منذ الثامن من مايو الجاري تشهد أكثر من 20 بلدة ومدينة في جميع أنحاء إيران مظاهرات احتجاجية على خفض دعم الغذاء، الذي تسبب في ارتفاع الأسعار بنسبة تصل إلى 300% لبعض المواد الغذائية الأساسية التي تعتمد على الدقيق، وسرعان ما أخذت الاحتجاجات منحى سياسيًّا مع توجيه المزيد من المحتجين الإيرانيين غضبهم إلى المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي وكذلك الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، في مشاهد تذكر بالاضطرابات التي وقعت قبل 3 أعوام وانطلقت شرارتها أيضًا بدافع اقتصادي وهو ارتفاع أسعار الوقود بمعدل ثلاثة أضعاف – كانت الأكثر دموية منذ الثورة الإيرانية في عام 1979-، وبينما خدمت الظروف الدولية لا سيما ظهور جائحة فيروس كورونا المستجد نظام الملالي آنذاك؛ فأنقذته الجائحة من استمرار وتوسع الاحتجاجات عام 2019، فإن المشهد الراهن في ظل التداعيات الكارثية للحرب الروسية الأوكرانية على الأمن الغذائي العالمي لن يسهم على الأرجح سوى في تعميق أزمة النظام الإيراني وزيادة حدة الاحتجاجات.
- السياق المحيط بالاحتجاجات داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا
تأتي تلك الاحتجاجات في وقت يواجه فيه النظام السياسي الإيراني تحديات متعددة المستويات ومتداخلة الأبعاد، ما بين اقتصاد خاضع للعقوبات تسجل مؤشراته الرئيسية انحدارًا حادًّا ووضعًا معيشيًّا في غاية التدهور -حوالي 30 % من الأسر الإيرانية تعيش تحت خط الفقر، وفقًا لمركز الإحصاء الإيراني، ورئيس متشدد ينتهج في العام الأول من ولايته سياسات مغايرة لسلفه المعتدل، وجمود وغموض يُحيطان بمصير مفاوضات فيينا مع القوى الكبرى بشأن إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، وكذلك المحادثات التي بدأت مع دول الجوار، وتحذيرات أممية من مجاعة عالمية تستمر لسنوات بفعل النقص الحاد في إمدادات الحبوب والغذاء نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية.
وعلى وقع هذه الصورة القاتمة، يرجح تقرير للمجلس الأطلسي (مؤسسة بحثية مقرها واشنطن)، ارتفاع العجز في الميزانية الإيرانية إلى 21 مليار دولار مما يؤدي إلى تضخم هائل يقدر بأكثر من الرقم الرسمي البالغ 40%، وهو أعلى مستوى له منذ عام 1994.
وترجع جذور الاحتجاجات الراهنة إلى قرار إدارة الرئيس الإيراني المتشدد إبراهيم رئيسي في الثالث من مايو الجاري بطرح أسعار جديدة للقمح والدقيق ما أدى لارتفاع سعر الدقيق 5 أضعاف، وزيادته بمقدار 10 أضعاف للمخابز التي تبيع الرغيف الفرنسي ومنتجات مماثلة، وعلى الرغم من تعهد الحكومة بالإبقاء على سعر الخبز الإيراني التقليدي دون تغيير حتى نهاية السنة التقويمية الإيرانية (تنتهي في مارس 2023)، تشير وسائل إعلام محلية إلى أن هذه الأسعار تضاعفت ثلاث مرات بالفعل في بعض المخابز. وامتدت قرارات الحكومة الإيرانية لتحريك الأسعار أيضًا إلى زيت الطهي والدجاج والبيض ومنتجات الألبان، فارتفع سعر زيت الطهي بمقدار أربعة أضعاف. وتجدر الإشارة هنا إلى أن طهران تستورد نصف استهلاكها من زيت الطهي من أوكرانيا وحوالي نصف قمحها من روسيا.
