بعد عام من التوتر الحاد في العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وصل إلى حد تبادل الإهانات مع عدد من العواصم الأوروبية، وكانت فيه أنقرة على حافة الصدام العسكري مع أثينا ونيقوسيا على خلفية النزاع حول الحدود البحرية، والتنقيب عن موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
قام وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الأسبوع الماضي بزيارة إلى بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي، بهدف فتح “صفحة جديدة” في العلاقات، إذ جاءت الزيارة في أعقاب التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن بلاده لا تزال حريصة على متابعة عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. علماً بأن هذا المسار قد أصابه الجمود منذ فترة طويلة في ظل انخراط تركي واسع في شؤون الشرق الأوسط.
وتثير تلك الانعطافة التركية نحو أوروبا في هذا التوقيت العديد من التساؤلات حول دوافع أنقرة، وأيضًا مستقبل العلاقات التركية الأوروبية.
رغبةُ أردوغان في كسر طوق العُزلة
شهد العام الماضي العديد من محطات الصدام بين تركيا والاتحاد الأوروبي، في مقدمتها تفاقم الخلافات القائمة منذ فترة طويلة بين تركيا واليونان بشأن السيادة على مجموعة من الجزر الصغيرة في بحر إيجة، وأيضًا الخلاف بين أنقرة ونيقوسيا في ظل تحركات تركية للتنقيب عن الطاقة قبالة المياه القبرصية.
وردَّت بعض الدول الأوروبية على التدخلات البحرية التركية في المناطق الاقتصادية الخالصة لقبرص واليونان باستعراض القوة، حيث أجرت قبرص وفرنسا واليونان وإيطاليا مناوراتٍ بحريةً وجويةً مشتركةً في شرق البحر المتوسط الصيف الماضي، كما زادت باريس من مبيعات الأسلحة إلى أثينا ونيقوسيا، حيث اشترت اليونان 18 طائرة رافال فرنسية، ووقَّعت قبرص عقودًا لشراء صواريخ (أرض-جو) من طراز ميسترال وصواريخ إكزوسيت (المضادة للسفن) من إحدى الشركات الفرنسية؛ لتعزيز قدرتها في الدفاع الجوي، وفقًا لشبكة “EURACTIV” المعنية بالسياسات الأوروبية.
وازدادت مشاكل تركيا مع تطاول أردوغان لفظيًّا على نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث وصفه بعبارات بعيدة تمامًا عن قاموس الدبلوماسية، الأمر الذي أدخل أنقرة في مشكلة كبرى مع دولة رئيسية في التكتل الأوروبي وفي حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
وبموازاة تلك التوترات مع أوروبا، واجه أردوغان المزيد من الانتكاسات الخارجية التي أثارت قلقله الشديد، حيث تعرَّض التقارب التركي الروسي لضغوط ناجمة عن اختلاف أجندتي البلدين في الملفين السوري والليبي، والصراع في إقليم ناغورنو كاراباخ، في وقت تعرضت فيه علاقة أردوغان مع واشنطن لضربة أخرى حين أوقفت الولايات المتحدة تسليم 100 طائرة مقاتلة أمريكية من طراز “إف-35” إلى تركيا، وأنهت مشاركة الشركات التركية في إنتاج أجزاء الطائرة.
وقد شكَّلت هذه الأبعاد مجتمعةً دافعًا رئيسيًّا لأنقرة نحو البحث عن طريقة لكسر طوق العزلة الذاتية التي نسجته سياساتها، فتوجَّهت نحو بروكسل، كون الحجم الأكبر من التوترات التي تواجهها تركيا في اللحظة الراهنة مرتبطًا بأطراف أوروبية، كما أن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ستكون ورقةً أساسيةً في جهود تسوية، أو تخفيف حدة باقي الخلافات التركية مع القوى الدولية والإقليمية.
انعدامُ الثقة الأوروبية في تركيا عائقٌ أمام مساعي أنقرة لتهدئة التوترات
وفي إشارة واضحة لمساعي تركيا نحو التهدئة مع الاتحاد الأوروبي، توجَّه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى بروكسل قبل أسبوعين؛ لنقل دعوة من أردوغان لكل من رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، لزيارة أنقرة، إذ يسعى أردوغان لكسر عزلته على المستوى الدولي.
