مع تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن مقاليد السلطة في 20 يناير 2021 بدأ في انتهاج مسار معاكس للسياسة الخارجية الأمريكية عما كانت عليه في عهد سلفه الجمهوري دونالد ترامب، فاتخذت الإدارة الديمقراطية الجديدة قرارات واتبعت سياسات تمحو إرث ترامب بالكامل، وتقوم على استرضاء بعض الأطراف المسؤولة عن تأجيج الصراعات المشتعلة في الشرق الأوسط بدعوى دفع مسارات التسوية لتلك الأزمات، إلا أن هذا النهج المتراخي القائم على افتراض لا أساس له أفضى إلى نتائج معاكسة تمامًا، حيث منح بشكل ضمني بعض الدول المارقة والميليشيات المسلحة ضوءًا أخضر لمواصلة السياسات المزعزعة للاستقرار.
وقد أثارت تلك السياسات انتقادات داخلية من جانب الساسة الجمهوريين الذين رأوا في تخفيف الضغوط على الدول المارقة والميليشيات الإرهابية تهديدًا لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط، وتوجيه رسائل خاطئة تشجع تلك الميليشيات على مواصلة التحركات غير المسؤولة لانتزاع المزيد من التنازلات من جانب واشنطن، وظهر ذلك بوضوح في السياسة الأمريكية تجاه إيران واليمن وأفغانستان.
الابتزاز الإيراني في المحادثات النووية بفيينا
تعتبر مقاربة الإدارة الأمريكية الحالية للملف النووي الإيراني تكرارًا لنفس النهج الذي تبنته إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما والتي ارتكبت أخطاء في كل من عملية التفاوض والاتفاق النووي الذي توصلت إليه مع إيران في عام 2015، وأتاح لطهران موارد مالية بعد تعليق العقوبات المفروضة عليها، استثمرتها في دعم الميليشيات الموالية لها في المنطقة لتقويض الاستقرار وخدمة مشروعها التخريبي.
ويحتل إحياء الاتفاق النووي الإيراني مكانة محورية في سياسة بايدن تجاه إيران، وهو ما دفع واشنطن للانخراط في محادثات غير مباشرة في فيينا تجمع طهران والدول الموقعة على الاتفاق (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين) من أجل العودة إلى الاتفاق الذي انسحب منه الرئيس السابق دونالد ترامب في عام 2018، ورغم عقد 6 جولات من المحادثات التي انطلقت في فبراير الماضي لا يزال الملف يراوح مكانه، ووسط جمود المفاوضات منذ الانتخابات الرئاسية الإيرانية في مايو الماضي، تواصل إيران تقدمها في عمليات تخصيب اليورانيوم في انتهاك صارخ لبنود الاتفاق، كما تقوم بشن الهجمات ضد السفن وناقلات النفط في الخليج العربي بينما بدأ الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي فصلًا جديدًا من فصول الابتزاز والمراوغة السياسية بإعلانه أن العودة للمحادثات النووية لن تكون تحت ما سماه بـ”الضغط الغربي”.
في المقابل، لم تتخذ إدارة بايدن أي خطوات عملية وجادة لإجبار طهران على تعديل سياستها النووية حتى الآن، فالتصريحات الأمريكية تعكس حالة من التراخي وغياب الحسم في التعاطي مع هذا الملف الشائك والحيوي، إذ صرح بايدن خلال لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في البيت الأبيض في 27 أغسطس الماضي أن الولايات المتحدة تولي الدبلوماسية الأولوية في تعاملها مع إيران، وإذا لم تنجح الدبلوماسية، فإن واشنطن مستعدة للتحول إلى خيارات أخرى، وهو تصريح يعكس رغبة بايدن في التمسك بالنهج الحالي تجاه طهران دون تغيير مع توجيه رسالة طمأنة إلى تل أبيب.
واستمرت لهجة الخطاب الأمريكي على ذات النبرة، وهو ما عكسته تصريحات المبعوث الأمريكي إلى إيران، روبرت مالي الذي قال إن إدارة الرئيس بايدن لا يمكنها الانتظار إلى الأبد حتى تقرر إيران أنها تريد استئناف المحادثات بشأن إحياء الاتفاق النووي، لكنه عاد وأكد أن الولايات المتحدة “مستعدة للتحلي بالصبر”، على حد تعبيره.
تكثيف الميليشيات الحوثية لهجماتها الإرهابية
يعتبر الوضع في اليمن وجهًا آخر للسياسة الخارجية المتراخية التي يتبعها الديمقراطيون والمحفزة للتنظيمات المتشددة، حيث بدأت الإدارة عهدها بإلغاء تصنيف إدارة ترامب لميليشيات الحوثي كجماعة إرهابية بدعوى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية في أماكن سيطرة الحوثيين، وقامت بتعيين تيموثي ليندركينغ مبعوثًا خاصًّا إلى اليمن أملًا في إعطاء دفعة لجهود تسوية الأزمة، مع افتراض أن تلك الخطوات ستحد من العنف داخل اليمن ومن الهجمات الإرهابية التي يشنها الحوثيون ضد المملكة العربية السعودية، لكن النتيجة كانت عكس ذلك تمامًا، فلا يزال اليمن يمر بأسوأ أزمة إنسانية في العالم، وبحسب تقرير لصندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن 80% من اليمنيين، أي نحو أكثر من 24 مليون شخص يحتاجون إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية.
