في تصعيد جديد للصراع في منطقة الشرق الأوسط، تعرض اليمن على مدى الساعات الأربع والعشرين الماضية لسلسلة من الغارات الإسرائيلية جرت بالتنسيق مع الولايات المتحدة على عدد من المنشآت الحيوية في مقدمتها ميناء الحديدة ومطار صنعاء الدولي ومحطة كهرباء ومصنعين للخرسانة، وجاءت تلك الهجمات بعد قصف حوثي استهدف مطار بن جوريون الإسرائيلي أدى إلى حالة من الذعر والفوضى والارتباك وتعطيل حركة الملاحة مؤقتا، فضلًا عما ألحقه من إصابات بشرية محدودة.
ولا تعتبر تلك الموجة من الهجمات الأولى من نوعها التي تشنها إسرائيل على الحوثيين ولكنها تعتبر الأعنف، فهي خامس مرة تقصف فيها تل أبيب اليمن منذ يوليو 2024.
- ملاحظات حول الغارات الإسرائيلية
نستعرض فيما يلي عددا من الملاحظات حول سلسلة الضربات الإسرائيلية على كل من صنعاء والحديدة:
- كثافة وشدة الضربات
اتسمت الضربات الإسرائيلية بالكثافة والشدة مقارنة بالضربات السابقة، فآخر ضربة إسرائيلية كبرى في اليمن وقعت في ديسمبر الماضي خلال خطاب متلفز لزعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي، جاءت بمشاركة حوالي 25 طائرة واستهدفت مطار صنعاء، مما أدى إلى تعطيل برج المراقبة، بالإضافة إلى ميناء الحديدة ومحطة كهرباء.
أما عن هجمات يومي الأحد والاثنين، فقد نفذت إسرائيل أكثر من 15 غارة على مطار صنعاء ألقت خلالها 30 قذيفة، فيما شاركت 30 مقاتلة إسرائيلية في الهجوم على ميناء الحديدة -الذي يعتبر الشريان الرئيس لدخول البضائع والمساعدات، ومصدرا أساسيا لتمويل الحوثيين وحصولهم على وسائل قتالية وعتاد عسكري من إيران، حيث أسقطت تلك المقاتلات نحو 50 قذيفة على الميناء ما ألحق به خسائر مادية واسعة.
كما أن التصريحات الإسرائيلية توحي بأن العملية لن تتوقف عند هذا الحد، فبعد وقت قصير للغاية من الهجوم الحوثي على مطار بن جوريون، توعد وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس الحوثيين بالانتقام قائلًا: “من يضربنا فسوف نضربه 7 أضعاف”.
- غياب بنك أهداف عسكري
تُظهر الضربات الإسرائيلية تركيز تل أبيب على قصف المنشآت الحيوية من مطارات وموانئ ومحطات كهرباء من أجل تحقيق تأثير فوري كتعطيل حركة الملاحة الجوية والبحرية وقطع التيار الكهربائي، بجانب قصف مصانع مثل مصنع العمران للخرسانة شمال مدينة صنعاء ومصنع باجل للأسمنت في الحديدة من أجل إلحاق تأثير غير مباشر عبر إعاقة وصول جماعة الحوثي إلى الموارد اللازمة لبناء أنفاقه وبنيته التحتية العسكرية.
بعبارة أخرى، فإن توجيه تلك الضربات على منشآت مدنية لا قيمة عسكرية لها يؤكد عدم امتلاك إسرائيل لبنك أهداف عسكري حول تجمعات الحوثيين ومخازن الأسلحة والذخيرة، كما يتناسب مع محددين آخرين في رسم خطة الهجوم وهما: الطبيعة الجغرافية اليمنية شديدة التعقيد، بجانب بُعد المسافة (ما يقرب من 2000 كم) الأمر الذي يفرض قيودًا على فاعلية الضربات ودقتها.
- نقطة تحول في سلوك إسرائيل تجاه الحوثيين
تمثل تلك الضربات نقطة تحول في سلوك إسرائيل تجاه الحوثيين، فاختراق الصاروخ الحوثي لمطار بن جوريون الذي عجزت أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية عن اعتراضه وسقوطه في المطار دفع شركات الطيران الأجنبية إلى إلغاء العديد من رحلاتها، ورافقه رسالة حوثية واضحة تطالب الشركات بتجنب المطار.
وكانت تل أبيب قد أحجمت منذ مجيء إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن الرد المباشر على الحوثيين رغم إطلاقهم أكثر من عشرين مقذوفًا باتجاه إسرائيل، مستجيبة لطلب أمريكي بترك مسألة التعامل مع التهديد الحوثي لواشنطن فقط.
- رسالة تهديد واضحة إلى طهران
تشّكل الضربات الإسرائيلية رسالة تهديد عملية واضحة إلى إيران، حيث أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أنه لولا دعم إيران للحوثيين لما استطاعوا شن هجمات على إسرائيل، مخاطبًا إيران قائلا: “من يضربنا مرة نضربه 7 مرات وهذه رسالة لإيران الداعم الرئيسي للحوثيين”، محملًا طهران المسؤولية عن هجمات الحوثيين.
