لا شك أن الإعلام يواجه اليوم تحدياً خطيراً في ظلّ العولمة وثورة عصر الصورة وما بعد المكتوب، ثورة حقيقية بكلّ ما تحمله الكلمة من معاني ودلالات، ثورة انصهر فيها الرقم مع الحرف، في تفاعل مع أجهزة الإعلام والكمبيوتر، لتشكل ما يطلق عليه بالطرق السريعة للإعلام، والتي ليست لها كوابح تحدّ من اندفاعها، ولا حواجز تعيق التدفق الإعلامي المنهمر في كل الاتجاهات.
ميدان الصراع القادم هو الحلبة الثقافية والإعلامية.. وهي مجالات لن تصمد فيها إلا الأمم والشعوب ذات الثقافات القوية
وإذا كان عصر العولمة يعني في جوهره رفع الحواجز والحدود أمام الشركات والمؤسسات والشبكات الدولية والاقتصادية والإعلامية والثقافية، كي تمارس أنشطتها بوسائلها الخاصة، لتحلّ محلّ الدولة في ميادين المال والاقتصاد والإعلام، وإذا كان التفوّق التكنولوجي قد أتاح للغرب إمكانية التحكّم في صناعة المعلومات والاتصال والترفيه، من خلال الشركات العملاقة والشبكات الدولية، إلا أن هذا المجال لا يزال يمثل الساحة الرئيسية لشكل وآفاق الصراع في المستقبل، ما يؤكد أن ميدان الصراع القادم هو الحلبة الثقافية والإعلامية، وهي مجالات لن تصمد فيها إلا الأمم والشعوب التي ترتكن إلى ثقافات قوية، وإعلامٍ يجعلها متجددةً وقادرة على المنافسة، وجذبِ الاهتمام وإقناع المتلقي والحصول على ثقته، ذلك المتلقي الذي لم تعد هناك أي وسيلة أو إمكانية لفرض أيِّ وجهةِ نظرٍ عليه، أو إجباره على الاختيار أو محاصرته أو خداعه وتضليله إعلامياً، بعد أن صارت الثورة الإعلامية إحدى علامات العولمة، وتجلّياتها الأشد وضوحاً وأثراً.
مفهوم العولمة
منطقة العولمة الأساسية عالم بلا حدود ثقافية أو إعلامية أو بيئية أو اقتصادية، وقاطرتها الشركات العابرة للقومية، وأيديولوجيتها الليبرالية الجديدة
سيظلّ مفهوم العولمة ملتبساً يَصعب تحديدُه أو وضعُه في إطار منهجي محدّد إلى الآن، ولن نخوض كثيراً في مئات التعاريف لمفهوم العولمة، ولكنها تعني حسب أشهر المفاهيم، إزالة الحواجز بين الدول على صعيد التجارة وحركة رؤوس الأموال وغيرها، وهي في تقدير معظم الباحثين طغيان ثقافة عالمية واحدة على الثقافات القومية والمحلية المتعدّدة، ومحاولة ابتلاعها والحلول محلها، وللعولمة إيحاءات جديدة ترتبط بظروف جديدة نشأت في عالم القطب الواحد، ونشأت في دنيا أصبحت بحجم القرية الصغيرة، تترابط أنحاؤها بالأقمار الصناعية والاتصالات الفضائية وقنوات التلفزيون، وكل وسائل البث والاتصال الإعلامي والثقافي، وتعني أيضاً تسريع الانفتاح على السوق العالمي بطرقٍ تدفع نحو إزالة الحواجز أمام التجارة الدولية للسلع والخدمات، وإلغاء القيود على الاستثمار الأجنبي المباشر، مع تحرير التدفّقات المالية والنقدية في القرية المالية العالمية، وهي تعميق للاندماج في الاقتصاد الدولي.
فمنطقة العولمة الأساسية عالم بلا حدود ثقافية أو إعلامية أو بيئية أو اقتصادية، وقاطرتها الشركات العابرة للقومية، وأيديولوجيتها هي الليبرالية الجديدة، وشبكة المُنظَّمات الاقتصادية والسياسية والثقافية والتقنية المهنية غير الحكومية، والتي تتكامل أخيراً في محاولةِ إبراز المنظمات غيرِ الحكومية ككيان مؤسّسٍ عالمي لا يزيد من سلطة الدولة القومية، ولكن ينتقص منها باستمرار، ويضعها في زوايا للدفاع عن وظائفها السيادية.
