استمراراً لمسلسل تنقيبها عن المشاكل، أعلنت أنقرة، مواصلة أعمال التنقيب عن الغاز قبالة السواحل القبرصية، حيث أعلنت وزارة الخارجية التركية في بيان لها في 20 يونيو 2019، أن إحدى السفن التركية باشرت أعمال التنقيب، وتأتي هذه التصريحات رغم الانتقادات والتحذيرات الموجّهة إليها من أثينا والاتحاد الأوروبي، ودعوتها لوقف الأنشطة “غير المشروعة”.
وكانت تركيا قد أرسلت في شهر يونيو 2019، سفينة ثانية، يافوز، للتنقيب عن النفط والغاز في المنطقة، فيما تضمّن بيان وزارة الخارجية التركية أن أنقرة “ترفض” الانتقادات التي وجّهها مسئولون يونانيون وأوروبيون، مُشدِّدةً على أن إحدى سفنها باشرت أعمال التنقيب في مايو 2019، فيما تستعد سفينة ثانية لبدء العمليات، وتابعت أن “أنشطة التنقيب التي تقوم بها سفينتُنا يافوز تستند إلى أسس شرعية وقانونية”.
وكانت تركيا قد دشّنت سفينةَ الحفر الأولى لها وتدعى “فاتح” في أكتوبر الماضي 2018، قبالة ساحل إقليم أنطاليا جنوبَ البلاد، وردّت الرئاسة القبرصية وقتها بأن إرسال سفينة التنقيب الثانية تصعيدٌ من تركيا لانتهاكاتها المتكررة لحقوق نيقوسيا السيادية، التي يكفلها قانون الأمم المتحدة للبحار والقانون الدولي، وهو أخطر انتهاك لسيادة جمهورية قبرص.
رغم التحذيرات الإقليمية والدولية استمر أردوغان في ممارسة البلطجة الدولية وممارسة التنقيب غير الشرعي عن الغاز شرق المتوسط
وإزاء هذا الموقف التركي، حذّرت كلٌّ من مصر ومفوضية الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أنقرة، من مغبة محاولة التنقيب عن الغاز في هذه المنطقة، باعتبارها المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، ورغم تلك التحذيرات استمر أردوغان في ممارسة البلطجة الدولية وممارسة التنقيب غير الشرعي.
تركيا وأزمة ترسيم الحدود
قُدّر حجم احتياطي النفط في منطقة شرق المتوسط، بحوالي 1.7 مليار برميل، واحتياطي الغاز الطبيعي 122 تريليون قدم مكعب
تكشف دراسة نشرها مركز الأبحاث الجيولوجية الأمريكي، عن الثروات الهائلة حول المنطقة المعروفة باسم حوض بلاد الشام، حيث تتركز فيها كبرياتُ شركات البترول، وقُدِّر حجمُ احتياطي النفط بـ 1.7 مليار برميل، في حين يُعتقد أن احتياطي الغاز الطبيعي الذي يمكن استخراجه 122 تريليون قدم مكعب، بالإضافة إلى وجود كُتَلٍ غازية عملاقة في قاع البحر جاهزة للاستكشاف قرب جزيرة قبرص.
تركيا لا تعترف بأية اتفاقيات تُجريها قبرص مع دول جوارها، لترسيم الحدود البحرية وتقسيم الثروات
ووقّعت حكومة قبرص المعترفُ بها دولياً اتفاقياتٍ مع جميع البلدان الساحلية المجاورة له، للاستفادة من احتياطيات الهيدروكربونات التي تم العثور عليها حديثاً، إلا أن تركيا لا تعترف بأية اتفاقيات تُجريها قبرص مع دول جوارها، لترسيم الحدود البحرية وتقسيم الثروات، فهي الدولة الوحيدة التي لم تُعلن عن المنطقة الاقتصادية الخاصة بها شرق المتوسط، ولم توقّع أي اتفاقية لوضع حدودها البحرية مع أيٍّ من جيرانها باستثناء جمهورية شمال قبرص التركية المزعومة، وهو الكيان الذي اختلقته أنقرة عام 1974، بالقوة المسلحة والاعتداء الصارخ على سيادة الجمهورية القبرصية، ولم تعترف به أيةُ دولة في العالم سوى تركيا فقط حتى اليوم.
تركيا الدولة الوحيدة التي لم تُعلن عن المنطقة الاقتصادية الخاصة بها شرق المتوسط، ولم توقّع أي اتفاقية لوضع حدودها البحرية
ويَذكر المتخصصون أن موقع تركيا المائل جغرافياً، ينصّ على حقّها في رسم خطوطٍ قُطرية لتحديد مناطقها البحرية وتوقيع اتفاقيات، ومن شأن ذلك أن يمنحها مساحةً إضافية في البحر المتوسط، إلا أنها لا تفعل ذلك، لتتخذ سبيلاً للاحتكاك بقبرص ومصر واليونان، ويمتدّ الأمر إلى أطماعها في المياه الليبية في البحر المتوسط.
وتريد أنقرة من ذلك التعنّت الفوزَ بنصيب الأسد من موارد الغاز الطبيعي، والحصول على الجزء الأكبر من تلك الكعكة الدسمة، وهو ما يتيح لها مَدَّ أنابيب نقل الغاز للدول الأوروبية عبر البحر المتوسط، وإزاحة مصر بالذات من منافستها في هذا المجال المتخم باستثمارات طائلة واقتصاديات مربحة، ولذلك أعلنت عدمَ اعترافها بالاتفاقية المُبرَمة بين مصر وقبرص عام 2013، الخاصة بترسيم الحدود البحرية بين البلدين.
