تحظى المملكة العربية السعودية بصقل كبير في السوق العالمية للنفط، كونها أكبر مصدر للنفط في العالم، ما جعلها صاحبة كلمة فاصلة في تسعير الطاقة العالمية، فسياساتها الخاصة بالإنتاج وقيادتها للمنظمات والتحالفات المعنية بإنتاج النفط هي التي ترسم معالم السوق، ما يجعل لكل تصريح يصدر عن المملكة أو قرار تتخذه قيادتها الرشيدة بشأن ملف النفط مؤثرًا في الاقتصاد العالمي.
- تطورات سوق النفط
على مدار العام الماضي 2022، شهدت سوق النفط تقلبات حادة، حيث ارتفعت أسعار خام برنت مع انتعاش الاقتصاد العالمي بعد تباطؤ خيم عليه بفعل جائحة فيروس كورونا المستجد، حتى أن برميل النفط سجل 130 دولارًا في مارس من العام الماضي وهو أعلى مستوى له خلال 13 عاما، وقد دفع ذلك الوضع الولايات المتحدة التي تئن تحت وطأة التضخم وارتفاع أسعار البنزين إلى قيادة تحركات واتصالات دبلوماسية مكثفة بهدف الحصول على تعهدات بزيادة إنتاج النفط، لا سيما من المملكة العربية السعودية، لكن الرياض لم تستجب لتلك المساعي الأمريكية، لاعتبارات تتعلق برؤية المملكة للسوق والعوامل الجيوسياسية المؤثرة على حركتها.
بل إن تحالف “أوبك بلس” النفطي الذي تقوده السعودية وروسيا (يضم 13 دولة من أعضاء أوبك و10 غير أعضاء في المنظمة) اتفق على خفض الإنتاج بواقع مليوني برميل يوميا، أي نحو 2% من الطلب العالمي، بدءا من نوفمبر الماضي وحتى نهاية العام الحالي 2023، وقد جاء ذلك القرار استنادًا على قراءة للعوامل التي تؤثر في توجهات السوق، فبينما تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد العالمي سيواصل نموّه هذا العام والعام المقبل إلا أن هناك عدم يقين بخصوص وتيرة النمو، كما أن المدة التي تستغرقها الصين للتعافي بعد رفعها مؤخرا عمليات الإغلاق التي امتدت لفترات طويلة إثر ظهور جائحة كورونا لا تزال غير واضحة، هذا فضلا عن التضخم العالمي ومساعي البنوك المركزية حول العالم للسيطرة عليه.
- التسييس الغربي للنفط
وعلى وقع تأزم المشهد العالمي وارتفاع حدة التجاذبات بين الغرب وروسيا، اتفقت دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وأستراليا في الرابع من شهر فبراير الماضي، على تحديد سقف لأسعار المشتقات النفطية الروسية عند 60 دولارًا للبرميل، وجاء اللجوء إلى سياسة إقرار السقوف بغية إيجاد توازن داخل الغرب بين المتشددين على صعيد العقوبات ضد موسكو مثل بولندا ودول البلطيق من جهة، والحريصين على عدم قطع الغرب الموارد النفطية الروسية بالكامل عن الأسواق العالمية لأن من شأن ذلك أن يرفع الأسعار إلى حد كبير.
وتظهر استراتيجية السقوف السعرية ازدواجية المعايير الغربية عند التعامل مع ملف النفط، فالغرب الذي يتهم تحالف “أوبك+” بتسييس قراراته، يتجاهل أن تطبيق مثل تلك السقوف أيا ما كانت مبرراته يعني بوضوح تسييس النفط واستخدامه كأداة لممارسة الضغط دون اعتبار للتداعيات على استقرار السوق وفي غياب تام لقواعد العرض والطلب التي يفترض أنها الحاكمة والمنظمة لآليات السوق وحجم الإنتاج.
