تمثل الدبلوماسية الرقمية محورًا رئيسيًا في السياسة الخارجية المعاصرة وإحدى أدواتها الحيوية والفعالة، حيث أسهمت في تحديد مسارات جديدة للتواصل الدبلوماسي تتميز بالكفاءة والفاعلية بين الدول والثقافات المختلفة، وفي عصر يتسم بالسرعة والانفتاح أصبح المسؤولون الحكوميون أكثر تفاعلًا بصورة مباشرة مع الجمهور من خلال منصات التواصل الاجتماعي، ما جعل هذه المنصات نوافذ رئيسة للتفاعل مع شرائح أوسع من الجمهور، وهذا الانفتاح الرقمي سهل تطورات سريعة ومعقدة في السياسات الخارجية، وأتاح مجالًا لفاعلين جدد بعيدًا عن الأطر التقليدية للدبلوماسية للتأثير في الصورة الذهنية لدولهم وثقافاتهم على المستوى الدولي.
وفي هذا الإطار، نشرت المجلة المصرية لبحوث الاتصال والإعلام الرقمي في عددها الصادر في مايو 2024، دراسة بعنوان “دور الدبلوماسية الرقمية في تشكيل صورة المملكة العربية السعودية في الخارج .. دراسة في تحليل المستوى الثاني”، من إعداد هاني عجيمي الباحث بقسم الإعلام في جامعة الملك سعود، والتي نستعرض أبرز ما تضمنته على النحو التالي:
- عينة الدراسة
تم تطبيق الدراسة على عينة عمدية من البحوث المتعلقة بالدبلوماسية الرقمية باللغتين العربية والإنجليزية للفترة ما بين 2017 و2023، وتضمنت العينة 22 بحثًا ودراسة، تم عرضها وتحليلها بدقة، وذلك من خلال استعراض بعض الدراسات العلمية المنشورة في الدوريات المتخصصة وقواعد البيانات العلمية المختلفة، توزعت كالتالي 10 أجنبية و7 عربية و5 سعودية.
ومن خلال استعراض التحليلات المتعددة، تبين أن 16 دراسة استندت إلى المنهج التحليلي لعرض نتائجها العلمية، بينما استعانت 4 دراسات بالمنهج المسحي لتحقيق أهدافها، وركزت دراستان فقط على المنهج النوعي لتطوير محتواهما.
- نتائج الدراسة
أظهرت البحوث السعودية تطورات ملحوظة في مجال الدبلوماسية الرقمية، حيث بينت كيف أصبح الاعتماد على الأدوات الرقمية مثل منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الإلكترونية أمرًا جوهريًا في تعزيز السياسة الخارجية وتعزيز دور المملكة كفاعل رئيسي على الساحة العالمية، كما أبرزت دور مركز الاتصال والإعلام الجديد بوزارة الخارجية السعودية الذي تم تأسيسه عام 2019 في إنتاج محتوى يعبر عن الهوية السعودية ويعزز من مكانتها الدولية، وتوجيه الرسائل الدبلوماسية للخارج.
كما أتاحت الدبلوماسية الرقمية الفرصة لتقديم صورة متقدمة ومتجددة عن المملكة على المستوى الدولي، مما عزز من فاعلية المملكة في المحافل الدولية. وبحسب الدراسة، واجهت الدبلوماسية الرقمية السعودية تحديات تتعلق بالتنسيق وتوزيع الأدوار بين الوزارات والهيئات الحكومية ما يستدعي تكاملا أكبر وتنسيقا أفضل لتعزيز الفاعلية الكلية.
أما عن النتائج الرئيسية للبحوث العربية حول الدبلوماسية الرقمية، فأوضحت أن البيانات الضخمة توفر فرصًا فريدة لتحليل كميات هائلة من البيانات بكفاءة ودقة متناهية، مما يمكن صانعي القرار من الغوص في أعماق الظروف الجيوسياسية وفهم التحديات العالمية بشكل أكثر شمولية وهذا النوع من التحليل يساعد في التنبؤ بتطورات الأزمات الدولية وفي إعداد الحكومات للتعامل مع المواقف الطارئة بفاعلية أكبر.
كما أشارت النتائج إلى أن دور الدبلوماسية الرقمية في تعزيز القوة الناعمة، حيث تشكل الدبلوماسية الرقمية امتدادًا طبيعيًا وفعالًا للدبلوماسية التقليدية، حيث تستغل منصات التواصل الاجتماعي لتمديد نفوذ الدول وتعزيز قدراتها الدبلوماسية على المديين المتوسط والطويل، فهذه المنصات تفتح قنوات جديدة للتأثير الدولي وتسمح بنشر وترويج القيم والسياسات الوطنية بطريقة تخدم أهداف الدول وتوجهاتها الدولية، وعبر استخدام الدبلوماسية الرقمية تستطيع الدول تحقيق نفوذ أكبر وتطوير قوة ناعمة تعزز من مكانتها في النظام العالمي.
