تركّز وسائل الإعلام الجديدة على توظيف التكنولوجيا الحديثة ورقمنة المحتوى، وهي عمليّة تُثير تداعيات إيجابيّة وسلبيّة على الأفراد والمجتمع ككُل، حيثُ تؤدي رقمنة التواصل بين الأشخاص إلى رقمنة الثقافة والمجتمع في آن واحد، ورغم مزايا التواصل عبر التكنولوجيا من حيث السرعة والسهولة فإنّها تطرح آثارًا سلبيّة مرتبطة بـ”عملية ترحيل” الأفراد إلى المساحات الافتراضيّة، التي تساهم في تحويل الثقافة الحاليّة إلى افتراضيّة.
ويتولّد عن انتقال الثقافة إلى العصر الرقميّ التحوّل إلى ثقافة النسيان، حيثُ يحدث انقطاع في استمراريّة الدور الذي يلعبه الفرد في الحفاظ على القيم الثقافيّة التقليديّة القائمة التي يكتسبها من مجتمعه.
الوسائطُ الجديدة وتغييرُ المفهوم التقليديّ للتفاعل الاجتماعيّ
وتُشير دراسة نشرتها مجلة “INFORMATOLOGIA” المعنيّة بعلوم المعلومات، إلى أنّ الإنترنت والوسائط الجديدة مكنتا الإنسان المعاصر من الوجود في مساحة اجتماعيّة افتراضيّة بديلة، ما أحدث تغييرًا أثّر بشكل مباشر على المفهوم التقليدي للتواصل والصداقة، وجميع الجوانب الأخرى للتفاعل الاجتماعيّ، لافتةً إلى أنّ تشكيل مجتمع افتراضيّ يتجاوز كافة حدود المجتمع المحيط بالفرد مباشرة يتعارض بالتأكيد مع الطريقة التي يختبر بها الواقع والهويّة والتقاليد.
وتوفر الحياة والعلاقات عبر شبكة الإنترنت إمكانية الترابط والتخفي من الآخر في الوقت نفسه، فبمساعدة التكنولوجيا يُقبل الأفراد بشكل متزايد على “الاتصالات غير الرسميّة” والعلاقات الاجتماعيّة السطحيّة العرضيّة.
بعبارة أخرى، مكّنت الوسائط الجديدة من إنشاء مساحات اجتماعيّة افتراضيّة، تعمل على ربط مستخدميها من خلال تقديم واقع بديل لهم، وغالبًا ما يؤدي الاعتراف، وقبول القيم الثقافية المختلفة للأصدقاء المكتسبين في هذا الفضاء العالمي إلى الابتعاد عن الثقافة الأساسيّة، والقيم المكتسبة من المجتمع الأصليّ.
ويُؤثر الواقع المُحاكي لوسائط الإعلام الجديد على الهويّة الشخصيّة والثقافيّة الحاليّة للفرد والمجتمع الأساسيّ، من خلال جعل الثقافة التقليديّة للمجتمع تتبنى خصائص ثقافة العُزلة التي يتواصل فيها الأفراد مع الشاشات.
فتلك الثقافة الافتراضيّة تُبْعِد الأفراد عن الثقافة الأساسيّة التي جاؤوا منها، وبذلك يبني المجتمع نظامًا اجتماعيًّا موازيًا وثقافةً عالميّةً هجينةً، ويَعْزِف عن القيم الثقافيّة التقليديّة، وفي مثل هذه البيئة يَحْدُث انقطاع في عمليّة استمرار التذكُّر بتلك الثقافة التقليديّة.
المجتمعُ الافتراضيُّ والابتعادُ عن الثقافة الأوليّة
وتناولت العديد من الأدبيّات السابقة مسألةَ تأثير وسائل الإعلام الجديدة والتقنيّات المعاصرة على التخلي عن الثقافة الأوليّة من خلال إنشاء مجتمعات افتراضيّة موازية، تساهم في الابتعاد عن القيم الثقافية التقليديّة، ففي هذا الإطار قدَّم هوارد راينجولد، الكاتب الأمريكيّ المتخصصّ في الآثار الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة لوسائل الاتصال الحديثة مصطلح “المجتمع الافتراضيّ”.
