تقدير موقف

الاستقطابُ الحاد يضعُ الولاياتِ المتحدة أمام سيناريوهاتٍ قاتمةٍ

يومًا بعد يوم يزداد الوضع الأمريكيّ صعوبةً وغموضًا، فمنذُ انتخابات الرئاسة الأمريكيّة الأخيرة تشهد البلاد وضعًا شديد التعقيد، بعدما تم الإعلان عن فوز المرشح الديمقراطيّ جو بايدن على منافسه الجمهوريّ الرئيس المنتهية ولايتُه دونالد ترامب، الذي يرفض الاعتراف بنتيجة الانتخابات.
وكلّما اقترب موعد التنصيب الرسميّ لبايدن رئيسًا للولايات المتّحدة المقرّر ظُهر الأربعاء الموافق 20 يناير الجاري، يزداد الوضع خُطورةً، خاصّةً مع توقُّع البعض استمرار تصعيد ترامب، وتكهنهم برغبته في إحداث فوضى قبل رحيله، مُعتمدين على حُجّة أساسيّة مفادها أنّ الرئيس المنتهية ولايتُه شخصيةٌ لا يمكن توقّع قراراتها.
المُعطياتُ على الأرض:
تُشير الأوضاع على أرض الواقع إلى أنّ الطرفين يسعيان إلى استخدام كُلّ أوراق الضغط والمساومة التي يمتلكانها؛ من أجل تعزيز موقفيهما وإضعاف الطرف الآخر، وذلك على النحو التّالي:
أولًا بالنسبة لدونالد ترامب:
إنّ تحركات ترامب معزَّزة بكتلة شعبية مُمثلة في القاعدة التصويتيّة التي انتخبته وتزيد على 73 مليون مواطن أمريكيّ، ومن المتوقع أنْ تلقى سياساتُه خلال الساعات القادمة تأييدها أو نسبة ليست بالقليلة منها، خاصّةً وأنَّ هذه القاعدة متأثّرةٌ بخطاباته الشعبوية، ومقتنعة بنظريّة المؤامرة التي يتبناها.
ثانيًا بالنسبة لجو بايدن:
تحرّك جو بايدن وحزبُه الديمقراطيّ من أجْل عزل ترامب من منصبه قبل أيام من تركه السلطة لصالح الرئيس المنتخب، حيث وجّه مجلس النواب لترامب اتهاماتٍ بالتحريض على “تمرُّد دامٍ”.
وتتضمن اللائحةُ التي أقرها مجلس النواب اتهام ترامب بـ “إصدار بيانات كاذبة مِرارًا وتكرارًا تؤكد أن نتائج الانتخابات الرئاسيّة كانت نتاج تزوير واسع النطاق”، وتحريض الحشد الذي قام بتخريب مبنى الكابيتول، وجرح وقتل موظفي إنفاذ القانون، وتهديد أعضاء الكونجرس.
واللافت كان تأييد 10 نواب جمهوريّين لتوجيه الاتهام لترامب خلال تصويت مجلس النواب بأغلبيته الديمقراطيّة، ليصبح ترامب أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يتمُّ تحريكُ إجراءات العزل بحقّه مرتين.
ومن المقرر أن ترسل رئيسة مجلس النواب الأمريكي الديمقراطية نانسي بيلوسي لائحة الاتهام ضد ترامب إلى مجلس الشيوخ الأسبوع الجاري.
ولن تبدأ محاكمة عزل ترامب الثانية إلى حين عودة مجلس الشيوخ من العطلة المقرر انتهاؤها في 19 يناير الجاري، ممّا يعني أنّ أقرب وقت لبدء المحاكمة من المرجح أن يكون في الساعة الواحدة ظُهر يوم 20 يناير، وهو اليوم نفسه الذي سيحلف فيه الرئيس الأمريكيُّ المنتخَب جو بايدن اليمينَ.
ويعكس حِرص الديمقراطيّين على المُضي قُدمًا في محاكمة ترامب، رغم أنّ ولايته لم يتبق فيها سوى أيام، حجم العداء الشديد تجاهه، ورغبتهم في إدانته التي ستؤدي لحظر توليه لأي منصب فيدرالي كبير في المستقبل، ما يعني عدم إمكانية خوضه انتخابات الرئاسة الأمريكيّة في عام 2024، بحسب صحيفة “ذا جارديان” البريطانية.

