قبل خمسة أشهر، انطلقت حملة شعبية عفوية في المملكة العربية السعودية لمقاطعة المنتجات التركية، دشنها مواطنون سعوديون غيورون على وطنهم وقادتهم، ومدركون لخطورة الأطماع التركية في المنطقة وسياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المنطلقة من أبعاد قومية وأيديولوجية تستهدف السيطرة وبسط النفوذ على العالم العربي، وهو ما تمارسه أنقرة فعليًّا حاليًا بأدوات عسكرية في سوريا وليبيا.
وجاءت حملة المقاطعة في مرحلة حالكة يمر بها الاقتصاد التركي الذي سجلت مؤشراته الرئيسية أداءً سلبيًّا للغاية، حيث ارتفاع التضخم وزيادة البطالة وتراجع الاحتياطي النقدي الأجنبي، ما أدى إلى معاناة مستمرة للمواطنين والشركات التركية، فضلًا عن تزايد الانتقادات من جانب المعارضة التركية لسياسات أردوغان الاقتصادية المتخبطة وسياساته الإقليمية التي أغرقت تركيا في أزمات، وجلبت لها عداوات وفرضت عليها طوقًا من العزلة.
المقاطعة تضع الحكومة التركية في مرمى نيران المعارضة بالبرلمان
وفي خطوة غير معتادة، عقد البرلمان التركي جلسة طارئة عامة لمناقشة تداعيات المقاطعة الشعبية للبضائع التركية في السعودية، وذلك بطلب من حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة في تركيا على خلفية التراجع الحاد الذي سجلته الصادرات التركية إلى المملكة في وقت تشتد فيه حاجة أنقرة إلى تحريك اقتصادها الراكد، الذي أوجد حالة من الاحتقان الداخلي.
وأطلق حزب الشعب الجمهوري في مذكرته التي قدمها إلى البرلمان صيحة تحذير من وصول الوضع إلى مستوى لا يمكن تحمله، نظرًا لمعاناة الشركات التركية التي كانت تصدر شحنات ضخمة من المنسوجات والمواد الغذائية إلى المملكة، معتبرًا أن مقاطعة المنتجات التركية لأشهر ليست حدثًا يمكن إخفاؤه عن الشعب وتركه دون إجابة.
وقد تسببت تلك الدعوة إلى حرج بالغ لحكومة أردوغان التي اعترفت بعجزها عن إقناع السعوديين بوقف تلك المقاطعة الشعبية للمنتجات التركية التي اشتدت منذ الربع الأخير من العام الماضي 2020، وهو ما تجسد في إجابات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو على التساؤلات بشأن الخطوات التي اتخذتها الحكومة لمعالجة ذلك الوضع، حيث أكد أنه لا حيلة بيد أنقرة في ذلك، غير أنه أوضح أن الحكومة ستواصل مبادراتها الرامية لإلغاء الإجراءات التقييدية المفروضة بشكل غير رسمي على الشركات والسلع التركية في المملكة العربية السعودية.
ونوه جاويش أوغلو بأنه بحث المسألة مع وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان على هامش اجتماع مجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي الذي عقد في نيامي بالنيجر في نوفمبر الماضي، وفقًا لصحيفة “جمهورييت” التركية.
أنقرة لا تملك رفاهية خسارة السوق السعودية
لقد عمقت حملة المقاطعة الشعبية السعودية من أزمة تركيا التي لا تمتلك رفاهية خسارة سوق كبيرة ومهمة في الشرق الأوسط مثل السوق السعودية، في ظل تراجع قيمة الليرة والتداعيات السلبية لجائحة كورونا، كما أن الطابع الشعبي أفقد أنقرة القدرة على اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية لمحاولة إنهاء تلك المقاطعة، نظرًا لأن المنظمة تتدخل فقط في حال ما إذا كانت المقاطعة رسمية.
ووفقًا لصحيفة “ديلي صباح” التركية، فإن الصادرات التركية إلى المملكة العربية السعودية تضررت بشكل كبير من المقاطعة الشعبية للسلع التركية، مما أدى إلى انخفاضها إلى مستوى قياسي في يناير الماضي، وذلك على الرغم من الجهود الأخيرة التي تبذلها أنقرة للتقرب من المملكة.
وتشير الإحصاءات إلى تباطؤ مستمر في الصادرات التركية إلى المملكة، حيث انخفضت الصادرات السنوية إلى السعودية بنسبة 24 % في عام 2020 من 3.1 مليار دولار إلى 2.3 مليار دولار، علما بأن السعودية كانت تحتل المرتبة الـ13 ضمن أكثر الدول المستوردة من تركيا.
وبحسب وكالة بلومبرج الأمريكية، أظهرت بيانات من الهيئة العامة للإحصاء في المملكة أن الواردات من تركيا جفت تمامًا في ديسمبر الماضي، إذ بلغ إجمالي الواردات من تركيا 50,6 مليون ريال بانخفاض نسبته 95% بعدما كان يبلغ 1,02 مليار ريال في ديسمبر 2019، وهو أدنى معدل منذ أن بدأت المملكة في تجميع الأرقام الشهرية للواردات في عام 2016.
كما أظهرت بيانات اتحاد المصدرين الأتراك أن صادرات تركيا إلى المملكة انخفضت بنسبة 92.5% في يناير من العام الحالي، حيث تراجعت من حوالي 221.9 مليون دولار إلى ما يقرب من 16.6 مليون دولار.