ووفقًا للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، عملت دوائر سياسية في أنقرة وبروكسل عبر اجتماعات تمت في هدوء على مدار الأشهر القليلة الماضية من أجل صياغة مجموعة من القضايا التي تم طرحها على الطاولة في بروكسل خلال زيارة جاويش أوغلو، وهي كالتالي:
بالنسبة لتركيا تمثلت تلك الملفات في مناقشة تجديد اتفاق اللاجئين لعام 2016 مع الاتحاد الأوروبي، ومشروع المؤتمر الدولي حول شرق المتوسط الذي اقترحه شارل ميشيل، ورفع تأشيرة الدخول عن المواطنين الأتراك الذي تعهَّد به الاتحاد الأوروبي، بجانب تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي لعام 1995 بين تركيا والاتحاد الأوروبي.
من جانبه، يرغب الاتحاد الأوروبي في امتناع أنقرة عن التحركات أحادية الجانب في المياه القبرصية واليونانية، وكذلك تحسين تركيا لسجلها في مجال حقوق الإنسان، وإن كانت بعض الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا على استعداد لقبول خطوات محدودة تتمثل في تسويات للقضايا البارزة، مثل سجن السياسي الكردي صلاح الدين دميرتاش، والمعارض ورجل الأعمال البارز عثمان كافالا.
وقد عكست مخرجات اجتماعات الوزير التركي مع المسؤولين الأوروبيين حقيقة أن مساعي إذابة الجليد لن تكون عملية سهلة على الإطلاق في ظل أجواء انعدام الثقة في تركيا، وهو ما عبَّرت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في تغريدة على حسابها بموقع التدوينات القصيرة “تويتر” بعد لقاء جاويش أوغلو بقولها: إن “الحوار ضروري، لكننا نتوقع أيضًا خطوات ذات مصداقية على الأرض”.
كما تعهَّدت المسؤولة الأوروبية بالعمل مع جميع الدول الأعضاء للوفاء بتفويض المجلس الأوروبي، في إشارة إلى استنتاجات المجلس الأوروبي التي تم التوصل إليها في 11 ديسمبر الماضي، حين دعا تركيا إلى الامتناع عن “الاستفزازات” في شرق البحر المتوسط، وتعهَّد أيضًا بـ “أجندة إيجابية” في العلاقات الثنائية إذا ما استجابت أنقرة لتلك الدعوة.
وفي هذا الإطار، يرى المحلل السياسي التركي سيركان ديميرتاش أنه على الرغم من كل الرسائل القوية والإيجابية المؤيدة لأوروبا التي عبرت عنها أنقرة مؤخرًا، يتعين على تركيا أن تخلق جوًّا إيجابيًّا جديدًا تدعمه بإجراءات وقرارات ملموسة.
الأمر ذاته أكدته طلحة كوش، الباحثة في مركز البحوث السياسية (مقره أنقرة)، مستبعدة أن تكون هناك انفراجة كبيرة في العلاقات بين الجانبين في المستقبل القريب، على الرغم من اللفتات التصالحية التي تظهر في خطابات دبلوماسية لكبار المسؤولين.
سيناريوهاتٌ لمستقبل العلاقات التركية الأوروبية
لم تُحْدث زيارة وزير الخارجية التركي إلى بروكسل التي استغرقت يومَيْن، اختراقًا في العلاقات بين الجانبين، نظرًا لأن كُلًّا من تركيا وأوروبا في طور الانتظار والتطلع إلى تحركات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على المسرح العالمي.
واللافت هنا أن المؤشرات الأولية حول السياسة الأمريكية تجاه تركيا، لا تحمل أخبارًا سارةً لأنقرة، إذ هاجم مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، تركيا، ووصفها بأنها مصدر قلق للولايات المتحدة وأوروبا.
ووجَّه سوليفان انتقاداتٍ لاذعةً إلى حكومة أردوغان، منددًا بعدم احترامها لحقوق الانسان، ولا قرارات المحكمة الأوروبية التي طالبته بالإفراج عن المعتقلين الأكراد والمعارضين السلميين.