أمّا هولمز ديفيد أستاذ الإعلام في جامعة سان فرانسيسكو الأمريكيّة فأطلق عليها اسم “المجتمعات الزائفة”، مشيرًا إلى أنّها شبكة اجتماعيّة متعددة الأبعاد أُنشئت عن طريق الاتّصال بين العديد من المجموعات ذات الأهميّة المتساويّة، حيثُ توفّر للمستخدمين سهولة الاتصال والترفيه، على عكس المجتمع الأساسيّ المعروف بالمسؤوليات المحددة بدقة والواجبات المُصاحبة.
ويتيح المجتمع الافتراضيّ تبادل المعلومات والمواجهة التفاعليّة للآراء، وإنشاء الصداقات؛ لذلك يمكن القول: إن الاتصالات الافتراضية تتغلغل بعمق في جميع مجالات العلاقات الاجتماعية، إلّا أنّ رواد المجتمعات الافتراضيّة عند قطع الاتّصال بالإنترنت يعودون إلى بيئتهم التقليديّة أي المجتمع الحقيقيّ، ويواجهون تصادمًا بين الثقافات والتجارب عبر الإنترنت وخارجه.
وعلى هذا النحو، خلُص ديفيد سيلفر الباحث في جامعة لندن كوليدج إلى أنه يمكن فهم الثقافة الإلكترونية على أنها سلسلة من المفاوضات التي تجري في كل من المجتمعات عبر الإنترنت، وأيضًا غير المتّصلة بالإنترنت.
وتعتمد الثقافة دائمًا على التقاليد والتراث الذي يتم ترسيخه من خلال وعي الأفراد بشكل مستمر، وينتقل إلى الأجيال القادمة، فالثقافة هي الجهة المنظِّمة للحياة والهويّة البشريّة، وقد أدى ظهور الإنترنت والمجتمعات الافتراضية إلى إنشاء فضاء هجين يمثّل مساحة مفاهيمية أُنشئت من خلال دمج المساحات الماديّة والرقميّة.
ويُمثّل الفضاء الافتراضيّ انتقال ما بعد الحداثة من فضاء إقليميّ بشريّ إلى فضاء غير إقليميّ بوساطة الكمبيوتر، يشهد إحلالًا لثقافة المستخدم بثقافة افتراضيّة جديدة.
وتبدو ثمّة مخاوف مِن أنّ مثل هذا الشكل الهجين للثقافة يُمكن أن يَفرض أبعادًا ثقافيّة جديدة على مستخدمي الشبكة الافتراضية، تختلف عن القيم الثقافية التي قبلها المستخدمون كأجزاء من ميراثهم وهويّتهم قبل الدخول إلى الفضاء الافتراضيّ.
وتجدر الإشارة هنا إلى التوحيد الثقافيّ الموجود في الثقافة العالمية الذي يمحو التفاصيل التقليديّة، ويؤدي إلى عزلة معرفية محتملة، حيث الإفراط في الاعتماد على المجتمع الذي أُنشئ حديثًا، وأيضًا “فقدان ذاكرة الماضي”.
فالثقافة التقليديّة (الأساسية) هي ثقافة تذكُّر، تضم صور الماضي التي يخلقها الأفراد والجماعات في مواقف معيّنة من أجل استخدامها لتفسير الحاضر، وإنشاء رؤية للمستقبل، وتحديد الهويات الخاصة بهم والمحافظة عليها.
وتؤدي الذكريات وظيفة مهمّة في إطار النظام الاجتماعي، نظرًا لأنّ الأفراد لا يتذكّرون فقط تجاربهم الخاصة، ولكن أيضًا تجارب الآخرين في مجموعة ما، والذين يكونون على دراية بها لانتمائهم إلى تلك المجموعة المحددة نفسها.
وتتحوّل ثقافة التذكُّر بفعل عمليّة الرقمنة إلى النقيض أي ثقافة النسيان، فالتخزين الرقميّ تخزين مؤقّت للذكريات يعمل على محو الذاكرة، فالملفات الرقميّة والمعالجة التلقائيّة للمعرفة هي تعميم لفقدان الذاكرة الذي سيكون المحصِّلة النهائيّة لصناعة النسيان، عندما يتم استبدال جميع “المعلومات التناظرية-analog information” (السمعية والبصرية وغيرهما) بواسطة ترميز رقمي محوسب”.
