قراءات

تحوُّلات الخطاب الأردوغانيّ من المُلاسنة إلى المُهادنة

شهد الشهران الماضيان تحوّلاتٍ بارزةً في لهجة الخطاب الرسميّ التركيّ، وتحديدًا خطاب الرئيس رجب طيب أردوغان إزاء العديد من القضايا الإقليميّة والدوليّة، فبعدما كان الخطابُ يتّسم بالحدّة والصّدام والتلاسُن – في بعض الأحيان- بات أكثر مُهادنة ما يعكس رغبة في إحداث تحوّل في مسار السياسة الخارجيّة التركيّة في ظل المتغيّرات التي تموجُ بها الساحتان الإقليميّة والدوليّة.
ويبقى السؤال الأهم هنا هل يؤدي التحوّل في طبيعة الخطاب إلى انعكاساتٍ ماديةٍ في مسارات وأدوات تنفيذ السياسة الخارجيّة التركية خلال المرحلة المقبلة، فضلًا عن مدى إمكانية تجاوز الإشكاليّات التي أفرزها الخطاب الأردوغاني خلال السنوات الأخيرة، الذي تبنّى بصورة واضحة مشروع العثمانيّين الجُدد.
إطلالةٌ على طبيعة السياسة الخارجيّة التركيّة
واجهت أنقرة على مدى العام الماضي العديد من التحديات على الصعيدين الداخليّ والخارجيّ، في مقدمتها جائحة كورونا التي تزامنت مع الوضع الاقتصاديّ المتردي، وتهاوي سعر صرف العملة المحلية “الليرة” أمام الدولار، فضلًا عن العلاقات المتأرجحة مع الولايات المتحدة بفعل شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس -400″، ومع أوروبا في ظل التوترات المتصاعدة مع اليونان وقبرص في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بسبب التنقيب على الغاز.
بالإضافة إلى ظهور واضح للبُعد العسكريّ في السياسة الخارجيّة التركيّة، بانخراط الآلة العسكريّة التركيّة في بُؤر الصراع المُلتهبة داخل الشرق الأوسط خاصّةً في سوريا وليبيا، أو حتى خارجه وتحديدًا في منطقة القوقاز ذات الأهميّة الاستراتيجيّة عبر المعارك بين أذربيجان وأرمينيا حول منطقة ناغورنو كاراباخ.
وهكذا توسّع دور الأدوات والأساليب العسكريّة في إدارة السياسة الخارجيّة التركيّة، رافقته لهجةٌ ومفرداتٌ ابتعدت كثيرًا عن قاموس الدبلوماسيّة؛ إذ كانت حادةً ومتجاوزةً في العديد من المُناسبات لحدود البروتوكول والعُرف، وبلغت ذُروتها في هجوم أردوغان على نظيره الفرنسيّ إيمانويل ماكرون عندما شكّك في قُواه العقليّة، داعيًا الفرنسيين إلى التخلُّص منه في أقرب وقت مُمكن!.
لكنّ نبرة الخطاب التركيّ مُؤخرًا تغيّرت على نحو ملحوظ بخصوص أكثر من ملف وبشكل شبه متزامن، في مؤشر واضح على رغبة أنقرة في إعادة ترتيب أوراقها بما يتناسب مع المرحلة المقبلة، اعتمادًا على قراءة لإرهاصات تحوّلات في البيئتين الإقليميّة والدوليّة آخذة في التشكُّل، من أبرزُها تولّي إدارة أمريكيّة جديدة مقاليد الحكم، والمصالحةُ الخليجيّةُ وانعكاساتها على التفاعلات الإقليميّة، والعقوباتُ الأوروبيةُ التي أجبرت أنقرة على إعادة النظر في مسار سياستها تحت وطأة الأزمة الاقتصاديّة التركيّة.
ترقُّبٌ لأجندة الإدارة الأمريكيّة الجديدة
توجد حالة من الترقُّب الشديد لدى دوائر صُنع القرار في أنقرة لسياسة إدارة الرئيس الأمريكيّ جو بايدن تجاه تركيا، فرغم تصاعد التوترات بين واشنطن وأنقرة خلال العامين الأخيرين، لكنّ التوتر كان غالبًا يتم احتواؤُه بفضل العلاقة التي جمعت بين الرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب وأردوغان.