- استراتيجية نظام الملالي في التعامل مع الاحتجاجات
استخدم نظام الملالي في مواجهة تلك الاحتجاجات سياسة “العصا والجزرة” التي تُشكل مزيجًا من الأدوات العقابية الإكراهية، وبعض القرارات الرامية لاحتواء غضب الجماهير، بجانب استراتيجية إعلامية معتادة تقوم على التقليل من حجم ونطاق انتشار الاحتجاجات، واتهام أياد خارجية بتحريكها. فعلى الصعيد الميداني، اتبعت السلطات الإيرانية أسلوب قمع الاحتجاجات ما ظهر في شن حملات اعتقال لعشرات المحتجين، وتقارير إعلامية تشير إلى مقتل 4 متظاهرين، بجانب تعطيل خدمة الإنترنت بجميع أنحاء البلاد لوقف استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتنظيم التجمعات ونشر مقاطع مصورة من المظاهرات.
كما لجأ النظام الإيراني لمواجهة الاحتجاجات بـ”الحشد المضاد” من خلال تنظيم مسيرة ضخمة نُظمت خارج العاصمة طهران ضمت آلافا من أنصار النظام من بينهم 50 ألفًا من عناصر ميليشيا الحرس الثوري وميليشيا الباسيج.
وإعلاميًّا، غيّب نظام الملالي صور الاحتجاجات تمامًا، وعمد إلى التهوين منها بوصفها أنها “تجمعات صغيرة” فيما أفادت وسائل إعلام إيرانية رسمية باعتقال عشرات ممن أسمتهم بـ”المشاغبين والمحرضين”. في مقابل ذلك، عمل النظام على تصدير صورة التجمعات الكبيرة لمؤيديه وسط تعالي الهتافات المناوئة للولايات المتحدة في مدينتي ياسوج وشهركرد بجنوب غرب البلاد اللتين شهدتا الشرارة الأولى لاحتجاجات الغذاء.
وفي محاولة لتعزيز رواية تورط أياد خارجية في الاحتجاجات، عرض التلفزيون الرسمي الإيراني في 17 مايو الجاري ما وصفه بتفاصيل اعتقال مواطنين فرنسيين في وقت سابق من الشهر، قائلا إنهما جاسوسان حاولا إثارة الاضطرابات. الأمر الذي أثار تنديد فرنسا ومطالبتها بالإفراج الفوري عنهما.
ثم جاءت الخطوات السياسية متواضعة من حيث الجوهر ولكنها كاشفة عن مخاوف حكومة إبراهيم رئيسي من تصاعد الاحتجاجات، إذ وعد الرئيس الإيراني بإصدار “قسائم إلكترونية” توزع على الفقراء قريبًا لتعويض الزيادات في أسعار السلع الأساسية، ولكن خلال الشهرين المقبلين سيتم منح جميع المواطنين- يُستثنى منهم الأثرياء- بدلًا نقديًّا شهريًّا يبلغ 13.4 دولار.
جدير بالذكر، أن هذه الاحتجاجات ليست الأولى التي تتعلق بتقليص الدعم في إيران في السنوات الأخيرة، فمنذ عام 2017، أدت مقدمات أو إعلانات خفض الدعم إلى احتجاجات على مستوى البلاد، وعادة ما تكون مثل هذه الاحتجاجات غير منسقة وغير منظمة. وهي على العكس من الاحتجاجات في الماضي التي ارتبطت بتيارات وحركات لديها تطلعات سياسية مثل “الثورة الخضراء” في عام 2009.
وختامًا، يمكن القول بأن السمة المميزة للاحتجاجات الراهنة في إيران أن العنصر الفاعل فيها أفراد ساخطون غير مؤدلجين لا ينتمون لتيار سياسي معين، يرددون في مظاهراتهم شعارات تنادي بإسقاط المرشد خامنئي ونظام ولاية الفقيه، والرسالة التي توجزها تلك المشاهد أن التعثر الاقتصادي للنظام بات التهديد والخطر الأكبر على بقائه واستمراريته، وأن استخدام القوة للقمع والترهيب لن يجدي نفعًا مع مثل هذه الموجات المتتالية من الانتفاضات الشعبية التي طفت على السطح كحمم تسبق ثورة بركانية، كما أن هذا النمط من الاحتجاجات ليس له قادة يتم وضعهم قيد الإقامة الجبرية على غرار ما حدث في عام 2009 مع مير حسين موسوي ومهدي كروبي وباقي قادة الحركة الخضراء، وفي الوقت نفسه لا تطرح أجندة مطالب بإمكان النظام الإيراني التعاطي معها بشكل مراوغ كمخرج مؤقت لإخماد جذوة هذا الحراك.