تمتد أطماع تركيا إلى المياه الليبية في البحر المتوسط، وتريد أنقرة الفوز بنصيب الأسد من موارد الغاز الطبيعي
فيما تؤكد مصر وقبرص ومعهما المجتمعُ الدولي، أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقّعة بينهما، قد تأسست وارتكزت على قواعد القانون الدولي للبحار، وتحديداً اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، التي تحدّد كيفية تعيين الحدود البحرية ذات السواحل المتقابلة.
وفي هذا الصدد يظلّ السؤال مطروحاً: إذا كانت تركيا تزعم أن لها حقوقاً معينة في شرق البحر المتوسط.. فلماذا لم تَقُمْ حتى الآن بتعيين حدودِها البحرية مع الدول ذات السواحل المتقابلة، أو المتجاورة مع تركيا مثل مصر أو اليونان أو قبرص وغيرها من الدول؟!
تداعيات المشكلة التركية الجديدة
قام الاتحاد الأوروبي بإرسال تحذيرات لتركيا، من أجل التراجع عن عمليات التنقيب والالتزام بالاتفاقيات الدولية وعدم انتهاك سيادة الدول المجاورة لها.
نفذ الاتحاد الأوروبي تهديداته وأعلن فرض عقوبات على تركيا في 15 يوليو عام 2019
وقال رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، إنه رغم وجود نوايا صادقة للحفاظ على علاقات حُسن الجوار مع تركيا، فإن تصعيدَها المستمرَّ والتحدي الذي تقوم به لسيادة دولة قبرص العضوِ بالاتحاد، سيؤدي حتماً إلى قيام الاتحاد الأوروبي بالردّ بتضامنٍ كامل، ونتيجةً لاستمرار تعنت أنقرة والتفافِها حول القوانين الدولية، نفّذ الاتحاد الأوروبي تهديداتِه وأعلن فرضَ عقوباتٍ على تركيا في 15 يوليو 2019، تمثلت في:
– اقتطاع 145.8 مليون دولار من مبالغ تابعة لصناديق أوروبية من المفترض أن تُعطى لتركيا خلال العام 2020.
– مطالبة البنك الأوروبي للاستثمار مراجعة شروط تمويله لأنقرة، والتي بلغت 434 مليون دولار العام الماضي.
– تقليص الحوار عالي المستوى بين الطرفين، باعتبار أن تركيا كانت مرشحةً للدخول في الاتحاد الأوروبي.
– تعليق مفاوضات إبرام اتفاقية للنقل الجوي، وكانت ستؤدي إلى زيادة عدد المسافرين الذين يَستخدمون المطارات التركية، وخاصة المطار الدولي الرئيسي في إسطنبول.
وهناك اتجاه داخل الاتحاد لتوسيع العقوبات، في حال مواصلةِ تركيا انتهاكَ السيادة القبرصية، حتى تشمل إجراءاتٍ تقييديةً بحق شركات وأفراد على صلة بأعمال التنقيب.
وتأتي تلك التدابير في سياق آخر متصل، تسعى بروكسل من خلاله للحدّ من جُموحِ أردوغان الذي ضرب بحلف الناتو عرض الحائط، وبدأ في استيراد نظام الصواريخ الروسي S-400، في تهديد خطير للأمن الأوروبي بأسره.
هناك اتجاه داخل الاتحاد الأوروبي لتوسيع العقوبات، في حال مواصلة تركيا انتهاك السيادة القبرصية
كما أن العقوبات جاءت في وقتٍ يترنح فيه الداخل التركي، بعد أن أوقعت سياسات أردوغان الاقتصادَ في الحضيض، ما أدى إلى انهيار الليرة وإفلاس العديد من البنوك مع اهتزاز البنك المركزي، وخسارة كارثية لمرشّح أردوغان في انتخابات بلدية إسطنبول المُعادة خلال يونيو 2019، ويجب أن يؤخذ في الاعتبار وجود عقوبات محتملة طويلة الأمد قد تُفرَض ليس فقط من الاتحاد الأوروبي بل ومن الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً.
مستقبل غاز المتوسط
رغم التصعيد التركي المتواصل في ملف غاز شرق المتوسط، وإصرار أنقرة على النيل من السيادة القبرصية، وتحدّي جميع التحذيرات الإقليمية والدولية، إلا أن مصر تقود اتجاهاً آخر يعمل على تقاسم ثروات شرق المتوسط بين الدول المشاطئة، والتعاون والتنسيق فيما بينها على نحوٍ يضمن مصالح كافة الأطراف.
وقد جاء تدشين منتدى غاز شرق المتوسط في القاهرة، في يناير عام 2019، الذي يضم إلى جانب مصر، كلاً من إيطاليا واليونان وقبرص، وإسرائيل وفلسطين والأردن، ليمثّل محطةً هامة ومحورية، تجعل من القاهرة مركزاً إقليمياً لتصدير الغاز لأوروبا، غير أن تلك الخطوة قد أثارت غضب أنقرة الطامحة في لعب هذا الدور، والسيطرة على جميع خطوط إمداد الغاز في المنطقة.
إلا أن منتدى غاز شرق المتوسط، قد ترك الباب مفتوحاً في عضويته، لمن يريد من الدول الانضمام إليه، فاتحاً بذلك الطريق أمام تركيا لبناء شراكة اقتصادية وتعاون مثمر في مجال الطاقة والغاز الطبيعي، بدلاً من الدخول في صراعاتٍ قد تتحوّل فيما بعد إلى حروب ومعارك عسكرية يخسر فيها الجميع.