- الأهداف السياسية للغارات الإسرائيلية
ثمة تداعيات سياسية للهجمات الإسرائيلية، فهي ترفع من وتيرة التصعيد العسكري في المنطقة قبيل جولة ترامب في الشرق الأوسط التي يستهلها الثلاثاء المقبل بزيارة المملكة العربية السعودية ثم يواصل الجولة بزيارة قطر والإمارات، كما تتزامن مع تقارير عن تصديق الحكومة الإسرائيلية الأمنية المصغرة “الكابينت” على خطة تشمل احتلال قطاع غزة بالكامل ونقل الفلسطينيين من الشمال إلى الجنوب، بجانب تصاعد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا بزعم حماية طائفة الدروز والتي وصلت إلى حد قصف محيط القصر الرئاسي في دمشق.
بالإضافة إلى ذلك تمثل الضربات الإسرائيلية ضد الحوثيين خطوة للضغط أكثر على الإدارة الأمريكية للاستجابة لمقترحات تل أبيب بشأن النهج الواجب اتباعه – من منظور حكومة نتنياهو- تجاه إيران فهي ترغب في اللجوء للخيار العسكري وأوصلت تلك الرغبة إلى دوائر مقربة من ترامب، وهو ما أكدته تقارير صحفية أمريكية حول إقالة مستشار الأمن القومي الأمريكي مايك والتز بأنها جاءت لتنسيقه مع نتنياهو بشأن إيران دون علمه، حيث يحاولون ترجيح كفة العمل العسكري في وقت تباشر فيه الإدارة الأمريكية جولات من المفاوضات غير المباشرة مع طهران حول البرنامج النووي الإيراني.
وقد حثت إيران الولايات المتحدة على إنهاء دعمها للضربات الإسرائيلية على اليمن، معتبرة أن إسرائيل تحاول استغلال صراعها مع الحوثيين، لإثارة الخلاف بين طهران وواشنطن في المفاوضات بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني.
- إصرار أمريكي على نهج الدبلوماسية مع إيران
تبدو الولايات المتحدة حريصة على مواصلة النهج الدبلوماسي في التعامل مع إيران وتجنب الخيار العسكري، ويمكن رصد ذلك من خلال التصريحات الإيجابية الصادرة عن مختلف الأطراف عقب الجولات الثلاث للمفاوضات السياسية وانخراط الجانبين الأمريكي والإيراني في محادثات فنية وهو مؤشر على تقدم أولي في المحادثات السياسية التي تجري بواسطة سلطنة عُمان.
لكن التطور الأبرز حول النهج الدبلوماسي تمثل في إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الولايات المتحدة ستوقف الضربات ضد جماعة الحوثي، بعد أن تواصل الحوثيون مع الإدارة الأمريكية وأشاروا إلى أنهم يريدون وقف القتال، قائلًا: “سنحترم ذلك، وسنوقف القصف، لقد استسلموا”.
كما أوضحت وزارة الخارجية العُمانية أن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة وجماعة الحوثي جاء بعد المناقشات التي أجرتها السلطنة مؤخرًا مع الجانبين بهدف تحقيق خفض التصعيد، حيث يشمل الاتفاق بنودا منها عدم استهداف أي من الطرفين الآخر، بما في ذلك السفن الأمريكية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وبما يؤدي لضمان حرية الملاحة، وانسيابية حركة الشحن التجاري الدولي.
وكان الجيش الأمريكي قد وسع نطاق ضرباته على الأهداف الحوثية منذ 15 مارس الماضي بهدف إضعاف الجماعة وتعطيل هجمات الحوثيين على سفن البحرية الأمريكية والسفن التجارية العاملة في الشرق الأوسط.
وبحسب مصادر مطلعة تحدثت لشبكة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية، فإن وقف إطلاق النار يندرج ضمن تفاهم أوسع يهدف لتهدئة التصعيد وبناء زخم لمحادثات إقليمية أوسع، قد تشمل الملف النووي الإيراني.
وعلى الأرجح ستزيد هذه الخطوة من التباعد الأمريكي الإسرائيلي بشأن الملف النووي الإيراني ومن مؤشرات ذلك تصريح مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى لموقع “أكسيوس” الإخباري الأمريكي بأن الولايات المتحدة لم تخطر تل أبيب مسبقًا بنيّتها إعلان هدنة مع الحوثيين وأن ترامب فاجأها بهذا القرار.
وختامًا، يمكن القول بأن الإعلان الأمريكي المفاجئ عن هدنة مع الحوثيين يعني إعطاء دفعة لمزيد من الجهود الدبلوماسية بشأن تسوية الأزمة النووية الإيرانية، لكنه يترك العديد من التساؤلات حول مدى استمرارية ما يسمى “جبهة الإسناد” اليمنية لقطاع غزة خاصة وأن البنود المعلنة حتى الآن للاتفاق لم تتحدث بشكل صريح عن مصير السفن الإسرائيلية التي تعبر البحر الأحمر، وإن كانت المؤشرات الراهنة توحي بتحييد تام للحوثيين على غرار التسوية التي جرت على جبهة الإسناد الأخرى في لبنان حيث جماعة “حزب الله”، كما تبقى هناك تساؤلات مفتوحة بشأن السلوك الإسرائيلي تجاه اليمن خلال الأيام المقبلة.