في تصعيد كبير لوتيرة الضربات الإسرائيلية على سوريا منذ الإطاحة بنظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، شن جيش الاحتلال غارات جوية مكثفة على العاصمة دمشق استهدفت محيط قصر الرئاسة ومبنى وزارة الدفاع ومقر هيئة الأركان للجيش السوري بجانب هجمات على محافظة السويداء في جنوب البلاد، وذلك بدعوى التدخل لحماية الدروز عقب مواجهات دامية بينهم وبين البدو في السويداء، وتدخل من جانب القوات الحكومية للسيطرة على الوضع.
وقد دفعت تلك التطورات المتسارعة إلى إثارة العديد من التساؤلات بعضها يتعلق بالحكومة السورية الحالية وقدرتها على السيطرة وضبط النظام، والبعض الآخر عن آفاق المحادثات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب لتهدئة التوتر ومناقشة الترتيبات الأمنية، فضلًا عن تساؤلات حول مدى قدرة الولايات المتحدة على خفض التصعيد الراهن الذي يقوض مساعي الدولة السورية لتثبيت دعائم الاستقرار وبدء مرحلة البناء وإعادة الإعمار، فهو عدوان يعرقل الفرصة الممنوحة لسوريا التي تحدث عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حينما أعلن قبل نحو شهرين رفع العقوبات عن دمشق استجابة لطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والتي أعقبها لقاء ثلاثي في الرياض جمع الزعيمين بالرئيس السوري أحمد الشرع .
- هدف إسرائيل الاستراتيجي في جنوب سوريا
يعيش أكثر من 20 ألف درزي في مرتفعات الجولان حيث يتقاسمون المنطقة مع حوالي 25 ألف مستوطن يهودي، منتشرين في أكثر من 30 مستوطنة. ويُعرّف معظم الدروز المقيمين في الجولان أنفسهم بأنهم سوريون، حيث رفضوا عرضًا بالحصول على الجنسية الإسرائيلية بعد احتلال تل أبيب للمنطقة، ولذلك مُنحوا بطاقات إقامة إسرائيلية، لكنهم لا يعتبرون مواطنين إسرائيليين، بحسب شبكة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية.
وتتركز أغلبية الدروز في السويداء، المتاخمة لمحافظة درعا ذات الأغلبية السنية، وبعض ضواحي دمشق، وخاصة في جرمانا وأشرفية صحنايا جنوبًا، كما يوجد مجتمع درزي أصغر في إدلب.
وبحسب مجلة ” لونج وور جورنال” الأمريكية، ينبع دافع إسرائيل لحماية الدروز السوريين من اندماجهم العميق في المجتمع الإسرائيلي. فعلى عكس الأقليات الأخرى في إسرائيل، يُعرف الدروز بولائهم لإسرائيل بما في ذلك الخدمة العسكرية.
ويعيش نحو 130 ألف درزي إسرائيلي في الكرمل والجليل. وعلى عكس الأقليات الأخرى داخل إسرائيل، يُجنّد الرجال الدروز الذين تزيد أعمارهم عن 18 عامًا في الجيش منذ عام 1957، وغالبًا ما يترقّون إلى مناصب رفيعة، بينما يبني الكثيرون منهم مسيرة مهنية في الشرطة وقوات الأمن.
وقد ضغط العديد من الدروز الإسرائيليين على حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للتدخل إذا تعرض دروز سوريا للتهديد، وتجسد هذا القلق في أبريل الماضي عندما شنت إسرائيل غارة بطائرة مسيرة على مجموعة يُزعم أنها كانت تستعد لمهاجمة ميليشيات درزية في بلدة صحنايا بالغوطة الغربية. ووصفت تل أبيب الغارة بأنها “عملية تحذيرية” تهدف إلى ردع المزيد من العنف.
وفي ظل الضربات الإسرائيلية الحالية، أكد مكتب نتنياهو التزام إسرائيل بمنع إلحاق الأذى بالدروز في سوريا متحدثًا عما وصفه بـ”التحالف الأخوي العميق مع مواطنينا الدروز في إسرائيل، وروابطهم العائلية والتاريخية مع الدروز في سوريا”.
لكن واقع الأمر يشير إلى أن حجة نتنياهو واهية فالدروز السوريون والإسرائيليون لا يتشاركون ولاءات وقيمًا متطابقة. بعبارة أخرى يمكن القول إن دروز سوريا منقسمون تجاه تل أبيب والحكومة في دمشق على حد سواء. وقد تجسد هذا الانقسام خلال الأحداث الراهنة في السويداء، ففي الوقت الذي دعا فيه الزعيم الروحي الدرزي حكمت الهجري إلى توفير الحماية الدولية لمواجهة ما سماها “الحملة البربرية” التي تشنها الحكومة والقوات المتحالفة معها، متحدثًا عن أن الدروز يواجهون “حرب إبادة شاملة”.