ويرى علماء الثقافة وفلاسفة المعرفة، أن العولمة هي محاولة جادة ومستميتة لتنميط العالم ثقافياً، باستغلال ثورةِ الاتصالات العالمية وهيكلها الاقتصادي والإنتاجي، بعماده المتمثل في شبكات نقل المعلومات والسلع وتحريك رؤوس الأموال، وقدرة الغرب على امتلاك أدوات نشر عالية التقنية، شديدة التأثير والجذب والفاعلية، سريعة الانتشار والحضور، دائمة البث والإرسال، ومن بين هذه الأدوات نُظُم الفضائيات الحديثة، ونظم تخزين المعارف والعلوم وتكنولوجيا الإنترنت، والقدرة المنظمة الهائلة على البحث والابتكار والإبداع.
يظلّ أكثر تعريف للعولمة انتشاراً هو أنها الهيمنة بعينها، وتهدف إلى تهميش الثقافات المحلية، وتعمد إلى تحرير التجارة والثقافة معاً
ومن جانبٍ آخر، فإنه كما تتفاعل الثقافات الراسخة لحضارات العالم الكبرى، في إطار كلٍّ من حضاراتها المتمايزة، فإن تلك الثقافات تتمايز أيضاً وهي تتفاعل، وتواصل تمايزها واحتفاظَ كلٍّ منها بخصائصها الجوهرية، تماماً كما حدث للأديان العالمية واللغات عبر التاريخ.
وواقع الحال يؤكد أن عملية التنميط الثقافي والعولمة الثقافية لم تكتمل بعد، ولم تستقر على شكلٍ نهائي يؤدي إلى ترسيخ ونشر مجموعاتٍ من القيم الرئيسية الكبرى المشتركة بين كل الثقافات دون استثناء (قيم خلقية وسلوكية وجمالية، وعقلية أو ذهنية منهجية ومعرفية).
ويظلّ أكثر تعريف للعولمة انتشاراً هو أنها الهيمنة بعينها، وتهدف إلى تهميش الثقافات المحلية، وتعمد إلى تحرير التجارة والثقافة معاً، وكأن الثقافة هي الأخرى سلعة من السلع تخضع للتحرّر، كما تهدف إلى استلاب الهوية الحقيقية للشعوب والأمم وذوبان ثقافاتها في الهلامية العالمية، وربط الناس بعالم اللا أمة واللا دولة!
الإعلام وتحديات العولمة
انطلاقاً من التعريفات المختصرة السابقة للعولمة، فإن الإعلام يواجه تحدياتٍ عديدةً حالياً، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1- أن تكنولوجيا الاتصال الحديثة أتاحت العديد من الوسائط والوسائل التي ألغت الحدود الجغرافية، وقرّبت المسافات، وسهّلت إمكانية الحصول على المعلومات من أي مكان، وتجميعها وتخزينها وبثها بشكل فوري، متخطية قيود الوقت والمسافة، وقد تمثلت هذه المبتكرات في الأقمار الصناعية والحسابات الإلكترونية وخطوط الميكرويف، والألياف الضوئية والاتصالات الرقمية والكوابل المحورية، والوسائط المتعددة، والاتصال المباشر بقواعد وشبكات المعلومات مثل الإنترنت والجوال والبريد الإلكتروني، وعقد المؤتمرات عن بُعد، ما جعل معظم هذه المبتكرات تُستخدم في إطار المشروعات الخاصة، وتخاطب الحاجات الفردية.
2- زيادة الاتجاه نحو الإعلام المتخصّص ولا مركزية الاتصال التي تعتمد على تقديم رسائل متعددة، تخاطب الحاجات الفردية الضيقة والجماعات المتجانسة، بدلاً من الرسائل الموحّدة التي تخاطب الجماهير الغفيرة.
3 – فقدان الحكومات الوطنية لاحتكار البث التلفزيوني الذي يتلقاه مواطنوها، مما جعل بعض الحكومات تعيد هيكلة نظم الإعلام، من خلال فتح المجال أمام تأسيس خدمات اتصال إلكترونية غير حكومية، لتعزيز القدرة على المنافسة في السوق الإعلامية والدولية.
4- اتجاه صناعة الاتصال الجماهيري إلى التركيز في كيانات ضخمة وملكية مشتركة متعددة الجنسيات، وامتدّ هذا التركيز من السلاسل الصحفية إلى شبكات الراديو والتلفزيون ونظم الكابل والحاسبات الإلكترونية، وفي حالات كثيرة تمتد أنشطة هذه الكيانات الإعلامية العملاقة، إلى تملّك إدارة أعمال أخرى ليس لها علاقة بصناعة الاتصال.
