قراءات

خطابُ تنصيب بايدن لتوحيد الأُمّة المُنقسِمة

في حفل تنصيب غير مسبوق أدّى الرئيس الأمريكيّ المُنتخَب جو بايدن القسَم ليُصبح الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة رسميًّا، كما أدَّت كامالا هاريس اليمين كأول امرأة ومُلوَّنة تتولى منصب نائبة الرئيس.
وقد اتسمت المراسم بخُصوصيّة نتيجة للإجراءات الأمنيّة المُشددة التي فرضتها السلطات على خلفية اقتحام أنصار الرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب لمبنى الكونجرس قبل أكثر من أسبوعين؛ احتجاجًا على فوز بايدن بالانتخابات، فضلًا عن كون هذه المراسم تـأتي في ظل قيود صحيّة صارمة بسبب انتشار فيروس كورونا المستجد الذي أودى بحياة 400 ألف أمريكيّ.
وعلى مدار الحفل وخلال أدائه اليمين الدستوريّة، قدَّم الرئيس الأمريكيّ الجديد نفسه في ثوب الرئيس المُوحِّد القادر على تجاوز الانقسامات وإعادة الترابط بين مكونات المجتمع الأمريكيّ، وذلك عبر خطوات عديدة تَرجمت بشكل عمليّ شعار حفل التنصيب” أمريكا الموحَّدة”.
وقد بَدا ذلك في ملمحَيْن أساسيَيْن؛ الأول دعوته زعماء الكونجرس الديمقراطيّين والجمهوريّين إلى المشاركة معه في صلاة بكنيسة القديس ماثيو في واشنطن، حيث لبَّى الدعوة زعيم الجمهوريّين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل الذي كان حتى الآونة الأخيرة أحد أقرب حلفاء ترامب.
وحرص بايدن أيضًا على الوجود خلال الحفل وسط الرؤساء السابقين الديمقراطيَيْن باراك أوباما وبيل كلينتون، والجمهوريّ جورج بوش الابن، فضلًا عن نائب الرئيس السابق مايك بنس الذي حضر رغم غياب ترامب.