كما كثفت الميليشيات الإرهابية من هجماتها على مأرب آخر معاقل الحكومة اليمنية الشرعية في شمال اليمن، وزادت من وتيرة هجماتها الصاروخية التي تستهدف المنشآت الحيوية والأعيان المدنية في المملكة.
وتؤكد كل هذه التطورات أن القرارات التي اتخذتها إدارة بايدن لإنهاء الحرب في اليمن أدت لمزيد من الحرب، وأن تأثيرها المعاكس ظهر في تصعيد عسكري غير مسبوق، وضحايا أكثر، وأزمة إنسانية متفاقمة، لذا فإذا كانت الولايات المتحدة جادة في إنهاء الحرب فعليها تغيير تكتيكاتها على الفور، وتكثيف ضغوطها على الحوثيين الذين لم يستجيبوا إلى مبادرات وقف إطلاق النار، بحسب المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية.
سيطرة طالبان على أفغانستان وصعود خطر “داعش خراسان”
يمثل الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان والسيطرة السريعة لحركة طالبان على السلطة منتصف أغسطس الماضي وسقوط الحكومة الأفغانية برئاسة الرئيس أشرف غني وهروبه إلى خارج البلاد وانهيار القوات الأمنية الأفغانية، مثالًا صارخًا على قصور السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الديمقراطية، وقد وصف زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور ميتش ماكونيل خطة بايدن للانسحاب من أفغانستان بأنها “أحد أسوأ قرارات السياسة الخارجية في تاريخ أمريكا”، لأن خطر الإرهاب سيبقى هناك.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تنفيذ قرار الانسحاب تم دون النظر إلى قدرة القوات الأفغانية على الصمود في مواجهة حركة طالبان، وهو ما تؤكده تحذيرات أطلقتها هيئة مراقبة الإنفاق على المساعدات الأمريكية في أفغانستان من أن الجيش الأمريكي ليس لديه وسائل لمعرفة قدرة القوات الحكومية الأفغانية على العمل بشكل مستقل عن القوات الأمريكية، بحسب صحيفة “جارديان” البريطانية.
ولم يتوقف الخطر في أفغانستان عند حد سيطرة طالبان، بل برز أيضًا خطر تنظيم “داعش خراسان” الذي تتمثل استراتيجيته في اتخاذ أفغانستان كنقطة انطلاق إلى وسط وجنوب آسيا، وترسيخ مكانته باعتباره التنظيم الأهم في المنطقة من خلال الاستيلاء على إرث الجماعات الإرهابية التي سبقته، وهو ما يتضح في رسائل التنظيم، التي تستهدف اجتذاب المقاتلين المخضرمين وكذلك تجنيد الشباب الأصغر سنًا في المناطق الحضرية، وفقًا لموقع “كوارتز” الأمريكي.
وقد أثبت تنظيم داعش خراسان أنه يمثل تهديدًا أكبر بكثير، فبالإضافة إلى هجماته ضد الأقليات الأفغانية مثل الهزارة والسيخ، واستهدافه عمال الإغاثة الدوليين وجهود إزالة الألغام الأرضية، حاول اغتيال كبير مبعوثي الولايات المتحدة إلى كابول في يناير 2021.
وفي حين لا يزال من السابق لأوانه معرفة كيف سيفيد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان تنظيم “داعش خراسان”، لكن الهجوم المزدوج على مطار كابول الذي أودى بحياة أكثر من 170 شخصًا من بينهم 13 عسكريًّا أمريكيًّا يكشف عن خطورة هذا التنظيم.
ومن المرجح على المدى القصير أن يواصل “داعش خراسان” جهوده لبث الذعر والفوضى، وإثبات أن طالبان غير قادرة على توفير الأمن للمواطنين الأفغان، وإذا تمكن التنظيم من تشكيل مستوى معين من السيطرة الإقليمية على المدى الطويل وتجنيد المزيد من المقاتلين، فسيشكل تهديدات على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن السياسة الخارجية التي تنتهجها الإدارة الأمريكية الحالية تتسم بالتراخي وتقوم على افتراضات تعكس قصورًا في إدراك خصوصية الصراعات وسلوك أطرافها، وتتبنى تحركات منفردة لا تراعي شواغل حلفاء واشنطن ومصالحهم الأمنية، وهو ما يضر على المدى الطويل بالعلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها، الذين سيفقدون الثقة في واشنطن، كما تشجع تلك السياسات الدول المارقة مثل إيران والتنظيمات المتطرفة مثل طالبان و”داعش” على مواصلة أنشطتها التخريبية.