تقارير

البودكاست ومستقبل الصحافة

يعد البث الصوتي “البودكاست” نمطًا رئيسيًّا من أنماط الإعلام الجديد، الذي يتيح للصحفيين على نحو خاص ولعموم الأشخاص فرصة سرد قصة عبر الوسائط الصوتية، والوصول إلى عالم جديد ومتزايد من المستمعين، بما يؤدي لخلق حالة من الارتباط الشخصي بين الجمهور ومقدم البودكاست.
وقد شهدت السنوات الأخيرة بعض التطورات المهمة التي ساعدت على انتشار البودكاست، من أبرزها أن تقنية الإنتاج والاستماع أصبحت أسهل كثيرًا في الاستخدام، وكذلك اهتمام وسائل الإعلام الكبرى بالاتجاه نحو تجارب البث الصوتي، وأيضًا تنوع برامج البودكاست التي تغطي مختلف المجالات، الذي كان له بالغ الأثر في القدرة على اجتذاب الكثير من الأشخاص، فعلى سبيل المثال تشير أحدث الإحصاءات في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن أكثر من 55% من السكان قاموا بالاستماع إلى بودكاست في عام 2020، وتشكل الفئة العمرية من 25 عامًا إلى 44 عامًا نحو 49% من إجمالي المستمعين، وفقًا لموقع “brandastic” المعني بالتسويق والإعلام الرقمي.
ويعد تطبيق “سبوتيفاي- Spotify” الآن أكثر تطبيقات البودكاست شهرة في العالم، ويليه تطبيق “آبل بودكاست- Apple podcast”.
نشأة البودكاست واستخدامه من قبل المشاهير لتعزيز علامتهم التجارية
في ظل الأزمات المتلاحقة التي تحاصر الإعلام التقليدي، حيث تراجع مصادر التمويل وعزوف الجمهور، سارعت المنافذ الإخبارية للتكيف مع هذا الواقع الجديد عبر تبني أشكال جديدة من الوسائط من بينها البودكاست، الذي كان يعرف باسم المدونات الصوتية.
وقد مثّل البودكاست امتدادًا للراديو، فهو مساحة تمكن أي شخص لديه ميكروفون أن يجعل صوته مسموعًا، وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أصبح البودكاست أكثر صقلًا واحترافيةً، ولكنه ظل يكافح لإحداث تأثير رئيسي كبير إلى أن جاء عام 2014 الذي مثل نقطة تحول عندما أنتج بودكاست عن الجرائم يسمى ” Serial” أحدث ضجة كبيرة حيث قام 5 ملايين شخص بالاستماع لحلقاته الـ 12، ليثبت إمكانات البودكاست في وقت سمحت فيه الهواتف الذكية للناس باستهلاك المحتوى في أي وقت وفي أي مكان، وعلى هذا أصبح البودكاست بديلاً للراديو عالي الجودة ومطلوبًا، حيث يمكن للأشخاص تخصيصه حسب أذواقهم وتفضيلاتهم.
كما أقبل المشاهير على استخدام البودكاست نظرًا لدوره في تعزيز علامتهم التجارية الشخصية، ومن أبرزهم الممثل البريطاني ريكي جيرفيه ومواطنه رسل براند، والمطربة الأمريكية جوينيث بالترو والممثلة الأمريكية إيمي شومر، وهو ما يشير إلى أن المدونات الصوتية ربما تكون قد نشأت من بدايات متواضعة، لكن البودكاست أصبح الآن قوة لا يُستهان بها.
وقد وجدت دراسة أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” أن الأشخاص الذين يستمعون إلى البودكاست أثناء أداء مهام أخرى يكون لديهم مستوى أعلى من المشاركة بمرور الوقت، وتُوحي هذه النتيجة بأن البودكاست يعتبر تجربة وسائط رقمية مثالية للقرن الحادي والعشرين، فهو تجربة حميمة وجذابة للجمهور ومفيدة للمعلنين؛ نظرًا لأن الإعلانات تعمل بشكل أفضل عندما يقوم المستهلكون بمهام متعددة أثناء متابعتها.
اتجاه المنافذ الإعلامية للبودكاست.. وخصائص البودكاست الجيد
تُشير مجلة “Communicate Influence” المتخصصة في التسويق إلى أن أغلب المؤسسات الإخبارية أصبحت تلجأ إلى البودكاست، سواء كان ذلك من خلال تدشين بودكاست خاص بالمؤسسة أو تنسيق محتوى وعرضه عبر منصة بودكاست، انطلاقًا من حقيقة أن الكثير من الأشخاص لا يميلون إلى القراءة كثيرًا على الإنترنت، وهو ما جعل البودكاست جزءًا أساسيًّا من الصحافة.
وفي هذا الإطار، ترى الصحفية ومنتجة البودكاست، كاثلين جولدهار أن العلاقة الحميمة التي يوفرها البودكاست بين المذيع والمستمع هي جانب أساسي من البودكاست الجيد، فالبث الصوتي ينتقل مباشرة إلى عقل المستمع لأنه حميمي للغاية.
