يعبر الخطاب السياسي عن مجموعة من الأفكار والمبادئ والتصورات النظرية التي تحدد المثال المطلوب تحقيقه في الواقع، وتربط الماضي بالحاضر، وكذلك الحاضر بالمستقبل، وتحقق المشروع السياسي، وتخضع عملية إنتاج الخطاب السياسي لجملة من الشروط الاجتماعية والتاريخية تتحدد بدرجة تطور المجتمع ومكوناته الثقافية.
وتلعب اللغة السياسية دورًا مهمًا في تعزيز قوة الإقناع السياسي، فالكلمات في الخطابات السياسية للقادة تكون منتقاة وذات دلالات مقصودة، ولها أثرها على اتجاهات وسلوك الشعوب، وتتضمن توظيفًا للحجج والأدلة الإقناعية عند مخاطبة المتلقين.
وفي ظل مكانة الخطاب السياسي الرسمي على كافة المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، بات لتحليله واختباره أهمية بالغة خاصة عندما يسعى التحليل إلى التطرق لإشكالية العلاقة بين آليات وأساليب الإقناع الموظفة في الخطاب الرسمي الموجه لوسائل الإعلام المحلية والدولية، وبين كون هذا الخطاب إطارًا لتحليل الهوية وكيفية إدارة هذه الهوية لدى متلقي الخطاب.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة البحوث الإعلامية في عددها الصادر في يناير 2023، دراسة بعنوان “الخطاب الرسمي السعودي لوسائل الإعلام العربية والعالمية: دراسة تطبيقية على السياسات الداخلية وقضايا العلاقات الخارجية”، من إعداد الدكتور عبد الله بن عبد المحسن العساف، الأستاذ المشارك في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حيث سعت الدراسة إلى رصد وتحليل الخطاب الرسمي السعودي متمثلًا تحديدًا في الخطاب السياسي لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظهما الله، الموجه لوسائل الإعلام العربية والعالمية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية عبر الوقوف على فهم سياقات وظروف وتداعيات إنتاج هذه الخطابات داخليًا وخارجيًا، ثم التعرض للموقف من قضايا العلاقات الخارجية، وما يتضمنه الخطاب من تفسير للعلاقات والقوى الفاعلة المتضمنة، وذلك مع الأخذ في الاعتبار ما يعكسه وما ينقله هذا الخطاب من رسائل للعالم، خاصة في أوقات الأزمات أو الشائعات التي تستلزم ضرورة توجيه خطاب رسمي يستهدف الرأي العام المحلي والدولي.
- مجتمع وعينة الدراسة
يتمثل مجتمع الدراسة التحليلية في كافة المضامين التي يتناولها الخطاب الرسمي السعودي المقدم على المستوى السياسي، والصادر عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، أو سمو ولي العهد، حفظهما الله، وعلى مستوى اختلاف جنسية القناة الناقلة لهذه الخطابات سواء أكانت عربية أو أجنبية.
وأخضعت الدراسة 26 خطابًا وكلمة وحديثًا سياسيًا سعوديًا رسميًا للتحليل، انقسمت إلى 11 خطابًا لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، و15 خطابًا لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وجميعها كانت في الفترة ما بين عام 2015 وحتى عام 2021، ونقلتها وسائل الإعلام المختلفة في تغطيات مباشرة ومسجلة ومتاحة على موقع يوتيوب.
- مرتكزات عامة للسياسة السعودية
تشير الدراسة إلى أن الخطاب السعودي الرسمي يوضح استناد السياسات السعودية إلى عدد من المعطيات والمحددات التي تزيد من فاعليتها وتأثيرها على مختلف مستويات العمل والحضور المحلي والإقليمي والدولي.
ونوهت بتداخل شديد يصل إلى حد الامتزاج بين محددات كل من السياستين الداخلية والخارجية السعودية، مستعرضة تلك المكونات والتي في مقدمها التمسك بالتشريع الإسلامي والمحافظة على هويتها العربية وهو ليس التزاما باللغة وحدها، وإنما بما تمثله من هوية مشتركة تجمع المملكة بجيرانها العرب وغيرهم من الناطقين باللغة العربية، وقد عكس الخطاب الرسمي تمسك المملكة الدائم في الدفاع المتواصل عن القضايا العربية والإسلامية في المحافل الدولية بشتى الوسائل.