قراءةٌ في لُغة وأسلوب الخطاب
وفي أول كلمة له كرئيس للولايات المتحدة الأمريكيّة، ركّز بايدن على مُخاطبة الداخل الأمريكيّ الذي يمرُّ بحالة من التمزُّق والانقسام، أجَّجتها الأحداث التي تلت الانتخابات الرئاسيّة، وحديث الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن تزوير الانتخابات، الذي وجد صدى وتأييدًا كبيرًا في صفوف أنصاره المُنتمين إلى تيار اليمين واليمين المُتطرِّف، وانعكس عمليًّا في أحداث عُنف غير مسبوقة طالت الكونجرس معقل ورمز الديمقراطيّة الأمريكيّة.
واعتمد بايدن في خطابه على صيغة الجمع من أجل التأكيد على إشراك المواطنين في خططه وأهدافه، مع استخدام ألفاظ تُبرز مدى تلاحمه معهم مثل ” رفاقي – My fellow” التي كررها 5 مرات في خطابه، والتأكيد على الهوية الجامِعة بلفظ “الأمريكيّين- American” التي تكررت 18 مرة.
أمّا عن الكلمات المُفتاحية في الخطاب فكانت “الديمقراطيّة – democracy” بواقع 12 مرة للتأكيد على أنه مهما حدث فإنّ النظام الديمقراطيّ في الولايات المتحدة هو من ستكون له الكلمة العُليا، ثم في المرتبة الثانية كلمة “الوحدة- unity ” التي تكررت بواقع 9 مرات، وفي المرتبة الثالثة جاءت “العدالة- justice ” التي رددها 5 مرات.
وعلى صعيد الاستشهادات والاقتباس، استعان الرئيس بايدن بعبارة للرئيس الراحل أبراهام لينكولن بعد توقيعه إعلان تحرير العبيد عام 1863، حينما قال: “إذا تم تسجيل اسمي في التاريخ، فسيكون لهذا الفعل، وروحي كلها فيه”، بينما قال بايدن في خطابه عن هدف توحيد الأمة الأمريكية: “روحي كلها في جمع أمريكا معًا، وتوحيد شعبنا وأُمَّتنا”.
ويحمل الاقتباس دلالةً كبيرةً نظرًا للدور التاريخي الذي لعبه لينكولن، حيث استطاع توحيد الولايات المتحدة الأمريكيّة، والقضاء على نظام العبوديّة، فضلًا عن أنه استشهادٌ من جانب رئيس ديمقراطي هو بايدن بعبارة خالدة لرمز جمهوريّ تاريخيّ هو الرئيس أبراهام لينكولن.
هذا التأطير الظاهر في خطاب بايدن يُؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أنَّه يشعر بحجم الانقسام الذي حدث في المجتمع الأمريكيّ، والذي خلّفته سياسات ترامب، وسيُمثل تحديًّا مستمرًّا له خلال فترة ولايته.
أبرزُ الرسائل التي تضمَّنها خطابُ التنصيب
لقد وجَّه بايدن مجموعةً من الرسائل إلى الشعب الأمريكيّ في خطاب تنصيبه تتمثَّل فيما يلي:
• التأكيدُ على سيادة الديمقراطية عبر اعتبار حفل التنصيب احتفالًا بالديمقراطيّة الأمريكيّة، وانتصارها بعد اختبار تعرَّضت له كانت فيه على قَدْر التحدي، مُشيدًا بالانتقال السلميّ للسُّلطة بعيدًا عن الانقسام.
• التعهُّدُ بأنْ يكون رئيسًا لكل الأمريكيّين بعد فترة من المرارة والانقسام الحاد الذي ضرب المُجتمع.
• التحذيرُ من خُطورة فيروس كورونا وآثاره المدمرة على الصعيد الإنسانيّ أو الاقتصاديّ، بالإشارة إلى أنَّ الوفيات الناجمة عن الوباء تُساوي جميع عدد ضحايا أمريكا خلال الحرب العالميّة الثانية، والتنويه إلى البطالة التي أوجدها لملايين فقدوا وظائفهم.
• تشريحٌ دقيقٌ للأزمات المُستمرة منذ أمد طويل داخل الولايات المتحدة، وأبرزها تحقيق العدالة العِرْقيّة والمشاكل البيئيّة والتغير المناخيّ، ما يُعدُّ رسالةً واضحةً تستهدف الجماعاتِ الحقوقيّةَ المعنيّة بتلك القضايا والمُجتمعات المحليّة.
• العزمُ على محاربة التطرُّف بكافة صوره، سواء كان تطرفًا سياسيًّا أو تطرفًا يمينيًّا للبيض (التطرُّف العِرْقي) وأيضًا الإرهاب المحليّ.
