يشكل التصحر قضية عالمية ترتب تداعيات خطيرة على التنوع البيولوجي والسلامة الإيكولوجية والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والقضاء على الفقر والتنمية المستدامة على الصعيد العالمي، وهي مسألة انتبه إليها العالم منذ أكثر من ثلاثة عقود، حيث اعتبرت قمة الأرض التي عقدت في مدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل عام 1992 أن التصحر وتغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي أكبر التحديات التي تواجه التنمية المستدامة في العالم.
وإدراكًا لأهمية تلك القضية وتأثيرها العالمي، وضرورة التحرك الجماعي من جانب المجتمع الدولي قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة تخصيص يوم 17 يونيو من كل عام يومًا عالميًا لمكافحة التصحر والجفاف.
وتمثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، التي تم التوصل إليها في عام 1994، الاتفاق الدولي الوحيد الملزم قانونًا الذي يربط البيئة والتنمية بالإدارة المستدامة للأراضي، وبموجبها تعمل الأطراف في الاتفاقية معًا للحفاظ على إنتاجية الأراضي والتربة واستعادتها والتخفيف من آثار الجفاف في الأراضي الجافة والمناطق القاحلة وشبه القاحلة والجافة شبه الرطبة حيث يوجد بعض النظم الإيكولوجية والشعوب الأكثر ضعفًا.
وقد دعمت اتفاقية مكافحة التصحر وشركاؤها منذ عام 2017 حوالي 70 دولة معرضة للجفاف لوضع خطط عمل وطنية للحد من كوارث الجفاف.
وفي هذا الإطار، تأتي أهمية أعمال الدورة السادسة عشرة لمؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر “COP16” التي تنعقد في العاصمة السعودية الرياض على مدى 12 يومًا، حيث يعد أكبر اجتماع على الإطلاق للأطراف الـ 197 في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، والأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط.
- اهتمام إعلامي عالمي
حظي مؤتمر “COP16” في الرياض باهتمام كبير من جانب وسائل الإعلام الدولية كونه يتزامن مع الذكرى الـ30 لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، إحدى المعاهدات البيئية الثلاث الرئيسية المعروفة باسم اتفاقيات ريو، ويأتي بعد مؤتمري تغير المناخ والتنوع البيولوجي.
وقد أبرزت صحيفة “لوموند” الفرنسية انطلاق فعاليات “COP16″، مشيرة إلى أن المملكة العربية السعودية من البلدان الأكثر اهتمامًا بقضية التصحر، وموضحة أن المؤتمر الذي يستمر لمدة أسبوعين يسلط الضوء على التحديات المترابطة التي تواجه الكوكب.
وأشارت الصحيفة الفرنسية إلى أن المؤتمر ينعقد في أعقاب انعقاد الاجتماع السادس عشر لمؤتمر الأطراف في اتفاقية التنوع البيولوجي “COP16” بكولومبيا، ومؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ “COP 29” بأذربيجان.
من جهته، رأى ماورو سينتريتو، الخبير في حماية النباتات المستدامة في المجلس الوطني للبحوث في إيطاليا أنه “حتى لو كان السياق الجيوسياسي العالمي يلقي بظلاله على هذه الاجتماعات الحاسمة، فإن هذا النوع من الاقتران ربما يؤدي إلى قرارات ملموسة”.
ووفقًا لسينتريتو، الذي يمثل منظمات المجتمع المدني في أوروبا الغربية خلال مؤتمر الرياض، فإنه قد حان الوقت “لبناء التآزر” بين مؤتمرات الأطراف الثلاثة. وبالنسبة للعديد من المشاركين، فإن مؤتمر الأطراف السادس عشر الذي انعقد في الرياض هو في الواقع جوهر القضية.
وبحسب مستشار رئاسة “كوب 16” الرياض، الدكتور أسامة فقيها فإن الهدف الأول هو رفع مستوى الوعي العالمي، سواء فيما يتعلق بقضية التصحر أو ترابطها مع القضايا التي يتناولها مؤتمرا الأطراف الآخران.