ومن بين المكونات أيضا القوة الاقتصادية والمالية، فالمملكة تشكل أكبر قوة اقتصادية في الشرق الأوسط، فهي تملك ثاني أكبر احتياطي نفطي عالمي وهي أكبر مصدر للنفط في العالم وثالث أكبر مالك في العالم لاحتياطيات النقد الأجنبي. وبالإضافة إلى المكونات السابقة، يأتي كذلك الانصهار بين أبناء الوطن، والاستقرار السياسي.
- ثوابت يقوم عليها الخطاب السعودي
استعرضت الدراسة مجموعة من الثوابت التي يقوم عليها الخطاب السعودي، وتمثل أبرزها فيما يلي:
- المتابعة النشطة للواقع الدولي وقراءة أحداثه بعمق والاستفادة من التوازنات الدولية وتوظيفها للصالح الوطني.
- العمل بجد ومثابرة في كل ما يتصل بقضايا الأمتين العربية والإسلامية.
- الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين والالتزام التام بالتعهدات والاتفاقات الثنائية.
- إقامة علاقات إيجابية مع القوى السياسية الدولية الصاعدة، والحرص على تعزيزها وتوثيقها واستثمارها للمصالح الوطنية.
- تقديم كل صور الدعم المادي والمعنوي للسياسات الدولية الرامية إلى تطوير الدول النامية ومساعدتها على النهوض ومواجهة التحديات.
- إدانة ورفض الإرهاب العالمي بكافة أشكاله، ودعم الجهود الدولية الرامية للتصدي له.
كما عكس الخطاب الرسمي السعودي اتصاف السياسة الخارجية السعودية بصفة أخلاقية مميزة تتمثل في تبنيها مبدأ مساندة ضحايا الحروب والنزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية والعمل على التخفيف عنهم ورفع معاناتهم.
- نتائج تحليل الخطاب الرسمي السعودي
خلصت الدراسة إلى مجموعة من النتائج أبرزها أن الخطاب الرسمي السعودي يعكس تبني المملكة نهجًا يقوم على التفاعل مع كل دول العالم، وبناء شراكات ممتدة مع كل الأطراف الدولية بما يحقق المصالح المشتركة، منوهة بأن المملكة في الوقت الذي تنفتح فيه على الجميع ترفض تمامًا أن تمارس عليها أية ضغوطات خارجية، كما لا تستجيب لأي إملاءات تتصادم أو تتعارض مع إرادتها المستقلة، وهي تقبل الاختلاف شريطة ألا يهدد أمنها أو يمس سلامة مواطنيها أو مسلماتها.
كما تلتزم المملكة بالمسؤولية الأخلاقية تجاه دول العالم التي تتعرض لكوارث أو أزمات، فتبادر بتقديم المساعدات والإغاثات الإنسانية للدول التي تتعرض لزلازل أو فيضانات أو براكين، وللمواطنين الذين يجدون أنفسهم في وسط نزاعات عسكرية مسلحة لا صلة لهم بها، وللمنظمات الخيرية العاملة في دول كثيرة بغرض إعلاء قيمة الإنسان والتماهي مع الدور الرسالي الذي ترى المملكة أن عليها القيام به.
أما على المستوى الداخلي، أوضحت الدراسة أن الخطاب الرسمي السعودي أبرز كيف أن السعودية تغيرت عما كانت عليه قبل سبع سنوات، لافتا إلى أن التطور الاجتماعي في المملكة يسير بالاتجاه الصحيح، كما أكد أن الإصلاحات الخاصة بالمرأة السعودية جاءت من أجل البلاد وليست استرضاء لأحد، وأن اتجاه التطور يسير وفق ما لدى المملكة من مقومات اقتصادية وثقافية وقبل ذلك الشعب السعودي وتاريخه.
كما تتبنى المملكة فكرًا دينيًا وسطيًا يرفض الغلو والشطط في فهم الدين مثلما تفعل جماعات مثل داعش والقاعدة والإخوان.
وختامًا، توصلت الدراسة إلى أن الخطاب الرسمي السعودي تتكامل فيه ملامح المملكة الجديدة التي أرادها الملك سلمان بن عبد العزيز، أيده الله، وتولى قوة الدفع نحوها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، فهي دولة عصرية مدنية تستلهم عناصر القوة من ثقافتها وتاريخها لبناء مستقبل مستدام، وهي تنفتح على الجميع لتحقيق الصالح المشترك دون سماح باختراق خصوصية المملكة أو الاعتداء على هويتها الخاصة، كما تحافظ على سياسة خارجية متوازنة تضمن لها تحقيق مصالحها، وتتبنى سياسة داخلية تعلي من قيمة التنمية.