أضحى تداول المحتوى الرقمي سمة أساسية من سمات العصر الراهن بما يشهده من تطور تقني متسارع، ومع بروز وسائل التواصل الاجتماعي وتعدد مجالات استخدامها باتت مصطلحات مثل التضليل الإعلامي، والشائعات الرقمية، والمحتوى الرقمي الزائف، أكثر شيوعًا مما كانت عليه من قبل، وقد تزامن ذلك مع تطور مفهوم النشر، إذ سهلت تلك المنصات بشكل كبير من عملية تبادل المحتوى الرقمي الزائف، ودفع ذلك عددًا من الباحثين وعلماء الاتصال إلى تبني عدة أطر نظرية فلسفية تنطلق من مدخل التربية الإعلامية لتركز على توعية الأفراد، وتعمل على تنمية تفكيرهم النقدي.
وانطلقت تلك الأطر النظرية من افتراض وجود أبنية معرفية يرتبط بعضها بالمحتوى وآلية التفاعل معه، والبعض الآخر يرتبط بالمتلقي ومدى امتلاكه لمهارات التفكير النقدي أو بالقائم بالاتصال وأدواره وفاعلية مشاركته النشطة.
وبوجه عام، قامت هذه الأطر النظرية على فرضية رئيسية تتمثل في أن امتلاك الأفراد للمهارات الأربع للتربية الإعلامية الرقمية التي تتمثل في مهارة الوصول والتحليل والتقييم وإنتاج المحتوى، يقلل من الآثار السلبية للمحتوى الرقمي الزائف الذي يتم تداوله عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
واللافت أن هذه الأطر النظرية لم تتطرق إلى محاولة تفسير علاقة المهارات الأربع التي تنطوي عليها التربية الإعلامية الرقمية بكيفية تداول ذلك المحتوى الرقمي الزائف. وهذا ما ركزت عليه دراسة جديدة نشرتها مجلة البحوث الإعلامية الصادرة عن كلية الإعلام بجامعة الأزهر، تحت عنوان: “آليات تداول الشباب العربي للمحتوى الرقمي الزائف عبر وسائل التواصل الاجتماعي: نموذج مقترح في إطار مدخل التربية الإعلامية الرقمية”.
مشكلة وعينة الدراسة وأهدافها
تتمثل مشكلة الدراسة في تطوير نموذج مقترح لرصد وتفسير العلاقة بين مهارات التربية الإعلامية الرقمية من ناحية، وآليات تداول المحتوى الرقمي الزائف من ناحية أخرى، وذلك في محاولة لاستكشاف دور هذه المهارات في إنتاج تلك الأساليب، فضلًاعن رصد العوامل المؤثرة في بناء وتشكيل هذا الدور.
وقد تم إجراء الدراسة بالتطبيق علـى عينة قوامها (392) مفردة بواقع 99 مفردة مـن المملكـة العربيـة السـعودية، و100 مفـردة مـن الإمارات و97 مفـردة مـن مصـر، و96 مفـردة مـن تونس.
وتوزعت الخصائص الديموغرافية لعينة الدراسة كالتالي: بالنسبة للنوع جاءت نسبة الذكور 57.1% مقابل الإناث 42.9% ، وفيما يتعلق بالمستوى التعليمي شكّل الحاصلون على مؤهل جامعي 76.3%من إجمالي العينة، أما الحاصلون على مؤهل قبل جامعي فنسبتهم 13.8، بينما الحاصلون على مؤهل فوق جامعي 9.9%.
وبالنسبة للمستوى الاقتصادي الاجتماعي، شكّل أصحاب الدخل المتوسط 46,4%، وأصحاب الدخل المرتفع جاءت نسبتهم 34,7%، أما أصحاب الدخل المنخفض 18,9%. وقد رُوعي في اختيار أفراد العينة مطابقتها وملاءمتها لهدف الدراسة المتمثل في تقديم نموذج مقترح لوصف وتفسير العمليات المرتبطة بتداول المحتوى الرقمي الزائف، وذلك في إطار مدخل التربية الإعلامية الرقمية، والمهارات التي ينطوي عليها هذا المدخل كمقدمات تفضي إلى نتائج يتم اختبار منطقية حدوثها.