وتطرقت وسائل الإعلام الدولية إلى الدور القيادي المنتظر من المملكة في هذا الملف، حيث سلط موقع “ياهو نيوز” الضوء على تولي السعودية رئاسة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر لتبدأ فترة مدتها عامان لدفع العمل الدولي بشأن استعادة الأراضي والقدرة على التكيف مع الجفاف، مشيرا إلى أن القدرة على مواجهة الجفاف تصدرت جدول أعمال المؤتمر منذ يومه الأول مع إطلاق شراكة الرياض العالمية للقدرة على مواجهة الجفاف. كما نوه الموقع إلى أن مؤتمر الرياض يضم لأول مرة منطقة خضراء لحشد العمل المتعدد الأطراف والمساعدة في دفع التمويل لمبادرات استعادة الأراضي.
بدورها، أشارت وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية إلى أن تعزيز القدرة على مواجهة الجفاف على مستوى العالم تعد نقطة محورية في مؤتمر الرياض، حيث يشهد الإعلان عن ثلاثة إعلانات دولية رئيسية حيث ستساعد شراكة الرياض العالمية لمواجهة الجفاف في تضافر وتضخيم العمل الدولي بشأن القدرة على مواجهة الجفاف وتحويل الاستجابة العالمية من إدارة الأزمات التفاعلية إلى الوقاية الاستباقية.
كما أبرزت حصول شراكة الرياض العالمية لمواجهة الجفاف، التي تم إطلاقها خلال حفل الافتتاح، على تعهدات إضافية بقيمة مليار دولار من صندوق أوبك ومليار دولار من البنك الإسلامي للتنمية، بالإضافة إلى مبلغ 150 مليون دولار تعهدت به السعودية لتمويل المبادرة.
ومن ناحية أخرى، سيساعد إطلاق المرصد الدولي للقدرة على مواجهة الجفاف وأطلس الجفاف العالمي على زيادة رصد الجفاف والوقاية منه والوعي به في جميع أنحاء العالم.
من جهتها، أبرزت وكالة “شينخوا” الصينية التقرير الصادر عن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر خلال مؤتمر “Cop16” بالرياض والذي أكد الحاجة إلى ما لا يقل عن 2.6 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2030 لاستعادة أكثر من مليار هكتار من الأراضي المتدهورة وتعزيز القدرة العالمية على مواجهة الجفاف.
وسلط التقرير، الذي يحمل عنوان “الاستثمار في مستقبل الأرض: تقييم الاحتياجات المالية لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر”، الضوء على أن هناك حاجة إلى 355 مليار دولار سنويا لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي بين عامي 2025 و2030. ومع ذلك، لا يزال الاستثمار المطلوب أقل بمقدار 278 مليار دولار سنويا.
وأكد التقرير، الذي تم إطلاقه خلال مؤتمر “COP16″، على أن تمويل استعادة الأراضي آخذ في الازدياد، ولكن لا يزال هناك عجز كبير، خاصة في إفريقيا، حيث يلزم 191 مليار دولار سنويًا لاستعادة 600 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة.
وأوضح التقرير، أن الاستثمار في استعادة الأراضي يوفر عوائد كبيرة، حيث يولد ما يصل إلى 8 دولارات من الفوائد الاجتماعية والبيئية والاقتصادية مقابل كل دولار يتم إنفاقه.
- تحديات أمام العالم
يواجه المجتمع الدولي عددا من التحديات الجسيمة على هذا الصعيد، فحوالي 40% من أراضي العالم متدهورة الأمر الذي يؤثر على نحو 3 مليارات نسمة أي نصف سكان الكرة الأرضية تقريبًا ويهدّد التنوع البيولوجي، كما تقدر الخسائر بـنحو 6 تريليونات دولار من الخدمات الإيكولوجية المفقودة، وتضرب حالات الجفاف بقوة أكبر جميع أنحاء العالم -بزيادة قدرها 29% منذ عام 2000-، إذ يتأثر ربع سكان العالم بالفعل بموجات الجفاف، ومن المتوقع أن يواجه 3 من كل 4 أشخاص في جميع أنحاء العالم ندرة المياه بحلول عام 2050.