وعلى الأرجح، سيلجأ الاتحاد الأوروبي بالتنسيق مع إدارة بايدن لوضع خطوط حمراء، وكذلك حوافز واضحة لتركيا من أجل مراجعة سياستها الراهنة في إطار حاكم، هو الالتزام بالشراكة التي تجمع أنقرة مع الدول الأوروبية وواشنطن تحت مظلة حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
وانطلاقًا مما سبق، يمكن التنبؤ بثلاثة سيناريوهات لمستقبل العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي على النحو التالي:
السيناريو الأول: يفترض تصاعد التوترات بين الجانبين، فما دامت بقيت أزمة شرق البحر المتوسط دون معالجة، ستظل العلاقات التركية الأوروبية مُعرَّضة للمزيد من الصدام، واللجوء إلى العقوبات لردع السلوك التركي.
ويُعزز من إمكانية حدوث ذلك السيناريو أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي تقود دفة الدبلوماسية الأوروبية والوساطة في ذلك الصراع، والتي كثيرًا ما عوّلت عليها أنقرة، ستُغادر منصبها نهاية العام، وليس من الواضح ما إذا كان هناك أي زعيم أوروبي آخر سيلعب نفس الدور بمجرد مغادرتها.
وقد تتخذ السياسة الأوروبية تجاه تركيا منحى أكثر تشددًا مع غياب ميركل، وفي حال فوز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بولاية رئاسية ثانية في الانتخابات الرئاسية المقررة العام الحالي، لا سيما في ظل حالة العداء الشديد بينه وبين أردوغان.
السيناريو الثاني: يتمثل في ضبط حدود التوتر القائم، وهو الأقرب للتحقق على المدى القصير، في ظل سعي أردوغان لتسوية التوترات مع أوروبا لأقصى درجة، وسط مؤشرات تنذر بضغوط ومتاعب ستواجهها حكومته مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، لذلك سيكون أردوغان أشد حرصًا على تهدئة جبهات الصراع، والسعي لتقديم بوادر إيجابية لأوروبا؛ أملاً في أن تسهم في تخفيف الضغوط الأمريكية.
ومن مؤشرات التحرك الإيجابي نحو أوروبا، استئناف تركيا للمحادثات مع اليونان لتسوية الخلاف بشأن التنقيب عن مصادر الطاقة في شرق المتوسط، حيث استضافت إسطنبول الأسبوع الماضي وفدًا دبلوماسيًّا يونانيًّا رفيعًا لأول مرة منذ توقف المحادثات في عام 2016.
وأيضًا تأكيد وزير الخارجية التركي خلال زيارته بروكسل على دعم المحادثات التي ترعاها الأمم المتحدة بشأن قبرص، والتي من المقرر أن تبدأ في نيويورك قريبًا.
السيناريو الثالث: تسارع وتيرة تطبيع العلاقات وعملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ويُعَدُّ هذا السيناريو صعب الحدوث على الأقل في المدى القصير، لكونه مرهونًا بالأساس بالأوضاع الداخلية في تركيا، ومدى عودتها عن المسار الحالي الذي ابتعدت فيه عن القيم والاشتراطات الأوروبية التي تؤهلها للعضوية، وفي مقدمتها احترام حقوق الإنسان واستقلال القضاء، وحرية التعبير، ومحاربة الفساد.
وتشير كافة المعطيات الراهنة إلى أن هذا السيناريو يظل مستبعدًا في ظل حكم الرئيس أردوغان الذي تشهد فيه تركيا انتكاسة خطيرة في الديمقراطية، وسيادة القانون والحريات الأساسية.
وختامًا، يمكن القول إن القمة الأوروبية المقررة في مارس المقبل، وما ستحمله من قرارات بشأن تركيا ستكون مؤشرًا رئيسيًّا لمدى التغير الذي سيطرأ على العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي خلال المرحلة المقبلة، وإذا أرادت حكومة أردوغان تجنب الوقوع تحت طائلة عقوبات أوروبية تُعمق من أزمتها الاقتصادية، فسيكون من الضروري أن تتخذ خطواتٍ إيجابيةً وعمليةً مُقنعةً للقادة الأوروبيين بشأن ملفات الخلاف الرئيسية، وعلى رأسها الصراع في شرق المتوسط.
5 دقائق