وكافّةُ المُعطيات الراهنة تُشير إلى أنّ العلاقة بين البلدين خلال السنوات الأربع المُقبلة- أي فترة إدارة بايدن- ستكون مختلفةً تمامًا عما كانت عليه في عهد ترامب، وذلك بالنظر إلى المواقف المُتناقضة تجاه الجغرافيا السياسيّة والتحالفات، وطبيعة الحُكم في تركيا.
ومن بين الملفات التي ستكون تحت المجهر الأمريكيّ أوضاعُ حقوق الإنسان في تركيا، التي انتقدها الديمقراطيون مرارًا وتكرارًا، وشراءُ تركيا لمنظومة الدفاع الجويّ الروسيّة “إس- 400” التي أغضبت الشركاء في حلف الناتو، والعمليات العسكرية ضد حلفاء واشنطن مثل الأكراد في شمال سوريا.
وفي هذا الإطار، يرى مايكل روبين، الباحث المُقيم في معهد أمريكان إنتربرايز (مركز أبحاث مقره واشنطن) أنّ أردوغان يجب أن يكون قلقًا للغاية بعد رحيل ترامب عن الحُكم.
وتُشير التصريحات السابقة للرئيس بايدن إلى أنّ موقف إدارته سيكون أكثر صرامة تجاه تركيا، فضلًا عن أنّ العلاقة الشخصيّة مع أردوغان ليست في أفضل أحوالها، إذ سبق وأن وصف بايدن أردوغان بـ”المُستبد”، وانتقد تصرفاتِه ضدّ الأكراد وتوعّده “بدفع الثمن”.
وتعهّد بايدن بالاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن على يد الأتراك، وهي قضية مُثيرة للجدل بشكل كبير بالنسبة لتركيا، وقد تجنّب رؤساء الولايات المتحدة الاعترافَ بها طيلة قرن.
إضافة إلى ذلك، اقترح بايدن خلال حملته الانتخابيّة الرئاسيّة أنْ تدعم الولايات المتحدة قادة المعارضة التركيّة؛ حتى يتمكّنوا من هزيمة أردوغان عبر الانتخابات.
وقد أثارت تلك الدعوة غضب الرئاسة التركيّة التي قالت إنها “تعكس الألاعيب والنهج التدخليّ تجاه تركيا”، لكنّ تلك اللهجة الغاضبة كانت مُرتبطةً بأجواء من “اللايقين” حول فُرص بايدن الانتخابيّة، وآمال واسعة معقودة على فوز ترامب بولاية رئاسيّة ثانيّة؛ لذا سُرعان ما تبدَّل خطاب الرئاسة التركيّة بعد الحسم النهائيّ لفوز بايدن، حيث خرج المُتحدث باسم الرئيس التركي إبراهيم كالين بتصريح لافت قال فيه: إن تركيا تعتقد أنه يمكن أن يكون لديها “أجندة جيدة وإيجابيّة” مع إدارة بايدن.
وتُوحي تلك التطورات أنّ الصدام ليس بالضرورة سيكون النتيجة الحتميّة، فهناك انفتاح تركي على التعاون مع إدارة بايدن، وقد يساعد في ذلك رغبة الإدارة الأمريكيّة الجديدة في تخفيف العبء الأمنيّ على الولايات المتحدة، والذي يعني الاعتماد على حلفاء كأنقرة لكبح خصومها في المنطقة، وحماية المصالح المشتركة، ويعزز من ذلك عودة الولايات المتحدة بقوة للانخراط الفاعل في المنظمات مُتعددة الأطراف والتحالفات مثل الناتو.
وفي هذا الإطار، يتوقع تيموثي آش، كبير محللي الأسواق الناشئة لدى بلوباي لإدارة الأصول أنّ يعمل بايدن على محاولة تحسين العلاقات مع تركيا وإعادتها إلى الحظيرة الغربية، من مُنطلق أنّ أكبر خطرين على الولايات المتحدة هما الصين وروسيا؛ لذا سيسعى لإبعاد أنقرة عنهما.

