تدفع التحولات الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية حاليًا إلى إعادة صياغة النظام الدولي، مع وصول هذا النظام إلى نهاية دورة مدتها ثلاثون عامًا، كانت بدايتها بسلسلة من الأحداث الدرامية التي بشّرت بانتصار النظام الديمقراطي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة؛ مثل سقوط جدار برلين، وإنزال العلم الأحمر للاتحاد السوفيتي من فوق قصر الكرملين في 25 ديسمبر 1991، حيث يُوحي ما يشهده العالم الآن بنهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة، وبداية مخاض حقبة جديدة لم تتضح معالمها بعدُ.
وقد ظهرت مؤشرات هذا المخاض في انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد، وإنهاء واشنطن لجهود استمرت عشرين عامًا في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، لإثبات أن القوة الأمريكية على عكس سابقاتها الإمبراطورية السوفيتية والبريطانية، يمكن أن تعيد تشكيل أفغانستان في صورة ديمقراطية ليبرالية.
وتشير كل الشواهد الراهنة إلى أن العالم دخل مرحلة يتزايد فيها عدم اليقين بشأن طبيعة النظام الدولي المرتقب، ودور واشنطن في تلك الحقبة الجديدة، وهو الأمر الذي سلطت مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية الضوء عليه في تقرير موسع نستعرضه بشكل مكثف على النحو التالي.
الانتقال من نظام ما بعد الحرب الباردة
لقد كانت قيادة الولايات المتحدة لا غنى عنها في إنهاء الحرب الباردة بشكل سلمي إلى حد كبير، وتهيئة الظروف للظهور السريع لعالم أكثر ترابطًا وازدهارًا، لكن لم تتحقق الأهداف الأكثر طموحًا للجهود الأمريكية بعد عام 1989؛ إذ لم يتم دمج روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي في العالم الأوروبي- الأطلسي، ولم تقبل الصين بوضع “الشريك المسؤول” في نظام تقوده الولايات المتحدة.
وفي الواقع، إن لائحة الاتهام الأولية التي يمكن توجيهها ضد القائمين على صنع السياسة الخارجية للولايات المتحدة تتمثل في التمسك باعتقاد وهمي بأن دورة ما بعد الحرب الباردة يمكن إطالة أمدها إلى أجل غير مسمى، بدلًا من اتخاذ خطوات للتحضير لظهور الدورة التالية.
كما كان من السذاجة التفكير بأن سعي القوى الكبرى إلى الشراكة مع واشنطن، سيجعل هذه القوى تحجم عن تطوير قدراتها وأدواتها لتعويض المزايا التي تتمتع بها الولايات المتحدة؛ حيث أشارت وكيلة وزارة الدفاع الأمريكية السابقة ميشيل فلورنوي في محاضرة لها عام 2019 إلى أن القوى الكبرى بعد أن لاحظت انتصار الولايات المتحدة في حرب الخليج، بحثت عن طرق لإلغاء هذه المزايا أو التغلب عليها، سواء كان ذلك من خلال تطوير تقنيات وأنظمة جديدة لمنافسة الولايات المتحدة، وإنشاء طرق مالية بديلة، وترتيبات اقتصادية من شأنها أن توفر إمكانية تجاوز واشنطن، والحد من نفوذ القوة العظمى الأمريكية واحتواء ذلك.
ومن الأهمية بمكان هنا الإشارة إلى أن القوتين الرئيسيتين الأكثر ميلًا للبحث عن بعض التعديلات في نظام ما بعد الحرب الباردة – روسيا والصين – لا تريدان التنافس وفقًا لشروط أمريكا، خاصة في المناطق التي تتمتع فيها الولايات المتحدة بميزة ساحقة، وبالتالي فقد سعيا إلى تحويل أساس المنافسة إلى مناطق ومجالات وظيفية يتمتعان فيها بميزة ميدانية أو قدرة على المنافسة.