إجراءاتٌ أمنيّةٌ غير مسبوقةٍ:
في ظلّ هذه الأجواء المتوترة، تشهد العاصمة الأمريكيّة واشنطن إجراءات أمنيّة مشدّدة وغير مسبوقة حوّلتها إلى ثكنة عسكريّة، حيث انتشرت قوات الحرس الوطني وعناصر من الجيش الأمريكي في عدة نقاط أهمها محيط مبنى الكونجرس والبيت الأبيض، وذلك خوفًا وتحسبًا لوقوع أعمال شغب وعنف بالتزامن مع حفل تنصيب بايدن.
وأخذ مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) يدقق في التاريخ الأمنيّ لجميع أفراد الحرس الوطنيّ المتجهين إلى العاصمة واشنطن لتجنب هجوم داخلي، وفقًا لصحيفة “ذا هيل” الأمريكية.
وتعكسُ تلك الإجراءاتُ غير المسبوقة الحذَر الأمنيَّ الكبير، خاصّةً بعد أحداث اقتحام مبنى الكابيتول، وفي ظل تقارير أمريكية أفادت بأن أفرادًا من عناصر الأمن والعسكريين السابقين شاركوا في أعمال الشغب بمبنى الكابيتول، حيث تُحقّق إدارات الشرطة والأفرع العسكرية لتحديد هويتهم.
ووفقًا لمحطة “سي بي إس” الإخبارية الأمريكية، فإن مقتحمي الكابيتول استخدموا إشارات يد مُماثلة للتي يستخدمها الجيش للتواصل بينهم خلال الهجوم على الكونجرس .
كما تشهدُ عواصمُ الولايات الأمريكيّة استعداداتٍ أمنيةً مشابهةً، من خلال إقامة الحواجز واستدعاء الحرس الوطني للتصدي ومواجهة تجمُّعات محتملة مؤيِّدة لترامب، حيث حذّر مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف.بي.آي) من احتمال حدوث احتجاجات مسلحة في جميع عواصم الولايات.

سيناريوهاتٌ متوقعةٌ:
أمام هذا الخروج الذي لم يكن يتمناه الرئيس المنتهية ولايتُه دونالد ترامب، ذهب البعض إلى وضع بعض السيناريوهات المبالغ فيها، ومنها:
1- إقدامُ ترامب على مغامرة غير محسوبة العواقب قبل تركه المنصب بشكل رسميّ، وتتمثّل في القيام بضربة عسكريّة ضد إيران، مصحوبة بإعلان حالة الطوارئ في البلاد. وقد عزّز أنصار هذا السيناريو وجهة نظرهم باتهام وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إيران بالسماح لتنظيم القاعدة بتأسيس مقرّ جديد له في طهران، الأمر الذي فسّره البعض بالتمهيد لضرب إيران.
إلّا أنّ الأوقع أنّ هذه الاتهاماتِ ربمّا تكون في إطار سياسة ترامب القائمة على تعقيد الملفات أمام خلفه جو بايدن، الذي سيكون مُضطرًّا إلى التعامل مع النظام الإيرانيّ على هذا النحو، ووضع بايدن أمام مسؤولياته في مواجهة هذا الخطر.
كما أنّها بمثابة رسالة للأمريكيّين بأنّ الإدارة الديمقراطيّة ستتعامل بشكل مرن مع النظام الإيرانيّ الداعم لتنظيم القاعدة المسؤول عن تنفيذ هجمات 11 سبتمبر 2001م.
2- خروجُ أعداد كبيرة من مُناصري دونالد ترامب من الجمهوريين في عدد من الولايات الأمريكيّة؛ رفضًا لتنصيب جو بايدن بشكل رسمي رئيسًا للولايات المتّحدة الأمريكيّة.
ويُعدُّ هذا السيناريو محتملًا إلى حدٍّ ما، خاصّةً في ظل حالة الاحتقان وتبنّي نظريّة المؤامرة، والزعم بتزوير الانتخابات.
وفي هذه الحالة سيكون موقف الجيش حاسمًا في إنهاء هذه الاحتجاجات المتوقَّعة، فالمؤكَّد أنَّ قوات الأمن والجيش ستواجه هذه التحرُّكات بشكل حازم، إلّا أنّ ما هو غير متوقَّع يتمثّل في حجم الخسائر الماديّة والبشريّة والتي ستحكمها الأعدادُ التي ستنزل إلى الشارع.
3- أمَّا السيناريو الثالثُ والذي يُعدُّ الأقربَ، هو حدوث بعض المناوشات هنا وهناك، ولكن سيتم السيطرةُ عليها بفضل التعزيزات الأمنيّة الكبيرة.