وتُظهر تلك الرسائل المتنوِّعة أنَّ قضية الوحدة والتضامن هي التي هيمنت بشكل أساسي على السياق العام للخطاب، سواء من منظور عرض المشكلات أو طرح الحلول، ومسار العمل والتحرك. فالوحدة مُتطلب أساسيّ من أجل تخطي التحديات والعقبات التي يواجهها المجتمع، بدءًا من مواجهة فيروس كورونا ووصولًا إلى إعادة تأسيس الطبقة الوسطى، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة.
واللافت أنَّ بايدن (78 عامًا) الذي يُعدّ أكبر الرؤساء سنًّا في تاريخ الولايات المتحدة أظهر حرصًا كبيرًا على تصدير صورة عن أنَّ الحركة والنشاط ستكون عنوانًا لرئاسته، إذ بدأ بعد نحو نصف ساعة من خطابه في استخدام الحساب الرسمي لرئيس الولايات المتحدة على موقع التدوينات القصيرة “تويتر”، مُعلنًا عن توجُّهه إلى المكتب البيضاوي، للعمل مُباشرةً على اتخاذ إجراءات جريئة، وتقديم الإغاثة الفورية للعائلات الأمريكيّة، مُؤكدًا على أنه لا يوجد وقت لإضاعته عندما يتعلق الأمر بمعالجة الأزمات.
إرساءُ ميثاق للعلاقة مع الجمهوريّين خلال المرحلة المُقبلة
أرسى بايدن في ثنايا خطابه ما يمكن وصفه بأنّه ميثاق للعلاقة مع الجمهوريّين في ظل إدارته، رغم سيطرة حزبه الحزب الديمقراطيّ على غرفَتَيِ الكونجرس “مجلس النواب ومجلس الشيوخ” وهو ما يُسهِّل كثيرًا من مهمة تمرير الأجندة التشريعيّة لإدارته.
وتجلَّى هذا الميثاقُ بوضوح في قوله: إنَّ “الاختلاف لا يجب أن يكون بداية للتحارب والتناحر، حيث يجب أنْ نحترم قيم بعضنا”، مشيرًا إلى أنه “أحيانًا سنحتاج يد المساعدة، وفي أيام أخرى سيُطلب منا مدّ يد العون، هكذا هي الحياة”.
وتُسهم رسالة بايدن تلك في تهدئة الأجواء المتوترة بين الحزبيْن منذ الانتخابات الرئاسيّة، وما تلاها من تزايد لحدة الصدام الحزبي في ظل اكتساب دعاوى ترامب حول تزوير الانتخابات المزيد من الزخم داخل الحزب الجمهوريّ، والتي وصلت لدرجة بات فيها “التيار الترامبيّ” داخل الحزب يُشكِّل خطرًا على تماسك موقف الجمهوريّين.
ولكنّ المشهد السياسيّ الأمريكيّ يبدو مُقبلًا على تحوُّلات كُبرى، وسط تقارير أمريكيّة تشير إلى بحث ترامب تشكيل حزب جديد تحت اسم “الحزب الوطني”، حيثُ يسعى الرئيس السابق إلى تجميع أنصاره – 74 مليون أمريكي منحوه أصواتهم في الانتخابات- تحت مظلة مؤسسيّة تضمن له ممارسة نفوذ سياسيّ بعد مغادرته البيت الأبيض، ومن المؤكد أنَّ خُطوة كهذه ستُمثّل خطرًا كبيرًا على الحزب الجمهوري، لا سيما وأنّ استطلاعات الرأي تُظهر أنّ ترامب يُحافظ على دعم قوي بين الناخبين الجمهوريّين.
وعلى الأرجح ستتوقّف خُطة ترامب في المُضي قُدُمًا في تأسيس الحزب على مصير محاكمته في مجلس الشيوخ الأمريكيّ بتهمة الدعوة إلى التمرد على خلفية أحداث الكونجرس، فإذا استطاع الجمهوريّون تأمين موقف ترامب وتجنيبه الإدانة، فسيعني ذلك وجود فرصة له للترشح مُجددًا في الانتخابات الرئاسيّة لعام 2024، ولكن في حال صوَّت الجمهوريون ضده وتمت إدانته لن يكون بمقدوره قانونيًّا الترشح مُجددًا.

وخِتامًا، يتضح ممَّا سبق أنَّ خطاب الرئيس الأمريكيّ الجديد غلب عليه الشأن الداخليّ بشكل كامل، نظرًا لطبيعة الحدث والسياق المحيط، حيثُ ركَّز على هدف أساسيّ وهو الإعلان عن فلسفته في الحُكم خلال السنوات الأربع القادمة، حيثُ وضع مسارًا يحكم الخُطواتِ والسياساتِ المُرتقبةَ لمعالجة الانقسامات التي تضرب جذور المجتمع الأمريكيّ، ويقوم هذا المسار على دعم جهود الوحدة ورأْب الصدع، وتحقيق العدالة والتكاتف من أجل تخطيّ التحديات، مع المواجهة الحازمة للتهديدات الخاصّة بالتطرُّف السياسيّ والعِرْقي والإرهاب المحليّ.

زر الذهاب إلى الأعلى