منذ عودته إلى البيت الأبيض في 20 يناير الماضي، شرع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في استكمال مسار بدأه في الولاية الرئاسية الأولى يتعلق بالاستعانة بشكل مكثف بوسائل التواصل الاجتماعي للتعبير بشكل لحظي عن مواقفه من القضايا المحلية والدولية، حتى أنه يستخدم تلك المنصات بشكل شبه يومي ولأكثر من مرة، لكن اللافت في ولايته الثانية هو استعانته وفريقه بتقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج صور تخيلية من أجل تمرير رسائل سياسية للداخل والخارج.
وشكل ذلك النهج نموذجًا للتوظيف المثير للتكنولوجيا لمخاطبة مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، انطلاقًا من حقيقة راسخة بأن الصورة أداة صحفية قوية للتأثير على مشاعر الجمهور، كما أنه نهج يعكس النمط غير التقليدي لإدارة التواصل الإعلامي في البيت الأبيض.
- إدارة حسابات البيت الأبيض وترامب
في حين يتولى إدارة حسابات البيت الأبيض على منصات التواصل الاجتماعي مكتب الاستراتيجية الرقمية، إلا أن هوية القائمين الفعليين على هذه المنشورات لا تزال غامضة. ويقود الفريق كريستيان توم، ويضم شخصيات بارزة مثل أنجيلا كراسنيك، وتبريكا لامبرت، وباتريك ستيفنسون.
كما يعتبر دان سكافينو، نائب رئيس كبير موظفي البيت الأبيض أيضًا أحد الأسماء المؤثرة في الاتصالات الرقمية داخل الإدارة الأمريكية، حيث يتمتع بخبرة كبيرة في ممارسة هذا الدور، فقد شغل في إدارة ترامب الأولى منصب مدير وسائل التواصل الاجتماعي من عام 2017 إلى عام 2021.
وفي مقابلة مع صحيفة “ذا هيل” الأمريكية، صرح كايلان دور، نائب مدير الاتصالات في البيت الأبيض، بأن “الأمر ليس تواصل لمجرد التواصل، نحن نوجه رسالةً بالفعل”.
وأكد دور أن النبرة “غير الموقرة” التي تصدر أحيانًا من الإدارة عبر الإنترنت هدفها التواصل مع المستخدمين وخاصة الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 عامًا.
أما عن حسابات ترامب الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي، فمن غير الواضح من يقوم بالنشر عليها، ومن الواضح أن الرئيس الأمريكي السابع والأربعين يستغل منصة “تروث سوشيال”، التي أسسها عام 2021، لإطلاق العنان لأفكاره حيث تتوالى المنشورات بكثافة – يكتب ترامب على المنصة أكثر من 12 مرة يوميًا – وتندرج منشورات ترامب بشكل عام تحت ثلاث فئات: مهاجمة الأعداء المفترضين، وإعادة نشر الثناء عليه، ونشر صور أو مقاطع فيديو لنفسه من دون سياق، بحسب صحيفة “جارديان” البريطانية.
- طبيعة الصور المستخدمة
تُعرّف الصور، مهما يكن نوعها، بحدود أو إطار ضمني، وتنطوي على أفعال تأطير وإعادة تأطير وربط وحذف، ولهذه الأفعال علاقة بدوافع الفاعل الذي يقوم بإجراء التعديل والنشر.
وقد بدأ ترامب في نشر مثل هذه الصور منذ مارس 2023، حيث تم تعديل وجهه باستخدام برامج تعديل الصور “الفوتوشوب” على صور تتضمن جنديًا من الحرب العالمية الثانية، وراعي بقر، وحتى جسد رامبو المفتول العضلات، وفقا لصحيفة “إندبندنت” البريطانية.
ومع دخول الحملة الانتخابية الرئاسية لترامب مراحلها الأخيرة، ازدادت وتيرة مشاركة ترامب لمثل هذه الصور الخيالية بشكل ملحوظ، لكن مع فوزه بالرئاسة بات الاعتماد على الصور التخيلية والمركبة بواسطة الذكاء الاصطناعي ممارسة رسمية، فلم تعد قاصرة على حسابات ترامب الشخصية بل يتم بث مثل هذه الصور عبر الحسابات الرسمية للبيت الأبيض ثم يقوم ترامب بإعادة نشرها على حساباته نقلًا عن الحسابات الرسمية.
واتبع القائمون على إعداد تلك الرسائل الاتصالية التي تمزج بين الصورة التخيلية والنص التوضيحي لموضوع الصورة نهجًا يتمثل في الاستعانة بالرموز التاريخية أو الأفلام الشهيرة الخالدة في ذاكرة الجمهور، بل حتى مواكبة قضايا الساعة أو ما يسمى في عالم التواصل الاجتماعي بـ “الترند”، ويظهر ذلك حرصًا على تعظيم نطاق وصول الرسالة إلى أكبر قاعدة ممكنة من الجماهير، وهي رسالة محفزة على تحقيق تفاعل من جانب المستخدمين وإيجاد حالة من الزخم وإثارة الجدل أيضًا.