مستقبلُ ترامب السياسيُّ على المحكِّ
تُشيرُ كل المعطيات إلى أنّ مستقبل دونالد ترامب السياسي أصبح في وضع لا يُحسد عليه، فالإجراءاتُ التي اتّخذها عقب خسارته الانتخابات الرئاسيّة شكّلت فرصةً ثمينةً للديمقراطيّين للنَيْل منه وبدرجة ما من حزبه الجمهوريّ.
وبالرغم من أنّ الديمقراطيّين قد لا يتمكنون من عزْله وهو في منصبه، كون مجلس الشيوخ لن يستأنف عمله إلا يوم 19 يناير، ما يعني أنّ محاكمة العزل لن تبدأ على الأرجح قبل تنصيب بايدن، ولذلك لن يتمَّ عزلُ ترامب وهو يشغل صفةَ رئيس الولايات المتحدة، وهو أمر يُنذر بجدال دستوريّ لمّح إليه السيناتور الجمهوريّ البارز، توم كوتون، الذي صرّح بأنّ مجلس الشيوخ يفتقد إلى السلطة الدستوريّة اللازمة لإجراء مُحاكمة لعزل ترامب بمجرّد ترك منصبه، مُشيرًا إلى أنّ الفقهاء الدستوريّين وضعوا نصًّا بخصوص العزل كطريقة لإزالة أصحاب المناصب العامة، لكنْ لا يمكن استخدامُها ضدّ المواطنين العاديّين” في إشارة إلى وضع ترامب بعد انتهاء ولايته.
ومن المرجَّح أنْ يصبح السبب الذي يستند إليه كوتون لتبرير عدم التصويت لإدانة ترامب بمجرد مغادرته لمنصبه غطاءً سياسيًّا لأعضاء مجلس الشيوخ الآخرين في الحزب الجمهوريّ، للتصويت ضد لائحة الاتّهام التي أقرها مجلس النواب، حتى لو كانوا يعتقدون بأنّ ترامب ربما ارتكب جرائم تستوجبُ عزله.
ولذلك سيكون من الأجدى لترامب الخروج بهدوء والحفاظ على حظوظه في الترشح في انتخابات 2024، وهو أمر وارد خاصّةً مع وجود بعض التقارير التي تتحدث عن نيته خوض انتخابات الرئاسة القادمة، علمًا بأنّ كتلته التصويتيّة في انتخابات هذا العام ضخمةٌ ويمكن البناءُ عليها.

خِتامًا.. يمكن القول بأنَّ أيًّا من السيناريوهات السابقة هو بمثابة اختيار بين الأقل ضررًا للولايات المتّحدة الأمريكيّة، فما شهدته خلال الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة زعزع فكرة الولايات المُوحَّدة التي كانت أساسًا في قيام أمريكا، ففي السابق وبالرغم من التنافس الكبير بين الحزبيْن الديمقراطيّ والجمهوريّ، فإنّ الجميع يتعاون بعد فوز أحد المرشحين من أجل الأُمّة الأمريكيّة.
أمّا ما تشهده الولايات المتّحدة الآن فهو حالةُ استقطاب حادَّة، ربما يكون لها تداعياتها السلبيّة في قادم الأيام، وستَفرضُ على الرئيس المنتخب جو بايدن مسؤولياتٍ مضاعفةً من أجل إعادة بناء الثقة المفقودة، لذلك اختارت اللجنة المنظمِّة لحفل التنصيب شعار “أمريكا الموحَّدة”، الذي سيحضره ثلاثة رؤساء سابقون، هم باراك أوباما وجورج بوش الابن وبيل كلينتون، فضلًا عن نائب الرئيس المنتهية ولايتُه مايك بنس.
وفي المقابل، يظل موقف الرئيس دونالد ترامب عقب الانتهاء الرسميّ لولايته في 20 يناير عاملًا محوريًّا في مستقبل أمريكا الموحَّدة والمتماسكة.

زر الذهاب إلى الأعلى