وفي هذا الصدد، يُحذِّر نيكولاس كار، الكاتب الأمريكي المتخصصّ في تأثير التكنولوجيا على الثقافة، من أنّ “تفويض التذكر إلى بنوك البيانات الخارجية يُمثّل تهديدًا متزامنًا ليس فقط لعُمق وتفرُّد الذات، ولكن أيضًا لعُمق وتفرُّد الثقافة التي نشارك فيها جميعًا.
فقدانُ الذاكرة حول الماضي وظهور الثقافة الهجينة
وهدفت الدراسة التي نشرتها مجلة “INFORMATOLOGIA” إلى تحديد كيف ينظر مستخدمو الشبكات الاجتماعيّة الافتراضيّة إلى ارتباط دخولهم المجتمع الافتراضيّ بالتغييرات على الثقافة التقليديّة، وخلصت إلى ثلاث نتائج أساسيّة:
أولها أن المجتمع البديل يبني نظامًا اجتماعيًّا موازيًا يؤدي إلى “فقدان الذاكرة حول الماضي”، فالتفاعلات الاجتماعيّة لملايين الأشخاص حول العالم، جنبًا إلى جنب مع إنشاء هوياتهم الافتراضيّة والعلاقات الاجتماعيّة، يؤدي ذلك إلى السيناريو الذي تُشكّل فيه تكنولوجيا الكمبيوتر والاتصالات الافتراضيّة فعليًّا المجتمع الموازي والفضاء الثقافيّ الافتراضيّ الجديد.
وفي مثل هذه البيئة، هناك انقطاع في استمرار الثقافة الأوّليّة؛ لأن الناس الذين يقبلون الثقافة المُنشأة حديثًا ينسون ثقافتهم الخاصّة.
وكشفت النتائج عن علاقة ذات دِلالة إحصائيّة بين مواقف المستجيبين من حقيقة أن توثيق الذكريات في ملفات رقميّة يؤدي إلى الاغتراب عن الثقافة الأوليّة، ممَّا يؤدي إلى ظهور ثقافة النسيان.
وأظهرت النتائج أيضًا أنّ هناك علاقة ذات دِلالة إحصائيّة بين مواقف المستجيبين من أنّ المجتمع الافتراضي يؤثر على الهويّة الشخصيّة والثقافيّة الحالية للفرد، ويؤدي إلى خلق ثقافة هجينة، نتيجة تعرُّض القيم الثقافيّة الأساسيّة لتأثير الثقافات الأجنبيّة، وقبول القيم التي يتم تبادلها ومشاركتها في المجتمعات الافتراضيّة، والتي تؤثر على التغيير في نظام القيم الأساسيّة.
ويُمثل هذا المزيجُ من الثقافات في الواقع ثقافةً هجينةً جديدةً أُنشئت بواسطة تأثير الرقمنة والوسائط الجديدة.
كما أنّ المجتمعات الافتراضيّة تُؤثر على المستخدمين، وأنّ الاستهلاك اليوميّ للثقافات الأجنبيّة والقيم الثقافيّة المختلفة يُقلل من الارتباط بالثقافة الأساسيّة، حيث يقوم مستخدمو الشبكة الافتراضيّة بتعديل ثقافتهم الأساسيّة من خلال تبادل القيم الثقافيّة للآخرين وقبولها، ففي الفضاء الافتراضيّ تنشأ ثقافة موحدة تمحو الخصائص التقليديّة.
وأخيرًا.. يتضح ممَّا سبق أنّ الانخراط في المجتمعات الافتراضيّة يترك بصماتٍ واضحةً على ثقافة الفرد والمجتمع، لدرجة تؤدي إلى ذوبان الهويّة والثقافة التقليديّة، فالإعلام الجديد والتكنولوجيا يشكلان إحدى أبرز أدوات العولمة الثقافيّة، التي تؤثر على الثقافات المحليّة، وتماسك النسق القيميّ للمجتمعات.