نموذج تفسيري للعلاقة بين مهارات التربية الإعلامية الرقمية وآليات تداول المحتوى الزائف
وسعت الدراسة إلى إنتاج رؤية بنائيـة نظريـة تفتـرض ارتبـاط امتلاك كل مهارة من المهارات التي ينطوي عليها مفهوم التربية الإعلامية الرقميـة (الوصول/التحليل / التقييم/ إنتاج المحتوى) باتخـاذ قرار تداول المحتـوى الزائـف عبـر مواقـع التواصـل الاجتمـاعي مـن ناحيـة، وبتحديـد شـكل هذا التداول مـن ناحيـة أخـرى. ويشـمل الإطـار الفلسـفي للنمـوذج المقتـرح ثلاثـة أبنيـة مـن المتغيرات:
البناء الأول (المتغيرات المستقلة):
يتألف من 4 متغيرات رئيسية يجسد كـل منهـا إحـدى المهـارات الأربـع المكونة لمفهوم التربية الإعلامية الرقمية وذلك كما يلي:
مهارة الوصول للمحتوى: تعني قدرة الفرد على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وانتقاء المحتوى المرغوب دون غيره، والتعرف على رموز هذا المحتوى، واستكشاف الأبعاد المرتبطة به، فضلًا عن امتلاك القدرة على استخدام البرمجيات التي تمكنه من التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي.
مهارة تحليل المحتوى: يقصد بها قدرة المستخدم على تحديد مصدر المحتوى، وإدراكه لتوجهات الوسيلة، وخصائصها، وطبيعة الخطاب المقدم عبرها، وجمهورها المستهدف.
مهارة تقييم المحتوى: ترتبط بمهارات التفكير العليا التي تنطوي على امتلاك القدرة على التمييز بين الحقائق والادعاءات، وتحري التحيز، واستكشاف وفهم الخلفيات السياسية والأيديولوجية والاقتصادية للمحتوى الرقمي، بالإضافة إلى القدرة على نقد المحتوى الرقمي وفق معايير موضوعية.
مهارة إنتاج المحتوى: تعني قدرة المستخدم على توظيف الكم الهائل من المعلومات المتاحة في بيئة الإعلام الرقمي لإنتاج محتوى يقدمه عبر المنصات الرقمية المختلفة، للتعبير عن آرائه ووجهات نظره ومواقفه.
البناء الثاني (المتغيرات الوسيطة):
تتمثل تلك المتغيرات في القدرة على كشف المحتوى الزائف، وإدراك محددات صناعة هذا المحتوى، والتنبؤ بتأثيراته، ومدى فهم دلالاته؛ وتم اشتقاق هذه المتغيرات من نموذج البناء المعرفي، وكذلك متغير مستوى التحصين بأبعاده الثلاثة (التعرض الانتقائي، الوساطة، فرضية تأثرية الآخرين) الذي تم اشتقاقه من نموذج التحصين أو اللقاح.
بالإضافة إلى متغيرات: إدراك شدة تهديد المحتوى الزائف، ومدى فاعلية الاستجابة له، ودرجة الفاعلية الذاتية للمستخدم، وتم اشتقاقها من النموذج التفاعلي أو التشاركي القائم على الإطار الفلسفي لنموذج دافع الحماية.
البناء الثالث (المتغيرات التابعة):
ينقسم هذا البناء إلى شقين رئيسين: يتعلق الأول بعملية اتخاذ قرار تداول المحتوى الزائف من عدمه، ويضم الشق الآخر ثلاث مجموعات فرعية تـُجسد الأساليب المختلفة لتداول المحتوى الرقمي الزائف والتي تم تطويرها استنادا إلى تلك القدرات المُتضمنة في كل مهارة من مهارات التربية الإعلامية الرقمية، وتتمثل هذه الأساليب وفق الإطار المفاهيمي لكل منها فيما يلي:
أسلوب التداول بالنشر المباشر: يقوم على مجرد مشاركة المحتوى الرقمي الزائف أو إعادة نشره بشكل مجرد، دون الخوض في أي عملية أخرى.