5- أن مجموعة لم يسبق لها مثيل من التحالفات والاندماجات، أثرت على كل القطاعات في العقد الأخير، وهي قطاعات الإلكترونيات والإنتاج الإعلامي والتلفزيون والكابل والنشر والكمبيوتر وكافة الاتصالات السلكية واللاسلكية، وكلها تسعى لإيجاد مكانٍ لها في السوق العالمية، وأصبح المنتجون أنفسُهم يُلغون الفرقَ بين الإعلام والتسلية، وبين البرامج والمُعدَّات وبين الإنتاج والتوزيع، فقد تم تشكيل تحالفات جديدة بين مُلاّك المكونات المادية Hard Ware، ومُلاّك المحتوى الإعلامي Soft Ware، فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة MCI الأمريكية للاتصالات السلكية واللاسلكية عن استثمار أكثرَ من ملياري دولار أمريكي في شركة (روبرت مردوخ) للأنباء، مما يحقّق الدمج بين خطوط الألياف الضوئية والمحتوى الإعلامي والبرامجي، وسيؤدي دمج شركة ABC/ Capital Cities مع إمبراطورية Disney بقيمة 19 مليار دولار، إلى جعل ديزني أكبرَ شركةِ ترفيهٍ في العالم خلال القرن الحادي والعشرين.
6- تركيز مصادر الأخبار الدولية، بمعنى التبعية الإعلامية لدول العالم الثالث، ما زالت قائمةً للكيانات الإخبارية العملاقة التي تحقّق أقصى استفادة من تكنولوجيا الاتصال المتطورة وعولمة الأسواق العالمية، وهذا يعني أن التدفق الإخباري الحالي لا يزال معتمداً على التركيز والهيمنة بدلاً من التعدّدية والتنوّع.
تسعى وكالات الأنباء الدولية إلى ترويج ثقافة عالمية واحدة، وهي الثقافة “الأنجلو أمريكية”
7- تجانس الأخبار، إذ غالباً ما تَعتمد وكالات الأنباء على بعضِها البعض في تبادل الأخبار، بشكل تحالفاتٍ دولية، كما هو الحال في التحالفات بين تلفزيون رويترز وشبكات (روبرت مردوخ) الدولية، وكذلك الطابع التجاري الذي تعمل من خلاله وكالات الأنباء الدولية، والذي يجعلها تضيف الطابعَ الترفيهي على الأخبار، كما أن التجانس يأتي أيضاً من سعي الوكالات إلى ترويج ثقافة عالمية واحدة، وهي الثقافة (الأنجلو أمريكية)، كذلك تقوم هذه المصادر الدولية الكبرى، بترتيب أولويات الجمهور في مختلف أنحاء العالم نحو القضايا الدولية، من خلال انتقاء الصور والأصوات والأحداث وصناعة الحروب والأزمات الدولية.
8 – تَراجع الوسائل المطبوعة وتزايد تأثير الوسائل الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، وهذا يوضّح بجلاء أن طبيعة العولمة الثقافية تنشط حركتها وتتوسّع في ظلّ تصاعد الثقافة المرئية، أي ثقافة الصورة، وفي مناخ يشهد تراجعاً ملحوظاً للثقافة المكتوبة، أي أن ثقافة العولمة هي ثقافة ما بعد المكتوب، فالكتابة ليست من أدوات أو آليات انتشار العولمة.
9- تَراجع الشبكات الوطنية لصالح الشبكات الدولية، وذلك في ظلّ عوامل عديدة منها: تزايد عدد شبكات التلفزيون الدولية، واتجاه هذه الشبكات نحو مخاطبة جماهير متجانسة ذات اهتمامات نوعية.
10 – معلومات أكثر.. ومعرفة أقلّ.. لأن ثورة المعلومات، لا تعني بالضرورة ثورة المعرفة، لأن المعلومات شيء والمعرفة شيء آخر، ولأنّ تحوّل المعلومات إلى معرفة يتطلّب حداً أدنى من الفهم، واستخلاصاً للمعنى، وربطاً بين معلومة وأخرى، وهذا ما لم يتوافر بصورة مرضيةٍ لدى شعوبٍ كثيرة في بلاد العالم الثالث.