ولم تتوقف المسألة عند حدود السقوف بل إن بعض الدوائر السياسية في الغرب لا سيما في الولايات المتحدة، التي تعد أكبر مستهلك للنفط عالميًا، أعادت إلى الواجهة مقترحا تشريعيا يُعرف باسم “نوبك” يقضي بمعاقبة الدول التي تمارس ما يمكن اعتباره “ممارسات احتكارية” مرتبطة بقطاع النفط.
وكانت لجنة في مجلس الشيوخ الأمريكي قد مررت نسخة لمشروع القانون في مايو الماضي، وذلك بعد سنوات عديدة فشلت فيها محاولات لتمرير نسخ سابقة من “نوبك”.
وإذا حظي التشريع المقترح بدعم مجلسي النواب والشيوخ، ووقعه الرئيس الأمريكي جو بايدن، سيغير من قانون مكافحة الاحتكار بالولايات المتحدة ليرفع الحصانة السيادية التي تحمي الدول الأعضاء “أوبك+” وشركاتها الوطنية من المقاضاة، ما قد ينذر بتفاقم التوترات في سوق النفط ولجوء الدول المستهدفة بهذا التشريع للرد على ذلك التصعيد، ومما لا شك فيه سيكون لمثل هذا السيناريو التصعيدي تداعيات كارثية على الاقتصاد العالمي المتضرر بالفعل من تبعات وباء كورونا والحرب الدائرة حاليا في أوكرانيا.
- الخطاب السعودي المسؤول
وفي ظل تصاعد موجة التسييس للملف النفطي في الغرب، برز الموقف السعودي الذي يتسم بالمسؤولية والحرص على الاستقرار، وضبط بوصلة السوق، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، وقد رسمت تصريحات وزير الطاقة السعودي سمو الأمير عبد العزيز بن سلمان، لموقع “إنيرجي إنتليجنس” لاستخبارات الطاقة، المعالم الرئيسية لموقف الرياض من التطورات التي يشهدها قطاع النفط العالمي، وجاءت نبرة الخطاب قوية تجمع بين النصح والتحذير، حيث تضمنت ما يلي:
- التأكيد على أن وضع سقف لأسعار البترول سيؤدي لا محالة إلى عدم استقرار السوق
- إعلان رفض بيع البترول لأي دولة تفرض سقف أسعار على الإمدادات النفطية السعودية
- العزم على إبقاء اتفاقية “أوبك+” لخفض الإنتاج حتى نهاية العام
- التحذير من تأثير مشروع قانون نوبك والتوسع في فرض سقف الأسعار على تفاقم عدم استقرار السوق
- أهمية تطبيق سياسات تدعم الاستثمارات المطلوبة لزيادة القدرة الإنتاجية في الوقت المناسب
- ضرورة الحفاظ على مستويات مخزونات الطوارئ العالمية لتكون كافية ومناسبة
- إبراز جهود المملكة لزيادة قدراتها الإنتاجية بحيث تصل إلى 13.3 مليون برميل يوميا بحلول عام 2027.
ويظهر ذلك الموقف جملة من الحقائق المتصلة بالسياسة النفطية التي تنتهجها المملكة تتمثل في الاستقلالية والحرص على تحقيق المصلحة الوطنية، والسعي لضمان استقرار وتوازن أسواق النفط العالمية، فضلًا عن الرغبة في الحفاظ على تماسك التحالفات النفطية بين الدول المنتجة من أجل مصلحة الجميع.
كما يعبر بجلاء عن رفض أي محاولات تسييس للاقتصاد والسوق، مع التأكيد على وجوب التعامل مع ذلك الملف من منظور اقتصادي بحت لحماية الاقتصاد العالمي من تقلبات الأسواق البترولية. بالإضافة لإظهار الإلمام والفهم العميق للتحديات التي تواجه قطاع النفط مع توفير الحلول اللازمة لتجاوزها، ويؤكد أن التحرك الاستباقي هو جزء أصيل في نهج المملكة العربية السعودية الخاص بالتعامل مع تنمية وتطوير قدراتها النفطية.