- نماذج من الصور التخيلية
نستعرض هنا نماذج لعدد من الصور التخيلية والمركبة التي نشرها حساب البيت الأبيض الرسمي أو حساب ترامب، وذلك على النحو التالي:
- أفلام حرب النجوم
نشر حساب البيت الأبيض في 4 مايو 2025 صورة معدّلة لترامب، يظهر فيها بعضلات مفتولة وسيف أحمر، مستوحاة من سلسلة أفلام “حرب النجوم” الشهيرة. وتضمنت هجوما واضحا على خصومه السياسيين من اليسار، وترديد مفردات من خطابه المعتاد حول قضية الهجرة غير النظامية إذ أرفقت بمنشور جاء فيه: “عيد سعيد للجميع، بمن فيهم متطرفو اليسار الذين يحاولون إعادة أمراء السيث (الأشرار في سلسلة حرب النجوم)، والقتلة، وتجار المخدرات، وأعضاء عصابة إم إس- 13 إلى مجرتنا. أنتم لستم الثورة، بل الإمبراطورية”. واختُتم المنشور بعبارة شهيرة من السلسلة: “أتمنى أن يكون الرابع من مايو معكم”، في إشارة إلى يوم يحتفي به عشاق السلسلة عالميًا.
- البابا ترامب
وفي 2 مايو 2025، نشر ترامب على حسابه في منصة “تروث سوشيال” صورة وهو يرتدي زي بابا الفاتيكان. وتظهر الصورة ترامب جالسا على كرسي مزخرف، مرتديا ثيابا بابوية بيضاء وغطاء رأس، ويرفع إصبعه السبابة اليمنى. ولم يرفق الرئيس الأمريكي الصورة التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي بأي تعليق، لكنها جاءت بعد تصريح مثير لترامب حين سأله مراسل إحدى وسائل الإعلام عمّا إذا كان يفضل أو يرشح شخصاً لخلافة البابا الراحل فرانسيس، فأجاب ترامب مازحًا: “أود أن أصبح أنا البابا… سيكون ذلك خياري الأول!”.
- كولومبوس يعود
في 27 أبريل 2025، نشر حساب البيت الأبيض على منصة “إكس” صورة لترامب يرتدي نظارة شمسية وبجانبه تمثال الرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبوس مكتشف الأراضي الأمريكية وهو يرتدي نظارة شمسية مماثلة لتلك التي يرتديها الرئيس الأمريكي وأرفقها بعبارة مقتضبة “كريستوفر كولومبوس عاد”.
وكان ترامب قد أعلن أنه سيعيد يوم الاحتفال بـكريستوفر كولومبوس (يوم الاثنين الثاني من أكتوبر سنويًا) ويرفض الاعتراف بيوم الشعوب الأصلية، الذي كان سلفه الديمقراطي جو بايدن أول رئيس يحتفل به حيث أصدر إعلانا في عام 2021 للاحتفال بـ “المساهمات التي لا تقدر بثمن للشعوب الأصلية وصمودهم” والاعتراف بـ “سيادتهم المتأصلة”.
- ترحيل طلاب وحاملي تأشيرات من الشرق الأوسط
تحت عنوان “ترحيل”، نشر حساب البيت الأبيض على موقع “فيسبوك” في 17 مارس 2025 صورة تُظهر ترامب وهو يلوح بيده للوداع، بجانب صورة للطبيبة اللبنانية رشا علوية التي تم ترحيلها إلى بيروت.
وأرفق البيت الأبيض عبارة “باي باي (وداعا) رشا”، مع الصورة التي تضمنت أيضا نصا منشورا لوزارة الأمن الداخلي الأمريكية على منصة إكس، أشارت فيه إلى أن علوية سافرت إلى بيروت، لحضور جنازة الأمين العام الراحل لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، الذي كان مسؤولًا عن “مقتل مئات الأمريكيين خلال أربعة عقود من الإرهاب”.
وتابعت: “تمجيد الإرهابيين الذين يقتلون الأمريكيين ودعمهم سبب كاف لرفض منح التأشيرة”.
وكانت علوية حاصلة على تأشيرة أمريكية تُمنح عادة للأجانب ذوي المهارات الخاصة لشغل وظائف يصعب العثور على مواطنين أمريكيين لشغلها.
وعلى غرار الصورة السابقة، نشر حساب البيت الأبيض على الموقع ذاته في 11 أبريل 2025 صورة مركبة لترامب يلوح بالوداع بجانب صورة الناشط الفلسطيني محمود خليل الطالب في جامعة كولومبيا، الذي ساهم في تنظيم الاحتجاجات التي شهدها حرم الجامعة في نيويورك ضد الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة، وأرفق المنشور بعبارة مقتضبة “خبر عاجل: قاض يسمح بترحيل محمود خليل”.
ومن اللافت أن الرئيس دونالد ترامب ركّز في هذه النماذج من الصور التخيلية والمركبة على توظيف محورين رئيسيين يتمثلان في ثنائية القومية والدين، إذ يُعدان من الركائز الأساسية التي يعتمد عليها لتعزيز شرعيته وتوسيع قاعدة التأييد الشعبي لسياساته، فالقومية تُوفر إطارًا جامعًا للهوية الوطنية التي لطالما استخدمها ترامب في خطاباته السياسية التي تحدث فيها عن أمريكا العظمى. بينما يمنح الإطار الديني بُعدًا أخلاقيًا وروحيًا يُضفي على نهج ترامب طابعًا من القداسة والمشروعية الرمزية.
كما حرص الرئيس الأمريكي على إدخال بعض التعديلات على صوره لإظهار القوة والسيطرة في مواجهة خصومه السياسيين خاصة في الداخل، وتقديم نفسه كمدافع عن الهوية الأمريكية.
وختامًا، يمكن القول إن نمط الاتصال السياسي الذي تتبعه إدارة ترامب تطور بشكل ملحوظ عن ولايته الرئاسية الأولى قبل 8 سنوات، حيث يتعامل فريق البيت الأبيض الجديد مع المنصات بشكل أكثر فاعلية موظفًا أدوات الذكاء الاصطناعي من أجل الاقتراب من جمهور مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، وإيصال رسائل ترامب السياسية في قوالب متنوعة ما يعزز من انتشارها وتفاعل الجمهور معها.