أسلوب التداول بالتصديق: يتجاوز هذا الأسلوب حدود النشر المباشر للمحتوى، لتقديم ما يفيد تأييد هذا المحتوى.
أسلوب التداول بالاستفهام: يقوم في جوهره على إعادة نشر المحتوى الرقمي الزائف مع تقديم ما يفيد الاستفهام عن هذا المحتوى.
أسلوب التداول بالتعجب: يشبه الأسلوب السابق، وإن كان يختلف عنه في استخدام أداة تفيد التعجب وليس الاستفهام.
أسلوب التداول بالتفسير: يقوم على مشاركة المحتوى الزائف عبر وسائل التواصل الاجتماعي من خلال تقديم تفسير مباشر لهذا المحتوى (نص مكتوب من قبل المستخدم) أو غير مباشر (الاستعانة بمحتوى آخر سواء أكان نصًّا أو صورة أو مقطع فيديو يفسر المحتوى الزائف).
أسلوب التداول بالتشكيك: يقوم على مشاركة المحتوى الزائف عبر وسائل التواصل الاجتماعي بصحبة عبارة تفيد الشك أو عدم تحمل مسؤولية هذا المحتوى، وتدعو إلى ضرورة التيقن من صحته.
أسلوب التداول بالنقد: يقوم على مشاركة المحتوى الزائف عبر وسائل التواصل الاجتماعي من خلال تقديم رؤية تحليلية ونقدية له إما بعرض أوجه القصور وعدم المنطقية فيه، أو بتوضيح التناقض داخل بنيته في ضوء السياقات المختلفة.
أسلوب التداول بالتصحيح: يقوم على مشاركة المحتوى الزائف عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع تقديم النسخة الحقيقية لهذا المحتوى، وذلك إما بشكل مجرد (كما هو)، أو مدعوم بالأدلة والبراهين والمصادر التي تؤكد زيفه.
أسلوب التداول بالاستثمار: يقوم على مشاركة المحتوى الزائف عبر وسائل التواصل الاجتماعي في إطار يعكس تحقيق فائدة ما للمستخدم، أو للمجتمع.
أسلوب التداول بالسخرية: يقوم على مشاركة المحتوى الزائف عبر وسائل التواصل الاجتماعي بصحبة رموز أو تعبيرات أو صور تفيد التهكم من هذا المحتوى.
نتائج وخلاصات الدراسة
لقــد كشــفت نتــائج الدراســة عــن وضــوح تــأثير كل من ســلوك مســتخدمي وســائل التواصــل الاجتمــاعي وتحيــزاتهم الشخصــية وكثافــة اســتخدامهم علــى شــدة العلاقــة بــين مســتوى امـتلاكهم مهـارة الوصـول للمـواد المنشـورة على تلك المنصات، ومـدى اتخـاذهم قـرار تداول المحتوى الزائف، إذ إن ارتفـاع كثافـة الاسـتخدام وتعـدد أنمـاط التفاعـل يفسحان المجال أمــام مســتخدمي وســائل التواصــل الاجتمــاعي ليكونــوا عُرضــة لمئــات الأخبــار والمنشــورات والتغريـدات المنشـورة؛ وهـو مـا قـد يقـودهم لاتخـاذ قـرار تـداول المحتـوى الزائف في ظل ثقتهم بمن سبقوهم إلى تداوله، وعدم قدرتهم علـى كشـف مـا بـه مـن تحريـف وزيف؛ الأمر الذي يؤدي إلى اتخاذ قـرار التـداول دون التفكيـر أو البحـث في طبيعـة المحتـوى المتداول، ويضاف إلى ما سبق التأثيرات المتباينة للتحيزات المسبقة على درجـة حكـم الفـرد علـى مصـداقية المحتـوى.