دلالات تصريحات معالي الوزير:
عكست تصريحات صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز وزير الطاقة السعودي مجموعة من الدلالات، أبرزها:
- مكانة الدولة السعودية كقوة فاعلة رئيسية على الساحة الدولية خاصة في مجال الطاقة.
- عكس خطاب تصريحات معالي الوزير استقلالية القرار السعودي، كما أكد على مبدئية وثبات موقف المملكة، حيث سبق تأكيدها عبر بيان لوزارة خارجيتها صدر بتاريخ 13 أكتوبر 2022م على أن مجموعة أوبك بلس تتخذ قراراتها باستقلالية وفقًا لما هو متعارف عليه من ممارسات مستقلة للمنظمات الدولية.
- رفض المملكة التام لأي ضغوط أو ابتزازات تمارسها أي دولة أو جهة كائنة من كانت، وأن الحاكم في سياساتها هو احترام القرارات الدولية وتحقيق الاستقرار العالمي لأسواق النفط، وبالشكل الذي يضمن ويُحافظ على المصالح الوطنية، وفي هذا الصدد يقول معالي الوزير “هناك من لا يزال يعتقد بأننا قد نعدّل الاتفاقية قبل نهاية العام، وأقول لهم إن عليهم الانتظار إلى يوم الجمعة 29 ديسمبر 2023 ليشهدوا التزامنا التام بالاتفاقية الحاليّة”.
- تتبع المملكة في تعاملها مع ملف الطلاقة نهجًا استراتيجيًا بعيد المدى لا يهتم فقط بالواقع الحالي، وإنما يضع في الاعتبار التطورات المستقبلية سواء على المدى المتوسط أو البعيد، وفي هذا الإطار قال معالي الوزير: “لا يراعي مشروع قانون نوبك أهمية امتلاك احتياطي من القدرة الإنتاجية وتبعات عدم امتلاك هذا الاحتياطي على سوق البترول”. وأضاف معاليه أن احتياطي القدرة الإنتاجية ومخزونات الطوارئ العالمية يشكّلان شبكة أمان أساسية لسوق البترول في مواجهة الصدمات المحتملة”.
- الإدارة المسؤولة من جانب المملكة في تعاملها مع ملف الطاقة والذي ينطلق من الالتزام بالاتفاقيات الدولية ويُراعي المصلحة العامة سواء للدولة السعودية أو للمجتمع الدولي، وذلك بعيدًا عن المصالح الضيقة لبعض الأطراف.
- اتسم خطاب صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز بالقوة والصلابة، وقد ظهر ذلك بوضوح عندما قال: “إذا تم فرض سقف للأسعار على صادرات البترول السعودية فلن نبيع البترول إلى أي دولة تفرض سقف أسعار على إمداداتنا، وسنخفض إنتاج البترول”
- استخدام لغة تأكيدية قاطعة لا تسمح بأي احتمالية عندما قال: “لن نبيع البترول إلى أي دولة تفرض سقف أسعار على إمداداتنا، وسنخفض إنتاج البترول”.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن القرار النفطي السعودي هو محصلة قراءة واعية وحكيمة للسوق والمحددات التي تؤثر في العرض والطلب حاليا أو على آفاقه المستقبلية، كما أن المملكة تتعامل مع ذلك الملف بروح تشاركية تعطي مجالًا واسعًا للحوار والتنسيق وتأمين التوافق بما يراعي المصلحة الوطنية ومصالح الدولة المنتجة للنفط ويحول دون حدوث تقلبات في السوق لا تخدم مصالح المنتجين والمستهلكين على حد سواء.
وأخيرًا، تبقى الرياض عاصمة القرار النفطي العالمي، وصاحبة الصوت العقلاني المتزن وسط عالم يموج بالتوترات والصدامات، وتظل حكمة القيادة الرشيدة للمملكة صمام الأمان لاستقرار سوق الطاقة والاقتصاد العالمي.