استعراض دراسات

التأثيرات النفسية لوسائل التواصل الاجتماعي

 

أدى الصعود السريع لوسائل التواصل الاجتماعي على مدى العقد الماضي إلى تغير كبير في كيفية تفاعل الأشخاص وتواصلهم وإدراكهم لأنفسهم والآخرين، حيث اندمجت منصات مثل إنستغرام وفيسبوك و”وي تشات” في الحياة اليومية لمليارات المستخدمين في جميع أنحاء العالم، مما أثار أسئلة مهمة حول تأثيرها على الصحة النفسية.

وأظهر العديد من الدراسات نتائج مختلفة، حيث أشار بعضها إلى تأثيرات إيجابية مثل زيادة الدعم الاجتماعي، بينما أشار البعض الآخر إلى تأثيرات سلبية مثل تدني احترام الذات وزيادة المقارنة الاجتماعية، وقد دفع هذا التناقض إلى تحليل شامل لتوضيح تأثيرات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الرفاهية الذاتية.

وفي هذا الإطار، نشرت مجلة “Heliyon” العلمية، في عددها الصادر في يونيو 2024، دراسة جديدة بعنوان “العلاقات بين استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والرفاهية الذاتية – نموذج التحليل التلوي والمعادلة الهيكلية التحليلية التلوية”، حيث تسلط الضوء على العلاقة المعقدة بين استخدام منصات التواصل والدعم الاجتماعي المتصور واحترام الذات والرفاهية الذاتية، حيث أكد معد الدراسة الباحث تشيو هونج يانج من جامعة نانتونغ الصينية أن وسائل التواصل الاجتماعي اخترقت في الوقت الحالي كل جانب من جوانب الحياة اليومية، فسواء في العمل أو المدارس أو القطارات والطائرات، يمكننا ملاحظة الأشخاص الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي.

  • طبيعة الدراسة

للتحقق من العلاقة بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والدعم الاجتماعي المتصور واحترام الذات والرفاهية الذاتية، اعتمدت الدراسة على تحليل تلوي، وهو تقنية إحصائية تجمع بشكل منهجي بين نتائج دراسات متعددة لاستخلاص فهم أكثر شمولًا لمجال معين.

وقد استندت الدراسة إلى بحث موسع في الأدبيات، عن دراسات تناولت الرفاهية الذاتية أو مؤشراتها الإيجابية، ومؤشرات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وأن توفر بيانات إحصائية كافية مثل حجم العينة ومعاملات الارتباط.

وقد شملت عينة البحث 73 دراسة تراوح حجم المشاركين فيها من 78 إلى أكثر من 10 آلاف مشارك، أعمارهم ما بين 10 إلى 69 عامًا.

ووجدت الدراسة أن الوقت الذي يقضيه المستخدمون على وسائل التواصل الاجتماعي، وتكرار الاستخدام، وكثافة الاستخدام، لم يكن له ارتباط ثابت بشعورهم بالرفاهية الذاتية.

ولم يجد التحليل أي علاقة مهمة بين الوقت الذي يقضيه الأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي وتكرار الاستخدام، وهذا يعني أن مجرد مقدار الوقت أو عدد المرات التي يتفاعل فيها الأفراد مع منصات التواصل الاجتماعي لا يتنبأ بشكل موثوق برفاهيتهم العامة.

وكشفت النتائج أيضًا أن كثافة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تعكس المشاركة الوجدانية والاستثمار الشخصي للمستخدمين في هذه المنصات، أظهرت تأثيرًا إيجابيًا صغيرًا، ولكنه مهم على الرفاهية الذاتية. ومع ذلك، لم يصل حجم التأثير إلى المستوى الذي يُعتبر عمومًا ذا مغزى في أبحاث العلوم الاجتماعية.

وفي المقابل، وجدت الدراسة أن العواقب النفسية لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لها تأثير أكثر أهمية على الصحة النفسية. كما توصلت الدراسة إلى ارتباط مهم بين الدعم الاجتماعي المتصور وتعزيز الرفاهية الذاتية، حيث يميل المستخدمون الذين أفادوا بأنهم يشعرون بدعم شبكاتهم الاجتماعية إلى أن يكون لديهم رضا أعلى عن الحياة ومشاعر أكثر إيجابية، مما يشير إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تكون بمثابة أداة قيمة للحفاظ على الروابط الاجتماعية وتعزيزها.

  • تأثير استخدام منصات التواصل على احترام الذات

من ناحية أخرى، وجدت الدراسة أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يرتبط سلبًا بالرفاهية الذاتية من خلال تأثيرها على احترام الذات، حيث يؤدي التعرض المستمر لصورة حياة مثالية لأشخاص آخرين إلى مقارنات اجتماعية غير مواتية، فعندما يقارن الأفراد أنفسهم بهذه الصور المثالية يؤدي ذلك إلى توليد مشاعر تدني احترام الذات. ويرتبط هذا التأثير السلبي على احترام الذات بانخفاض الرفاهية العامة، مما يؤدي إلى زيادة المشاعر السلبية وانخفاض الرضا عن الحياة.

كما وجدت الدراسة أن السياق الثقافي يشكل وسيطًا مهمًا في العلاقة بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والرفاهية. وخلصت أيضًا إلى الارتباطات الإيجابية للاستخدام الكثيف لوسائل التواصل مع الشعور بالرفاهية كانت أقوى في الثقافات الشرقية مقارنة بالثقافات الغربية، ويمكن أن يُعزى هذا الاختلاف إلى التركيز الأقوى على العلاقات الاجتماعية والمجتمع في الثقافات الشرقية، حيث يمكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أكثر فاعلية للحفاظ على شبكات اجتماعية وثيقة وتلقي الدعم المعنوي.

  • رؤية تقيميية

وعلى الرغم من شمول الدراسة، فإنه يمكن رصد عاملين أساسيين يشكلان قيودا على النتائج، الأول يتمثل في أن الدراسة اعتمدت بشكل كبير على البيانات المبلغ عنها ذاتيًا من جانب المستخدمين حول استهلاكهم لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي يمكن أن تؤدي إلى التحيز وتؤثر على دقة النتائج.

أما العامل الثاني فيتعلق بعينة الدراسات محل البحث، حيث كانت بشكل أساسي من الشباب، مما يحد من إمكانية تعميم النتائج على السكان الأكبر سنًا، ويحول دون التوصل إلى أي استنتاجات سببية.

ولذلك يمكن للبحوث المستقبلية معالجة هذه القيود من خلال دمج الفئات العمرية الأكثر تنوعًا، والمقاييس الموضوعية لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لفهم العلاقات السببية بشكل أفضل، فضلا عن رصد تأثير خلفيات وعادات شرائح معينة من المجتمعات على السلوكيات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وختامًا، يمكن القول بأن نتيجة تلك الدراسة جاءت مثيرة للاهتمام ومخالفة للتيار العام للدراسات التي أسهبت في ربط العديد من التداعيات الناجمة عن تواتر وكثافة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية للمستخدمين، بل إنها ذهبت أبعد من ذلك بتسليط الضوء على إمكانية إسهام وسائل التواصل في تعزيز الرفاهية من خلال توفير الدعم الاجتماعي.

زر الذهاب إلى الأعلى