تآكل القطبية الجيوسياسية الأحادية
من جهة أخرى، لم تسمح التحولات التكنولوجية بتآكل القطبية الجيوسياسية الأحادية فحسب، ولكنها سهّلت أيضًا ظهور اللاقطبية من خلال إتاحة الفرصة لفصل الارتباطات الاجتماعية الأساسية ليس فقط عن مؤسسات الدولة ولكن حتى بالمواقع المادية، فعلى سبيل المثال سمح تطوير تقنيات ” بلوك تشين- blockchain” بظهور أشكال جديدة من العملات وأنظمة المدفوعات (“بيتكوين-Bitcoin” و”الإيثريوم-Ethereum”) غير المرتبطة بأي مخزونات أو احتياطيات مادية (من الذهب أو العملات).
كما أدى عالم الإنترنت الذي أصبح الطريقة المفضلة لممارسة الأعمال التجارية، والمصدر والموزع الرئيسي للمعلومات، إلى خلق مصادر جديدة للضعفاء أمام الهيمنة الأمريكية، فباستثناء هجمات 11 سبتمبر الإرهابية كانت معظم الضربات التي تعرضت لها الولايات المتحدة على مدى العقود الماضية عبارة عن ضربات إلكترونية؛ كاختراق البيانات وهجمات برامج الفدية.
ولعل هذا التقاطع بين الأبعاد الجيوسياسية والتكنولوجية والسياسية جعل من الصعوبة بمكان على الولايات المتحدة حث مراكز القوى الأخرى في النظام الدولي على مواءمة أفعالها مع تفضيلات واشنطن، أو اتخاذ خطوات لتفكيك أو إضعاف مصادر قدرتهم على مقاومة رغبات أمريكا.
عولمة ممزقة ومزيج من التعاون والمنافسة
ويرى مراقبون، أن الولايات المتحدة ستظل القوة الأبرز في النظام الدولي – في المدى المنظور- لكن تحولات القوة في الثلاثين عامًا الماضية تشير إلى حقيقة أنه سيتم تسيير الشؤون الدولية من خلال التفاعلات – مزيج من التعاون والمنافسة – بين الدول الكبرى، بدلاً من التنسيق من قبل قوة عظمى. ولذلك فإن الاستراتيجيين الأمريكيين بحاجة إلى أن يصبحوا أكثر مهارة في تحليل اتجاهات انتقال السلطة في النظام الدولي، وتحديد كيفية إدارته لتأمين موقع الولايات المتحدة في العالم، وليس كيفية إيقاف هذا الانتقال.
جدير بالذكر أن هذا النظام المعولم الذي ظهر بعد نهاية الحرب الباردة لن ينتهي، لكن من المحتمل أن نشهد عولمة “ممزقة”، فقد نشهد جهدًا متجددًا لتقليل طول سلاسل التوريد وقابليتها للتأثر، وإنشاء مصادر بديلة للإمداد لكل شيء من الطاقة إلى الإلكترونيات.
ويرتبط بتلك المسألة تحدٍ خاص بكيفية مواءمة جهود مؤسسة الأمن القومي الأمريكية بشكل أكثر فاعلية مع الحقائق الفعلية لمنتصف القرن الحادي والعشرين. فعلى سبيل المثال، ستعتمد قوة الولايات المتحدة وازدهارها على التحكم وإدارة سلسلة التوريد للمعادن؛ مثل الكوبالت والنحاس والليثيوم والنيكل والمعادن الأرضية النادرة الأخرى، مما يعني أن أمريكا اللاتينية وإفريقيا ستصبحان أكثر أهمية للولايات المتحدة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن العالم خلال العقدين المقبلين سيشهد حقبة جديدة من المنافسة الجيوسياسية والاقتصادية بين الولايات المتحدة والقوى الكبرى في النظام الدولي لا سيما روسيا والصين، حيث ستعتمد واشنطن على الأرجح في تلك المنافسة على مساعدة حلفائها وشركائها الذين يواجهون موسكو وبكين على تحسين قدراتهم، بجانب إعادة صياغة الفهم الأمريكي لمناطق المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، وممارسة دور أكثر انخراطًا في أمريكا اللاتينية وإفريقيا.
وأخيرًا، تبقى الإجابة عن السؤال الخاص بمدى قدرة الولايات المتحدة على التكيف مع نظام دولي متعدد الأقطاب، مسألة مرهونة باستراتيجية وسياسة واشنطن، وآفاق التعاون وحدود الخلافات بين أقطاب النظام الآخرين.
3 دقائق