كما لفتت إلى دور التكنولوجيا الرقمية في تحسين الدبلوماسية العامة، حيث غيرت جذريًا كيفية تواصل الحكومات مع الجمهور العالمي. وأشارت أيضًا إلى تحديات ومخاطر مرتبطة بالتكنولوجيا في الدبلوماسية، فالدبلوماسية الرقمية قد تستخدم كأداة للقوة الحادة، حيث يمكن أن تؤدي إلى اختراق البيئات السياسية والتداخل بين الآراء الشخصية والمواقف الرسمية.
وبالنسبة للدراسات الأجنبية، فقد ركزت على الدبلوماسية الرقمية وأثرها على تعزيز الصور الذهنية للدول، حيث أصبح استخدام الأدوات الرقمية عنصرًا فعالًا في صياغة السياسات والتأثير في الرأي العام، هذه الأدوات لا تسهم فقط في تبسيط العمليات وإنما توفر منصات للتـأثير الأيديولوجي والاقتصادي مما يمكن الدول من تعزيز مواقعها على الساحة العالمية.
كما خلصت الدراسات التي تشير إلى الأنظمة المعتمدة على معالجة البيانات الضخمة والذكاء التوليدي والتقنيات الرقمية المتقدمة مثل التزييف العميق أنها أحدثت تحولات جذرية في الطريقة التي تتم بها الدبلوماسية، فهذه التقنيات تعزز القدرة على التأثير والتلاعب بالمعلومات مما يضيف طبقة من التعقيد إلى التحديات الأخلاقية والأمنية المرتبطة بالدبلوماسية الرقمية.
كما أظهرت الدراسات كذلك أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز القدرة على الاستجابة للأزمات الدولية من خلال أتمتة جمع البيانات وتحليلها وهذه التكنولوجيا تمكن الدبلوماسيين من الحصول على تحديثات لحظية وتحليلات دقيقة مما يساهم في صنع قرارات سريعة وفعالة.
- توصيات الدراسة
قدمت الدراسة سلسلة من التوصيات نستعرض أبرزها على النحو التالي:
- تعزيز الاهتمام بالدبلوماسية الرقمية مع التركيز على رفع مستوى الوعي لدى الدبلوماسيين والمواطنين بأهمية هذا المجال في تعزيز الصورة الخارجية للمملكة.
- تنمية الوعي بالعلاقة بين التقنية الحديثة والدبلوماسية الرقمية، وإنتاج المزيد من المحتويات الإعلامية المباشرة والمعمقة حول التقنيات الحديثة خاصة فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، ودورها في تعزيز الدبلوماسية الرقمية لزيادة الوعي بأهمية هذه العلاقة.
- توسيع نطاق الخدمات الإلكترونية التي تقدمها وزارة الخارجية السعودية وسفاراتها، مع تعزيز الاعتماد على التقنيات الحديثة لتحسين كفاءة الدبلوماسية الرقمية.
- تكثيف البرامج التدريبية لتمكين الدبلوماسيين من اكتساب مهارات تقنية تعزز من قدراتهم على استخدام الدبلوماسية الرقمية بفاعلية.
- تغيير نظرة الدبلوماسيين تجاه الدبلوماسية الرقمية باعتبارها أداة مساعدة لتحسين الأداء الدبلوماسي وليس كتهديد للوظائف.
- زيادة الوعي بين الشباب السعودي بأهمية الدبلوماسية الرقمية من خلال تنظيم لقاءات وورش عمل مما يساعد على استغلال التقنيات الحديثة لتعزيز الصورة الخارجية للمملكة.
- حماية الأنظمة الدبلوماسية من المخاطر التكنولوجية لضمان تقدم الدبلوماسية الرقمية بشكل آمن دون التعرض لمخاطر الهجمات السيبرانية والقرصنة.
- إعداد المزيد من الدراسات العلمية التي تستهدف الدبلوماسية الرقمية في المملكة العربية السعودية مع ربطها بعدة متغيرات حديثة، كالذكاء الاصطناعي ورؤية المملكة 2030 وتطلعات المستقبل.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الدبلوماسية الرقمية مثلما توفر فرصًا غير مسبوقة للعمل الدبلوماسي الفعال فإنها تثير تحديات تتعلق ببناء قدرات ممارسيها والحماية من المخاطر التكنولوجية.
كما تجدر الإشارة إلى أن السعودية واحدة من أكثر دول المنطقة اهتمامًا بالاعتماد على الدبلوماسية الجديدة في شكلها الرقمي، دون إغفال جوانب الدبلوماسية التقليدية، وهو الاهتمام الذي ساعد المملكة في كسب صورة ذهنية أكثر قوة بما يتناسب مع تطلعات رؤية 2030.