دفعة جديدة لحملات المقاطعة الشعبية السعودية
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه رغم المحاولات المتعددة من الجانب التركي لإذابة الجليد في العلاقات مع المملكة، إلا أن المقاطعة الشعبية لم تتراجع قيد أنملة، بل إن الدافعية والحماس لاستمرار المقاطعة في ازدياد، وقد لعب الإعلام التركي دوراً غير مباشر في الإبقاء على تلك الحماسة بسبب مضامينه المستفزة، فعلى سبيل المثال نشرت قناة TGRT التركية الخاصة خريطة افتراضية لتركيا في عام 2050 تُظهر توسع تركيا لتشمل دول الخليج ومصر وليبيا، مما زاد من ردود الفعل الشعبية الغاضبة في المملكة.
وفي هذا الإطار، دعت “الحملة الشعبية لمقاطعة تركيا” في السعودية في 21 فبراير الماضي إلى التخلي الكامل عن أي منتجات تركية، معتبرة أن الاستمرار في بيعها سيكون غير مقبول خاصة في ظل توسع العداء التركي. وأكدت الحملة في بيان نشرته على حسابها بموقع التدوينات القصيرة “تويتر”: “لا نملك اليوم مع استمرار وتوسع حالة العداء التركي وإعلانهم رسميًّا خريطة أطماعهم في المنطقة إلا مقاطعة أي متاجر تتعامل مع تركيا وتبيع منتجاتها، وعدم التعامل معها نهائيًّا. وكما قلنا وأكدنا مرارًا الوطن والقيادة خط أحمر، لا يقبل المساس به”.
كما اعتبر رئيس مجلس الغرف السعودية، عجلان العجلان أن تلك الخريطة تؤكد جنون الحكومة التركية وأطماعها وعدوانيتها، مشددًا على استمرار مقاطعة تركيا.
ووفقًا لمجلة تايم الأمريكية، فإن استمرار تدهور الوضع الاقتصادي في تركيا أدى إلى أن الضغط السياسي المحلي والرغبة في التغيير والإصلاح أصبح آخذًا في الازدياد، وبرز ذلك بشكل واضح في احتجاجات الطلاب على اختيار أردوغان لأحد الموالين لحزبه ليتولى منصب عميد إحدى الجامعات الكبرى. كما كشف استطلاع رأي أجرته شركة “Türkiye Raporu” لاستطلاعات الرأي، عن تهاوي شعبية حزب العدالة والتنمية لما دون الـ30% لأول مرة منذ وصوله للسلطة نهاية عام 2002.
وتعاني تركيا وضعًا اقتصاديًّا صعبًا تفاقم بعد تفشي وباء كورونا، إذ بلغت نسبة البطالة 14%، كما كشف تقرير لصندوق النقد الدولي، أن البنك المركزي التركي تصدر بنوك العالم بانخفاض احتياطي العملات الأجنبية لديه، حيث أكد تراجع احتياطي البنك المركزي التركي من العملات الأجنبية بنهاية العام الماضي إلى سالب 48.2 مليار دولار.
وفي هذا الإطار، حمّل علي باباجان وزير الاقتصاد التركي الأسبق، وزعيم حزب الديمقراطية والتقدم، أردوغان مسؤولية نفاد احتياطيات البنك المركزي من العملات الصعبة، متسائلا “هل يمكن أن يكون هناك بنك مركزي لدولة ما عليه ديون؟ مشيرا إلى أن البنك المركزي يبيع من احتياطي العملات الأجنبية لمنع تدهور أسعار الصرف، لكن النتيجة كانت زيادة سعر الصرف وارتفاع أسعار الفائدة، مشددًا على أنه في ظل النظام الرئاسي الحالي لا يجب إلقاء اللوم على وزير أو رئيس البنك المركزي، ولكن فقط شخص واحد هو أردوغان.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن المقاطعة الشعبية السعودية للسلع والمنتجات التركية أربكت أردوغان، وشكلت ضغطًا قويًّا على حكومته في ظل أوضاع اقتصادية متردية تمر بها تركيا، وأثبتت بما لا يدع مجالًا للشك عن فاعلية سلاح المقاطعة، وقدرته على تلقين أردوغان وحكومته المؤدلجة درسًا لن ينسوه، وشكّلت نموذجًا يحتذى به للشعوب العربية في التصدي لمخططات وأطماع القوى الإقليمية.
كما تعتبر إثارة المعارضة التركية لملف المقاطعة الشعبية السعودية لتركيا، أحد أركان استراتيجية تنتهجها لإظهار حجم الخسائر التي ألحقها حكم الرجل الواحد بمصالح أنقرة، بعدما أضرّ بعلاقتها مع المملكة صاحبة المكانة الرائدة والموقع القيادي في العالمين العربي والإسلامي، الأمر الذي يشدد من الضغوط السياسية والشعبية على أردوغان في وقت يتحرك فيه من أجل صياغة دستور جديد لتركيا يهدف من ورائه إلى قطع الطريق على قوى المعارضة للتحالف والوقوف كجبهة موحدة ضده في الانتخابات المقررة في 2023، حيث يحاول أردوغان مرة أخرى توظيف ورقة الدستور، لخدمة أهدافه الشخصية وطموحاته في البقاء بالسلطة.
5 دقائق