وخلصت الدراسة أيضًا إلى وجــود تــأثيرات متباينــة لمتغيــرات: تحديــد الاحتياجـات مـن المحتـوى، والتعـرض الانتقـائي لـه، واستكشـاف طبيعتـه، علـى العلاقـة بـين مسـتوى امـتلاك مهـارة الوصـول للمـواد المنشـورة، ومـدى اتخاذ قرار تداول المحتوى الزائف.
كما وجدت الدراسة علاقـة ارتباطيـة دالـة إحصائيًا بين مسـتوى امـتلاك مسـتخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لمهارة التحليل، وأسـاليب تـداولهم للمحتـوى الرقمـي الزائـف المنشـور عبر مواقع التواصل. وأثبتـت النتـائج ارتباط مستوى امـتلاك تلك المهـارة بمـدى اسـتخدام أسـاليب التـداول بالنشر المباشر، أو بالتصديق، أو بالاستفهام، أو بالتعجـب في إعـادة نشـر المحتـوى الزائـف عبـر وسـائل التواصـل الاجتمـاعي، وقـد يرجـع ذلـك إلـى أن امـتلاك الأفـراد لمهارة التحليـل التـي تقـوم في جوهرهـا علـى فهـم أبعـاد المحتـوى، ومعرفـة خصـائص الوسـيلة التـي تقدمـه، ويقـودهم إلـى التفاعـل عبـر هـذه الوسـيلة إمـا بتوجيـه الاستفسـارات حـول ذلـك المحتـوى أو بالتعجب منه، دون الانخداع بزيفه.
وأظهرت نتائج الدراسة وجود علاقة ارتباطية دالة إحصائيًّا بين مسـتوى امـتلاك مسـتخدمي وسـائل التواصـل الاجتمـاعي لمهـارة تقيـيم المـواد المنشـورة عبـر هـذه الوسـائل مـن ناحيـة، ومـدى اسـتخدامهم أسـاليب التـداول بالتفسـير، أو بالتشكيك، أو بالنقد في إعادة نشر المحتوى الزائف من ناحية أخرى.
كما يشير النمـوذج المقتـرح بالدراسـة إلـى تـأثير متغيـرات كـ(تحصـين مسـتخدم وسـائل التواصل الاجتماعي، ودافع الحماية لديه، وبنائـه المعـرفي) في العلاقـة بـين مسـتوى امتلاك مهارة بناء المحتوى الرقمي عبر هذه الوسائل، ومدى اسـتخدام أسـاليب التـداول بالتصـحيح أو بالاسـتثمار أو بالسـخرية في إعـادة نشـر المحتـوى الزائـف عبرهـا.
وفي هـذا الإطار، شكلت درجـة الفاعليـة الذاتيـة لـدى المسـتخدم متغيـرًا بارزًا في تحديد شدة تلك العلاقة، نظرًا لتباين تلك الفاعلية من مستخدم لآخر من ناحية، وتباين الأهداف المنتجة لها من ناحية أخـرى.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الاهتمام بالتربية الإعلامية الرقمية وإكساب الأفراد المهارات الأربع التي تتضمنها تلك العملية، يعد أداة أساسية في الحد من انتشار المحتوى المضلل على منصات التواصل الاجتماعي، وكذلك في القدرة على نقد هذا المحتوى وإثبات زيفه بما يوفر قدرًا أكبر من الحماية للمجتمع إزاء ذلك التحدي الذي لا يمكن مكافحته فقط من خلال الأدوات التشريعية أو التدابير التقنية، بل إن تأهيل الفرد ليكون قادرًا على الحكم على المحتوى وكشف التضليل هو المكون الأهم في معادلة مكافحة الشائعات والمحتوى الرقمي الزائف.
6 دقائق