أدى تطور البيئة الإعلامية ووجود نوافذ جديدة للتعبير عن الرأي تتسم بالتفاعلية تتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي إلى ظهور نمط جديد من أنماط الرأي العام هو الرأي العام الإلكتروني، الأمر الذي أوجد حاجة ملحة لإعادة النظر في نوعية ومضامين الموضوعات والقضايا التي تُبنى عليها الدراسات والبحوث العلمية في مجال الرأي العام، وكذلك المناهج والأدوات والأُطر النظرية كي تواكب تلك التطورات.
وفي هذا الإطار، نشرت المجلة العربية لبحوث الإعلام والاتصال في مارس 2022، دراسة بعنوان “الإشكاليات النظرية والمنهجية في دراسات الرأي العام الإلكتروني.. تحليل نقدي مقارن” للدكتورة نشوى يوسف أمين اللواتي رئيس قسم الصحافة بأكاديمية أخبار اليوم نستعرضها على النحو التالي.
- مشكلة وعينة الدراسة
دفع اهتمـام المواقـع الإلكترونيـة ومواقـع التواصـل الاجتماعـي بتنـاول قضايـا الـرأي العـام، لمزيـد مـن اهتمـام الباحثيـن بتفسـير تغطيـة تلـك المواقـع لقضايـا الرأي العام، ودور ذلـك فـي تشـكيل اتجاهـات جمهـور المتعرضين نحوهـا. وقد ركزت تلك الدراسة على تحليـل عينة قوامها (101) دراسة، منها 54 دراسة عربية و47 دراسة أجنبية، تناولـت معالجـة الصحـف والمواقـع الإلكترونيــة ومواقــع التواصــل الاجتماعــي لقضايا الرأي العام بمختلف أنواعها سواء كانت قضايا سياسـية أو اجتماعية أو صحيـة أو أمنيـة أو اقتصادية خلال الفتـرة الزمنية مـن 2016 إلـى 2021، وتحليـل القضايـا البحثيـة ومجـالات البحـث، والأطـر النظرية المتبعة، والأدوات المسـتخدمة والمناهـج البحثيـة التـي تــم الاعتماد عليها.
- نتائج الدراسة
توصلت الدراسة من خـلال رؤيـة نقديـة للبحـوث العربية والأجنبية -عينة الدراسة- وأجنـدتهم البحثيـة إلى مجموعة من النتائج تتمثل فيما يلي:
أولًا: سـيطرة ظاهـرة البحوث الفرديـة على البحـوث العربيـة، ممـا تسـبب فـي محدوديـة العينـة مـن حيـث الحجـم، وبالتالـي صعوبـة تعميـم النتائج علـى المجتمع ككل، بالإضافة إلـى صعوبة توفـر إطـار شـامل يمكـن مـن خلاله سـحب عينـة ممثلـة فـي سـياق بيئـة الإعلام الرقمـي وتطبيقاتـه، فـي حيـن يغلـب الطابـع الجماعي علـى البحـوث الأجنبيـة، ممـا سـمح بكبـر حجـم العينـات، وبالتالـي إمكانيـة تعميـم نتائجهـا علـى المجتمع.
ثانيًا: جــاءت القضايا السياســية بوجـه عام فــي مقدمـة اهتمامات دراسات الرأي العام عينة الدراسة، ويفسـر ذلـك كثـرة الاعتماد علـى نظريـة الأطر فـي التحليـل بالنسـبة لعينـة التحليـل، وذلـك لخصوصيـة تطبيـق الأطر فـي مجـال القضايا السياسـية.
ثالثًا: قدمـت المدرسـة البحثيـة فـي مجـال علاقـة المواقـع الإلكترونية بقضايـا الرأي العام إسـهامات فيمـا يتعلــق بالتغطيــة الإعلامية لقضايا الرأي العام من خلال اســتمارات لتحليــل مضمـون تلــك المواقـع وتحليــل الخطاب الصحفـي الـذي تقدمه، ودور ذلــك في تشــكيل اتجاهات الرأي العام مــن خلال اسـتمارات اسـتبيان لجمهـور تلـك المواقع، ولكـن مـن أوجـه القصـور عـدم الاعتماد علـى أدوات تحليـل تتناسـب مـع طبيعة عينة التحليل من مواقـع إلكترونية، وعـدم اشـتمال وحـدات التحليـل على الوسائط المتعـددة كافـة.
رابعًا: حظيت البحوث المتعلقة بمواقع الشـبكات الاجتماعية وعلاقتها بتغطية قضايا الرأي العام وتشـكيل اتجاهــات الجمهــور نحوهـا باهتمام واضح فــي البحوث العربية، تليهــا البحوث المتعلقـة بالصحافـة الإلكترونية وتغطيتهــا لقضايا الـرأي العام، ثــم بحـوث الرأي العام الإلكتروني، فــي حيـن حظيـت البحوث المتعلقـة بتغطية المواقع الإخبارية الإلكترونية لقضايا الـرأي العام باهتمــام فــي البحـوث الأجنبية تليهـا البحـوث المتعلقـة بمواقـع التواصـل الاجتماعي ودورهـا فـي تشـكيل اتجاهـات الـرأي العام.
خامسًا: جمعــت بعــض الدراسات بيــن مدخليْن أو أكثر مـن المداخل النظرية والفكرية، ولكــن مع الاسـتعانة بنمـوذج أو نظرية تقليديـة، وأحيانًا تكون المداخل النظرية المستخدمة جميعها تقليديـة، وأنـه فـي حالـة الاسـتعانة بالنظريات التقليديـة فنجـد أن مجـالات التطبيـق ووحـدات التحليـل باسـتمارات تحليـل المضمون، وطبيعـة الأسـئلة فـي اسـتمارة الاسـتبيان جميعهـا قـد تـم تطويعها لتتناسـب مـع بحـوث الإعلام الجديـد.