وتوضح جولدهار أن البودكاست الجيد هو الذي يستطيع جذب انتباه الجمهور، وأن يعتمد على طريقة متدرجة لسرد القصة بوضوح، فمعظم الأشخاص يستمعون إلى البودكاست أثناء قيامهم بشيء آخر، وإذا أدى السرد إلى توقف المستمع ليطرح تساؤلات وتكرر ذلك، فسينتهي الأمر بعزوفه عن متابعة البودكاست، لذلك يجب أن تكون قصص البودكاست واضحة ومباشرة قدر الإمكان؛ لكي تكون مثيرة للانتباه.
وبالنسبة للعديد من منشئي البودكاست والمحررين، فإن القدرة على القيام بذلك تعد غريزة أكثر من أي شيء آخر، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن تعلمها، وأفضل ما يمكنك فعله هو الاستماع إلى أكبر عدد ممكن من المدونات الصوتية.
تجربة بودكاست نيويورك تايمز
وعلى صعيد المؤسسات الإعلامية، قدمت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية تجربة رائدة لتوظيف البودكاست في العمل الصحفي، من خلال إطلاقها عام 2017 بودكاست يسمى “The Daily”، الذي يستضيفه الكاتب الصحفي مايكل باربارو، ويتضمن غوصًا عميقًا لمدة 20 دقيقة في قصة إخبارية واحدة، ويُقدم على مدى خمسة أيام في الأسبوع.
ويرجع نجاح تلك التجربة إلى الموارد المتاحة للصحيفة، حيث يمكن لفريق باربارو الاستفادة من شبكة الأخبار الضخمة في نيويورك تايمز والتي تتكون من 31 مكتبًا دوليًّا و200 صحفي. وعلاوة على ذلك، تزامن ظهور هذا البودكاست مع لحظة حظيت فيها الأخبار باهتمام لا مثيل له، في مطلع ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي كان مصدرًا لإنتاج أخبار مزلزلة بشكل يومي.
وبالإضافة إلى الإيرادات المباشرة، تعزز تجربة بودكاست “The Daily” العلامة التجارية لصحيفة نيويورك تايمز، حيث تجذب مشتركين جددًا من الشباب إلى الصحيفة التي تعتمد عليهم في تمويلها الآن، حيث يوجد لدى نيويورك تايمز نحو 4.5 مليون مشترك.
ويرى فيليكس سالمون، الكاتب بموقع “ويرد-WIRED ” التقني أن الناشرين باتوا يتسابقون لامتلاك آلة طباعة النقود التي هي البودكاست الإخباري اليومي، حيث استثمرت كل من صحف “ذا تايمز” و”ديلي تليجراف” و”فينانشيال تايمز” ومجلة “إيكونوميست” وشبكة “سكاي نيوز” في أعمال البودكاست مؤخرًا.
ويعد كل من بودكاست “The Guardian’s Today in Focus” و”Vox’s Today Explained”، الأقرب إلى صيغة ” The Daily” من حيث الإنتاج والتنسيق. كما استثمرت شركة جوجل مؤخرًا نصف مليون جنيه إسترليني في مشروع يسمى “Laudable”، الذي يهدف إلى إنشاء محتوى صوتي لشركات الإعلام الإقليمية كوسيلة لتوفير مورد تمويل مستدام لها.
من جهة أخرى، يعتبر تسهيل طرق استهلاك البودكاست أحد أبرز المحددات التي ترسم مستقبل استخدامه والتوسع فيه، إذ يشير موقع “فوربس” الأمريكي إلى أنه بينما قد يبدو أن تجربة البودكاست مرتبطة ارتباطًا جوهريًّا بفعل الاستماع، إلا أن “إمكانية الوصول” تعتبر عنصرًا بالغ الأهمية، غالبًا ما يتم تجاهله في تصميم وتطوير الوسائط الرقمية، بما في ذلك مواقع الإنترنت وتطبيقات وسائط الصوت، فتجاهل إمكانية الوصول يعني تجاهل المؤسسات جزءًا كبيرًا من الجمهور المحتمل.
وإدراكًا لأهمية ذلك البُعد، قدمت كل من شركة آبل العملاقة ونظام تشغيل أندرويد مجموعة من الميزات لتسهيل الطريقة التي يختبر بها المستخدمون المحتوى الرقمي بالطرق التي تناسبهم، وهو ما وفرته أيضًا أنظمة تشغيل “ويندوز-Windows ” و”لينكس-Linux”، كما تعكس العديد من المنتجات المعروضة في معرض الإلكترونيات الاستهلاكية (CES) العام الحالي تركيزًا متزايدًا على تعزيز إمكانية الوصول.
وبلا شك فإن مستقبل البودكاست سيتم تحديده إلى حد كبير من خلال التصميم الشامل وتجارب الاستماع التي يمكن الوصول إليها، فعلى سبيل المثال تسهم زيادة قوة الحوسبة في تسهيل إمكانية نسخ البودكاست بالكامل بأقل تكلفة وأعلى معدلات للدقة.
وتأسيسًا على ما سبق.. يمكن القول إن القيمة الأساسية لظهور صحافة البودكاست أنها تعكس حرص المنافذ الإعلامية على الابتكار وتأمين مصادر جديدة مستدامة للتمويل في هذا العصر الرقمي الجديد، ويبقى التساؤل المطروح هل يلعب البودكاست الإخباري دور المنقذ للصحف في ظل عثراتها المالية؟

زر الذهاب إلى الأعلى