البناءُ على المُصالحة الخليجيّة لكسر عُزلة أنقرة
تُمثل المصالحة الخليجيّة تغييرًا كبيرًا في بنية النظام الإقليمي يستلزم من كافة الأطراف الإقليميّة إعادة ترتيب أوراقها، وقطعًا فإنّ تركيا طرف من هذه الأطراف، فلطالما جنت مكاسب من وراء الخلاف السابق على تلك المُصالحة؛ لذا لجأت أنقرة إلى التعامل ببراجماتية شديدة مع التطور على الأرض، فمع بواكير الانفراجة الخليجيّة بقرار المملكة العربية السعودية إعادة فتح الأجواء والحدود مع قطر، سارعت تركيا إلى إعادة التموضع في ظل المُعادلة الإقليميّة الجديدة بإعلانها الترحيب بخُطوات المملكة.
وفور صدور بيان قمّة العُلا التاريخية الذي دشّن المصالحة وراعى المصلحة الخليجيّة، خرجت الخارجيّة التركيّة ببيان قالت فيه إنها “شريكة استراتيجيّة” لمجلس التعاون الخليجي، ومستعدة لبذل الجهود من أجل الارتقاء “بتعاونها المؤسسيّ” مع المجلس، ما يُمثل إشارةً واضحةً لاهتمام أنقرة بعلاقاتها مع دول المجلس، خصوصًا الاقتصاديّة منها.
ولا ينفصلُ الخطاب التركيّ حول المُصالحة الخليجيّة عن إطار السياسة الخارجيّة التركيّة التي يبدو أنّها تتخذ مساراتٍ مختلفةً عن السابق، تقوم على التجنُّب التام أو على الأقل الحد من الخلافات والصدامات، والوصول إلى تفاهمات سياسيّة ودبلوماسيّة تُؤسس لعلاقة خالية من التوتر قدرَ الإمكان.
ووفقًا لموقع “المونيتور” الأمريكيّ، تُدرك أنقرة أنّ الاعتماد المتبادل بينها وبين الدوحة الناتج عن سنوات ما قبل المُصالحة الخليجيّة سيتراجع، لكنّ تركيا تهدف إلى تحويل هذا الوضع المتغير لصالحها، آملةً أن يُسهم بيان العُلا في ذوبان الجليد في علاقاتها مع العديد من الدول الخليجيّة والعربيّة، وتتحرّر من عُزلتها المتزايدة في المنطقة، وتعزّز تجارتها الخارجيّة التي تضررّت كثيرًا بفعل تلك العُزلة، فضلًا عن تقديم بادرة حُسن نية لإدارة بايدن.

فتحُ صفحة جديدة مع أوروبا واسترضاءُ فرنسا
وفي سياق تلك الخُطوات التي تُمثل تحوّلًا مرحليًّا للسياسة الخارجيّة التركيّة، تُعد العلاقة مع الاتحاد الأوروبي محورًا أساسيًّا، وهو ما تجسّد في تصريحات للقيادة التركيّة، وجولات خارجيّة للمسؤولين الأتراك.
فعلى سبيل المثال أعرب أردوغان في كلمة أمام نواب حزبه “العدالة والتنمية” بالبرلمان في 23 ديسمبر الماضي، عن أمل أنقرة في “فتح صفحة جديدة” في العلاقات مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي في العام الجديد.
وجاءت التصريحات على وقْع فرض واشنطن عقوباتٍ ضد تركيا لشرائها منظومة الدفاع الصاروخي الروسيّة “إس-400″، وقرار القمة الأوروبيّة بفرض عقوبات على أنقرة بسبب أنشطتها في شرق البحر المتوسط ونزاعها مع اليونان وقبرص العضوين في الاتحاد الأوروبي، على حقوق التنقيب في المنطقة.