سادسًا: تتشـابه الدراسات العربية والأجنبيـة فـي العينـة الزمنيـة للدراسـات، والتـي تبلـغ ثلاثـة شـهور، ولكـن يلاحظ كبر حجم عينات الدراسات الأجنبية على العربية، وكذلك اهتمام الدراسات الأجنبية بالدراسات التحليليـة، فـي حيـن يغلـب اهتمـام الدراسات العربيـة بالميدانيـة منهـا، ويرجـع ذلـك إلـى اعتمـاد البحـوث الأجنبية علـى الطابـع الجماعـي فـي إجـراء البحـوث، فـي حيـن تميـل الدراسـات العربيـة إلـى الفرديـة.
سابعًا: فيمـا يتعلـق بـأدوات الدراسـة فـي عينـة التحليـل، فقـد تبيـن ارتـكاز الدراسات العربية علـى اسـتمارة الاسـتبيان يليهـا الاسـتبيان الإلكترونـي، ثـم بفـارق كبير يأتي اسـتخدام أكثر مـن أداة تحليل، يليها تحليـل المضمون كأداة تحليل، وأخيرًا نـدر اسـتخدام مجموعات النقـاش المركزة والتحليـل مـن المستوى الثاني، حيث تـم اسـتخدام كل منهمـا مـرة واحـدة فـي الدراسات عينة التحليـل، فـي حيـن سـاد تحليـل المضمـون كأداة تحليـل فـي الدراسـات الأجنبيـة يليـه بفـارق كبير الاعتماد علـى أداة الاستبيان، ثـم تسـاوت اسـتعانة عينة التحليل بـكل مـن تحليـل الخطاب وتحليـل الأطـر كأدوات تحليل عينـة الدراسـة، وأخيـرًا تساوت الدراســات عينــة التحليل فــي اســتخدام أكثـر من أداة للتحليـل واســتخدام المقابلات المتعمقة منفـردة كأدوات للتحليل بواقـع مـرة واحـدة لـكل منهما.
- مقترحات ورؤية مستقبلية
قدمت الدراسـة عددًا من المقترحات الخاصة لتشكل خارطة تؤطر الجهود البحثية المتعلقة بدراسة الرأي العام الإلكتروني تمثل أبرزها في الآتي:
- أهميـة التركيـز علـى الدراسات الكيفيـة واسـتخدام أدواتهـا المختلفـة، لا سـيما الحديــث منهــا مثــل مجموعــات النقــاش الإلكترونيــة، التحليــل الدلالــي، التحليــل الشــبكي، الاســتبيان الإلكترونـي (بالإضافـة إلـى ضـرورة الاعتمـاد علـى أكثـر مـن أداة لإضفـاء مزيـد مـن العمـق علـى نتائـج الدراسـة).
- ضـرورة التكامل بيـن الأسـاليب لدراســة الظواهر بســياق شـامل، مــن خلال الاسـتفادة بالأدوات الكيفية لأنها تكسب نتائج البحـث ثـراء بجانـب الأدوات الكمية التـي تتميـز بالموضوعية، ممـا يسمح بتقديم رؤيـة متكاملة عـن الظاهـرة محـل الدراسـة، وذلـك لأن لـكل عصـر أسـاليب وأدوات مختلفـة لقيـاس الرأي العام وفقا للمناخ السياسي والتكنولوجي، وفـي العصر الحالي وجـب الاعتماد علـى المواقع الإلكترونيـة سواء الإخباريـة منهـا أو التواصـل الاجتماعي للاسـتفادة منهـا فـي قيـاس الرأي العام.
- إجراء المزيد من البحوث عن دور أساليب صياغة المضمون الصحفي في المواقع الإلكترونية وطرق تقديم المضمون بها في تدعيم وتغيير الرأي العام في القضايا المختلفة ومدى تأثير نوع القضية في تفاوت ذلك التأثير المحتمل.
- استخدام إجراءات بحثية كيفية، مثل المنهج التجريبي، ومنهج دراسة الحالة، والمنهج المقارن، والمنهجية الإثنوجرافية التي تعتمد على المعايشة المتعمقة لميدان الدراسة لفترات طويلة ومجموعات النقاش المركزة، وتدوين وإعداد تقارير الملاحظة بالمشاركة واستمارات المقابلات الشخصية، حيث إن هذه المنهجية لا تحظى بتطبيق واسع في مجال الدراسات الإعلامية.
- مراعـاة دراسـة توظيـف الوسائط المتعـددة والإنفوجراف فـي تقديـم قضايا الرأي العام، ومـدى ملاءمة كل وسـيط لنـوع القضية المقدمة، بجانب إجـراء الدراسات البينيـة فـي هـذا الصـدد، وربطهـا بالسـياق المجتمعي لتحقيق مزيد مـن الاسـتفادة وبناء المقاييـس التي تختبـر اتجاهـات الرأي العام نحـو قضايا الرأي العام المختلفـة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأنه في ظل طفرة استخدام الجماهير لمواقع التواصل الاجتماعي أصبحت دراسة الرأي العام الإلكتروني تمثل أولوية لدى مؤسسات صُنع القرار من أجل التعرف على توجهات الجماهير، وصياغة سياسات مؤثرة في انطباعاتهم ومزاجهم العام.