وتشير التقديرات إلى أنه من خلال وقف إزالة الغابات، يمكن تجنب انبعاث 2 جيجا طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون سنويًا بين عامي 2020 و2050، وبالمثل من خلال استعادة حوالي 1.5 مليار هكتار من الأراضي المتدهورة وتوسيع الأراضي الزراعية، يمكن دعم زيادة الإنتاجية الزراعية بمليار هكتار أخرى، وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو”.
- جهود المملكة لمكافحة التصحر
أولت القيادة الرشيدة للمملكة -حفظها الله-، اهتماما بالغًا بحماية البيئة على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، وإطلاقها عددًا من المبادرات البيئية الرائدة، منها مبادرتا “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر”، وقد أطلق سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، في مارس 2021، مبادرة السعودية الخضراء بهدف تفعيل دور كافة فئات المجتمع، وتوحيد جهود الاستدامة، وتسريع وتيرة العمل المناخي في المملكة.
وتهدف تلك المبادرة الرائدة إلى تحويل 30% من أراضي المملكة العربية السعودية إلى محميات طبيعية، وزراعة 10 مليارات شجرة، وإصلاح 40 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة. وقد زرعت المملكة حتى الآن 70 مليون شجرة، بهدف الوصول إلى 400 مليون بحلول عام 2030، وفقًا للمركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر.
وعملت المملكة على التصدي لتدهور الأراضي وتعزيز الاستدامة البيئية من خلال خطط محكمة وجهود بحثية وتوظيف أحدث التقنيات العلمية عبر هياكل مؤسسية أبرزها المركز الإقليمي للعواصف الغبارية والرملية، والذي يهدف لمواجهة الظواهر الغبارية والرملية وتقليل المخاطر الناجمة عنها من خلال تدشين نظام لرصد الظواهر الغبارية والرملية على المستويين الوطني والإقليمي.
وبرنامج استمطار السحب، الذي يعمل على زيادة هطول الأمطار وتحقيق الاستدامة البيئية والمساهمة في تكثيف الغطاء النباتي؛ لمواجهة التصحر وتخفيف ظواهر الجفاف.
بالإضافة إلى ذلك، تقود المملكة العربية السعودية من خلال مبادرة الشرق الأوسط الأخضر-التي أطلقها أيضًا سمو ولي العهد-، الجهود لزراعة 40 مليار شجرة إضافية في جميع أنحاء المنطقة بهدف الحد من تآكل التربة، وحماية التنوع البيولوجي، والتخفيف من آثار تغيّر المناخ. ويمثل هدف الـ 50 مليار شجرة مجتمعة 5% من الهدف العالمي للتشجير، وما يعادل إصلاح 200 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة.
كما دخلت المملكة العربية السعودية في شراكة مع مجموعة الدول العشرين واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحّر لإطلاق المبادرة العالمية للحد من تدهور الأراضي، والتي تهدف إلى خفض التدهور بنسبة 50% بحلول عام 2040، بحسب الموقع الرسمي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن المملكة العربية السعودية تقدم تجربة مُلهمة في مكافحة التحصر عبر استراتيجية متعددة الأبعاد ومتكاملة تقوم على مبادرات وطنية وإقليمية رائدة تنفذ عبر هياكل مؤسسية متخصصة وتوظف أحدث ما توصل له العالم من تقنيات من أجل استدامة البيئة وحماية الأراضي والتنوع البيولوجي، كما أنها تضطلع بدور ريادي وقيادي على الصعيد العالمي ينعكس في رئاستها لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر وما شهده افتتاح مؤتمر الرياض من إعلانات دولية كثمار أولى لتلك الرئاسة.