وبعد أشهر من التوتر بين أنقرة وباريس، أقدمت الحكومة التركيّة على تقديم بادرة إلى فرنسا لتطبيع العلاقات معها، حيث أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو خلال زيارة للبرتغال (رئيس الاتحاد الأوروبي حاليًا) عن استعداد أنقرة لتلك الخُطوة، متحدثًا عن خارطة طريق مع باريس بعد مُكالمة هاتفيّة مع نظيره الفرنسي جان إيف لودريان وصفها بالبناءة، تم إجراؤها خلال اجتماعه مع نظيره البرتغالي، أوجستو سانتوس سيلفا.
وفي هذا السياق، تُرجح سينيم جنكيز المُحلّلة السياسيّة التركيّة المتخصّصة في علاقات تركيا مع الشرق الأوسط أنْ تكون الدبلوماسيّة، بدل الوسائل العسكرية، هي الأدوات الفعّالة في صُنع السياسة الخارجيّة التركيّة خلال الفترة القادمة، وأن يكون الحوار بدل التهديد بفرض عقوبات هو الخطاب المُهيمن على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تجاه أنقرة.

وتأسيسًا على ما سبق، يتضح أنّ سياسة أردوغان الخارجيّة تشهد حالةً من “التكيّف السياسي- Political Adaptation”، حيث تُوجد مؤشرات على التغيّر في شكل السياسة الخارجيّة استجابةً لمُتغيرات ومتطلبات داخليّة وخارجيّة، وإنْ كانت الحالة التركية أقرب ما تكون إلى تجسيد نمط “التكيُّف الإذعاني- Acquiescent Adaptation”، فالباعث الرئيسي على تلك التحوُّلات يتمثّل في مجيء الإدارة الأمريكيّة الجديدة، ورغبة أنقرة في اتخاذ خُطوات استباقيّة؛ لإذابة الجليد في العلاقة مع الرئيس الأمريكيّ جو بايدن، إضافة إلى إتمام المُصالحة الخليجيّة، وعودة الوئام والتنسيق بين دول المجلس.
وبالرغم مما تقدَّم، تبقى محاولات تركيا لتعديل سياستها الخارجيّة عمليةً ليست يسيرةً، فإرثُ الماضي القريب ليس من السهل تجاوزه بتغيير في نبرة الخطاب من الحدّة والمُلاسنة إلى المُهادنة والمُغازلة.
ويبقى التحدي الأكبر والأشد تعقيدًا أدلجة أردوغان للسياسة الخارجيّة التركية خلال العقد الماضي؛ لذا من المرجح أنْ تكون علاقة تركيا بجماعة الإخوان المسلمين التحدي الأبرز لأي تحوّل في الخطوط العامة للسياسة الخارجيّة التركيّة، وتفاعلات أنقرة مع محيطها الإقليمي، لا سيما وأنّ تلك التفاعلاتِ تُعتبر محددًا أساسيًّا يُؤثر في علاقاتها على الصعيد الدولي مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبيّ.
إنّ الارتباط بين تركيا والجماعة بات وثيقًا للغاية، وتُجسده إسطنبول التي تُعد ملاذًا آمنًا لعناصر الإخوان المُلاحَقة بقضايا إرهاب.
إضافة إلى ذلك، يبرز أيضا تحدٍ آخر يتّصل بالداخل التركي، ويتمثّل في مُمارسات أردوغان بحق المعارضة والصحافة وأوضاع حقوق الإنسان، فهذا الملف سيظل عاملًا يُؤرق السياسة التركيّة.
وختامًا يجب التأكيدُ على نقطتين رئيستين، الأولى أنّ التغيّر في السياسة الخارجيّة التركية ما زال شكليًا حتى الآن، وتمثّل في تهذيب للغة الدبلوماسيّة لأنقرة وخاصّةً المتعلقة بأردوغان.
أمّا النقطةُ الثانيةُ هي أن تركيا لجأت إلى تغيير لهجتها وخطابها الرسمي “مُضطرّة” بفعل التغيرُّات الإقليميّة والدوليّة، ما يعني أنّ هذا التغيُّر قد يكون تكتيكيًّا وليس استراتيجيًّا لتجاوز التحديات الداخليّة والخارجيّة التي يواجهها نظام أردوغان.

زر الذهاب إلى الأعلى