمشهد السياسي اللبناني، فمنذ 31 أكتوبر 2022 يشهد لبنان فراغًا رئاسيًا مع انتهاء ولاية الرئيس السابق العماد ميشال عون والذي جاء إلى السلطة في عام 2016 بعد أطول فترة شغور رئاسي في تاريخ لبنان (29 شهرا)، عندما انتهت ولاية الرئيس الأسبق ميشال سليمان. ولم ينجح البرلمان رغم عقده 12 جلسة لانتخاب رئيس جديد خلفا لعون في إتمام تلك المهمة بسبب الخلافات والصراعات السياسية التي تحول دون التوافق على مرشح لشغل المنصب الشاغر منذ أكثر من 9 أشهر. أما عن الحكومة فالوضع أكثر سوءا فمنذ تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة في يونيو 2022 لم يتمكن من إنجاز المهمة في ظل خلافات مع عون انتهت بتكليف ميقاتي بتصريف الأعمال، وهو الوضع الذي استمر حتى بعد انتهاء ولاية الرئيس.
ومما لا شك فيه، يؤثر هذا الفراغ في السلطة بالسلب على الدولة اللبنانية، فعلى سبيل المثال وليس الحصر يجعل من الصعب للغاية أن تحصل على قروض ومساعدات دولية تشتد الحاجة إليها حاليًا، كما يصيب دولاب العمل في الدولة بحالة من الشلل.
- الاضطراب الأمني
يُشكل الاضطراب الأمني وجهًا آخر أكثر خطورة للفراغ الحكومي والتوتر السياسي وتراخي قبضة أجهزة الدولة ما يجعل لبنان ساحة مفتوحة ومرتعًا للأنشطة الإجرامية وغير المشروعة، مثل تجارة المواد المخدرة وعلى رأسها “الكبتاجون”، حيث تؤكد تقارير دولية انخراط جماعة حزب الله في هذه التجارة، أو عصابات تستهدف الرعايا الأجانب بخطفهم ومطالبة بفدية وهو ما حدث مع مواطن سعودي في مايو الماضي، حيث تم تحريره بعد اختطافه من بيروت.
هذا بجانب الانفلات الأمني الناجم عن عدم حصر السلاح في يد الدولة ووجود بؤر ومعاقل في مختلف أنحاء لبنان تضم تنظيمات وجماعات مسلحة بأسلحة ثقيلة، سواء أكان حزب الله في الضاحية الجنوبية والتنظيمات المتطرفة في طرابلس والفصائل والجماعات المسلحة في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في صيدا، فذلك الانتشار الواسع للسلاح بمختلف أنواعه (الخفيف والثقيل) بمثابة قنابل موقوتة ووقود لحروب أهلية قد تشتعل في أي لحظة.
- الانهيار الاقتصادي
كان من الطبيعي في ظل “هشاشة الدولة” في لبنان أن تواجه عثرات اقتصادية يغذيها الفساد وغياب المساءلة والشفافية وعدم وجود بيئة مواتية جاذبة للاستثمار، ويضاعف من حدتها أزمات عالمية خلال السنوات الأخيرة كوباء فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” والحرب الروسية الأوكرانية.
وقد أدت الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان التي وصفها البنك الدولي بأنها تُصنّف من بين أشدّ عشر أزمات على مستوى العالم، وربما من بين الثلاث الأسوأ منذ منتصف القرن التاسع عشر، إلى دفع ثلاثة أرباع سكان لبنان إلى براثن الفقر، وارتفاع معدلات التضخم وانهيار العملة الذي قضى على مدخرات اللبنانيين.
وتعددت مظاهر الانهيار الاقتصادي في لبنان بين انقطاع في الخدمات الأساسية كالكهرباء ونقص في السلع الغذائية كالخبز، وتصاعد حوادث اقتحام البنوك الناجمة عن غضب المودعين لعدم تمكنهم من الحصول على أموالهم وسط تقارير محلية ودولية أشارت إلى تحويل ملايين الدولارات من لبنان إلى الخارج.
- العدالة المسيسة
لم تكن السلطة القضائية في لبنان بمعزل عن التجاذبات والصراعات والاستقطاب السياسي، إذ طغت السياسة على سيف العدالة، وشوهت وعطلت التحقيقات في قضايا كبرى مثل قضية انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في الرابع من أغسطس عام 2020، والتي يمكن اعتبارها قضية كاشفة لإهمال المسؤولين وانحرافاتهم وتحالف القوى السياسية من أجل التنصل من المسئولية والإفلات من العقاب وهو ما بدا واضحا كلما اصطدم التحقيق بالمسؤولين.
وكانت البداية مع إبعاد القاضي فادي صوان عن ملف القضية بعد ادعائه على رئيس الحكومة وقت وقوع الكارثة حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين بتهمة “الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة” وجرح مئات الأشخاص، ثم لاحقا اصطدم خلفه القاضي طارق بيطار بالعراقيل ذاتها مع إعلان عزمه على استجواب دياب، تزامنا مع إطلاقه مسار الادعاء على عدد من الوزراء السابقين ونواب ومسؤولين أمنيين وعسكريين، حيث امتنع البرلمان عن رفع الحصانة عن النواب المذكورين، ورفضت وزارة الداخلية منحه إذنا لاستجواب قادة أمنيين ورفضت قوى الأمن كذلك تنفيذ مذكرات توقيف أصدرها، ليغرق التحقيق في متاهات السياسة، تلتها فوضى قضائية تمثلت في عشرات الدعاوى التي قدم أغلبها المسؤولون المدعى عليهم من أجل تنحية البيطار، وما زال أهالي الضحايا ينشدون بعد 3 أعوام من الفاجعة العدالة الغائبة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن استمرار لبنان على المسار الراهن من انهيار اقتصادي وتقزم لمؤسسات الدولة يقربه يوما بعد الآخر إلى سيناريو كارثي يتمثل في الحرب الأهلية والإفلاس والتحول إلى دولة فاشلة. مع التأكيد على أن إنقاذ لبنان من شبح السقوط في هذا السيناريو لن يأتي عبر مساعدات اقتصادية أو دعم مالي خارجي كما اعتاد ساسة لبنان، لكن السبيل لعبور تلك الأزمات هو إعلاء المصلحة الوطنية على الانتماءات الطائفية والمكاسب الضيقة، وبدء جهد وطني لإعادة بناء النظام السياسي وفق قواعد بعيدة تمامًا عن منطق المحاصصة واقتسام الغنائم، وقبل كل ذلك إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية ومؤسساتها السيادية بوصفها صاحبة الحق الحصري في الدفاع عن الأرض، وحصر السلاح في يدها فقط.