إلا أن زعماء دروز آخرين رحبوا في بيان بتدخل الحكومة السورية في السويداء، ودعوا الدولة إلى بسط سلطتها. كما دعوا الجماعات المسلحة في المدينة إلى تسليم أسلحتها للقوات الحكومية، وبدء حوار مع دمشق.
وبعيدا عن شعار حماية الدروز، فإن إسرائيل لديها هدف استراتيجي واضح تسعي لتحقيقه وهو جعل جنوب غرب سوريا منطقة منزوعة السلاح خشية وجود فصائل مناهضة لها على حدودها الشمالية وهو ما يلفت إليه سياسيون إسرائيليون بعدم السماح بظهور “لبنان ثان” في إشارة إلى التهديد الذي كان يشكله “حزب الله” اللبناني.
كما تسعى تل أبيب بتلك التدخلات إلى تقوية شوكة الدروز وبالتالي تعزيز الفرصة أمام ظهور نظام فيدرالي في سوريا التي تضم طوائف وأعراقا عديدة، وهو هدف يصب في مصلحة إسرائيل استراتيجيًا ويعزز من نفوذها في المنطقة.
- الدروز وحكومة الشرع
بعد الإطاحة بنظام الأسد، انقسم الدروز حول كيفية التعامل مع الوضع الجديد في البلاد، فقد أيّد العديد منهم الحوار مع الإدارة السورية الجديدة، بينما فضّل آخرون نهجًا أكثر تصادمية.
ومن القضايا الرئيسية التي سببت توترًا في العلاقات بين الحكومة السورية الجديدة والدروز، ملف نزع سلاح الميليشيات الدرزية ودمجها، إذ لم يتمكن الرئيس الشرع، الذي يسعى إلى توحيد الفصائل المسلحة تحت جيش موحّد، من التوصل إلى اتفاقات مع الدروز، الذين يُصرون بشدة على الاحتفاظ بأسلحتهم وميليشياتهم المستقلة، ورفضوا الاندماج في الدولة السورية الجديدة.
وارتبطت بعض الميليشيات الدرزية بصلات مع نظام الأسد، فعلى سبيل المثال، العديد من الفصائل الدرزية في مدينة جرمانا كانت أعضاء في قوات الدفاع الوطني التابعة للنظام السابق، وهي ميليشيا تم تشكيلها عام 2012، تولت مهمة إسناد قوات النظام في مواجهة فصائل المعارضة وكانت مسؤولة عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
وربما يرى مراقبون أن الدروز لديهم شعور بالتهميش في دوائر الحكم الجديدة، ففي حين وعدت الإدارة الانتقالية باستيعاب الأقليات، إلا أن الحكومة الجديدة المكونة من 23 وزيرًا والتي تم تشكيلها في أواخر مارس الماضي لا تضم سوى درزي واحد، وهو وزير الزراعة أمجد بدر.
- جهود أمريكية لخفض التصعيد
تشير التصريحات الرسمية الصادرة عن الإدارة الأمريكية إلى جهود مكثفة للوساطة من أجل خفض التصعيد، حيث تحدث الرئيس ترامب عن وجود “سوء فهم” بين الجانبين السوري والإسرائيلي، معربًا عن تطلعه إلى خفض التوتر ومساعدة سوريا في الوصول إلى الاستقرار.
كما أعربت واشنطن عن دعمها لتعهد الرئاسة السورية في بيان بمحاسبة كل من تورط في “الانتهاكات المؤسفة” في السويداء بشكل رادع، إذ وصف المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا، توم براك بيان الرئاسة السورية بـ”القوي”، داعيًا جميع الأطراف إلى التراجع خطوة للوراء والانخراط في حوار هادف يؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار.
ومما لا شك فيه أن ما جرى مع الدروز في السويداء خلال الأسبوع الحالي وأحداث الساحل السوري التي طالت العلويين في مارس الماضي، تظهر حجم التحديات الجسام أمام الحكومة السورية بدءا من السيطرة على السلاح داخل الدولة وضبط سلوك بعض الفصائل المنضوية تحت راية الدولة السورية، وكذلك القدرة على استيعاب كافة الطوائف في إطار حكومة مركزية وسورية موحدة.
وتأسيسًا على ما سبق، تظهر أحداث السويداء التي اتخذتها إسرائيل ذريعة لتصعيد العدوان على سوريا، الحاجة إلى حلول جذرية للتوترات الطائفية في سوريا التى تعد بمثابة حجر عثرة أمام أي تحرك نحو بناء الدولة والمضي قدمًا نحو المستقبل، وبكل تأكيد فإن ترسيخ دولة المؤسسات التى تحتكر أجهزتها الأمنية والعسكرية حمل السلاح من أجل إنفاذ القانون وتفكيك كافة التنظيمات المسلحة وحصر السلاح بيد الدولة السورية متطلب أساسي لطي صفحات الفوضى وتثبيت دعائم الاستقرار.