ترجمات

الماضي في عصر التواصل الاجتماعيّ.. ذاكرة لا تُمحى

في ظل الانخراط شبه الكامل للمراهقين اليوم في عالم مواقع التواصل الاجتماعي، والنشر المتواصل لتوثيق كل لحظاتهم على تلك المنصات، فإنّ الجهود المبذولة لتجاوز اللحظات التي يندمون عليها تواجه عقباتٍ جديدةً، ويبدو أنه لا يُمكن التغلب عليها، فهذه المعلومات التي تتراكم على وسائل التواصل الاجتماعيّ موجودة لتبقى.
فما كان حدثًا عابرًا في الماضي تم الآن توثيقه، وبات جاهزاً ودائمًا للظهور في المستقبل، وعلاوة على ذلك فإنّ الابتكاراتِ الجديدةَ مثل التعرّف الآلي على الوجه تعني أيضًا أنّ عودة ظُهور ماضي المستخدمين أصبحت خارجة عن سيطرتهم بشكل مُتزايد.
ومنذ البدايات الأولى لظهور الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعيّ، كان النقّاد قلقين من أنه قد يُعرّض براءة الطفولة للخطر، لكنّ الخطر الأكبر من وجهة نظر بعض الأكاديميين قد يحدث عندما يجد الشباب أنهم غير قادرين على إبعاد أنفسهم عن ماضيهم، فبدلًا من اختفاء الطفولة بسبب فقدان البراءة المبكر، قد تكون الأزمة الحقيقيّة للعصر الرقميّ أنّ شبح الطفولة لا يمكن نسيانُه أبدًا.
ولعلّ هذا ما ركزت عليه كيت إيكورن أستاذة الثقافة والإعلام في جامعة “The New School” بنيويورك، في كتابها المعنون “نهاية النسيان: النشأة في ظل منصات التواصل الاجتماعيّ”، إذ جادلت بأننا ندخل عصرًا رقميًّا لا يسمح بنسيان شبح الطفولة، مُعتبرةً أنّ السؤال الحقيقي ليس كيفية حماية الشباب من الإنترنت، بل ما هي الذات التي قد يرغبون يومًا ما في تركها وراءهم كبالغين.
مواقعُ التواصل الاجتماعي تُدشن حقبةً جديدةً من صناعة الصور
وتُقدّم إيكورن منظورًا حول كيفية قيام الذاكرة الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعيّ بإحداث حقبة جديدة من صناعة الصور، حيث يفقد الشباب القدرة على تدمير البيانات والذكريات التي قد يرغبون في نسيانها وإخفائها عن الرأي العام.
وتشير إيكورن إلى أنه عندما نقوم بتسجيل الخروج من الفضاء الرقمي، نقلل من بصمتنا الرقمية (البيانات التي نتركها وراءنا)، لكنّ ظلال بياناتنا (وهي المعلومات التي يولدها الآخرون عنا) تستمر في التكاثر، على حد تعبيرها.
ويُشكّل هذا الكِتاب تطورًا لما طرحه فيكتور ماير شونبرغر، أستاذ إدارة الإنترنت والتنظيم في معهد أكسفورد للإنترنت بجامعة أكسفورد، في كتابه “فضيلة النسيان في العصر الرقمي”، الذي يُحذر من الذاكرة المثالية للإنترنت، وأيضًا كتاب دانا بويد مؤسس ورئيس معهد أبحاث البيانات والمجتمع، والأستاذ الزائر في جامعة نيويورك بعنوان “الحياة الاجتماعية للمراهقين الشبكيين”، الذي يأخذ في الاعتبار بالتفصيل كيف أصبحت التكنولوجيا مُتشابكةً مع الحياة اليومية للمراهقين.
ويُعدُّ كتاب كيت إيكورن جزءًا من تحوُّل في النقاش مما يحدث للشباب على منصات التواصل الاجتماعيّ، إلى ما قد يفعلونه لممارسة سيطرة أكبر على حياتهم الرقمية وذكرياتهم.
ويتمحور الكتاب حول فكرة أساسية، مفادها أنّ الوسائط الجديدة دفعت مستخدميها إلى عصر الطفولة الدائمة، حيثُ أصبحت آثار الماضي متشابكةً، وسيطرة المستخدمين عليها أقل. كما يعتمد الكتاب على نظرية الذاكرة وعلم الأعصاب، وتاريخ وسائل الإعلام لوصف المخاوف المبكرة حول تأثير الإنترنت على الأطفال؛ لتفسير كيف أثّر التحول من “التناظرية – analog” إلى الرقمية على الفهم المعاصر للماضي، وهو ما يتضح في النقاط التالية، أولًا وجود المزيد من صور الشباب المتداولة عبر المنصات الرقمية أكثر من أي وقت مضى، أما النقطة الثانية فهي أنه لأول مرة يتم التقاط هذه الصور في الغالب من قبل الأطفال والمراهقين أنفسهم، بينما تتمثّل النقطة الثالثة والأخيرة في أنّ أحد الجوانب الفريدة للعصر الحالي تتمثّل في القدرة على الحفاظ ليس فقط على صور الماضي، ولكن أيضًا على الشبكات الاجتماعية المرتبطة بهذه الصور.
فعادة ما تكون الصورة المنشورة على الإنترنت مرتبطةً بشبكة اجتماعية كاملة من الأشخاص، وهذا يعني أنها ليست مُجرد أرشيف للصور الرقمية ومقاطع الفيديو، ولكنها سياق اجتماعي كامل قد يرغب أو لا يرغب المستخدمون في الاحتفاظ به في المستقبل.

ذاكرةُ الماضي الرقميّة غير الخاضعة لسيطرة المستخدمين
وتحت عنوان “توثيق الطفولة قبل وبعد وسائل التواصل الاجتماعيّ”، تصفُ إيكورن الطرق التي استخدمها البالغون تاريخيًّا للسيطرة على صورة الطفولة؛ وتُجادل بأنّ ظهور كاميرا “بروني- Brownie” والكاميرات الأخرى ذات الأسعار المعقولة في أوائل القرن العشرين إلى منتصفه قد غيّرت المشهد الإعلامي بشكل كبير من خلال تشجيع الأطفال، وتمكينهم من تجربة تمثيل الذات.
ولاحقًا أضحت وسائل التواصل الاجتماعي عنصرًا جديدًا في التفاعل الاجتماعيّ، وتكوين الشعور بالهوية الشخصية، فالشعور بالهوية الشخصية يتشكّل من خلال التقاء الذاكرة والنسيان.
والنضجُ يأتي من التجارب والحدّ من مدى شدة تذكُّر أجزاء من تلك التجارب، بالإضافة إلى القدرة على تركها وراء ظهورنا بالكامل، لكن الوسائط الرقمية لا ترحم ولا تنسى، فالمساحة الرقمية والوقت الرقمي يعملان ضد احتمالية النسيان.
ولا يُمكن التخلُّص من تلك التجارب إلا من خلال حذف كميات هائلة من المواد الرقمية المنتشرة عبر أنظمة لا حصر لها، أو على الأقل إزالتها من الوصول العام أو مزيد من التداول، وحتى لو كان محو البيانات على هذا النطاق مُمكنًا، فلن يكون ذلك سهلًا أو متاحًا بشكل عادل للكافة.
إنّ الشباب حول العالم متورطون بعمق في الحياة الرقمية كمستهلكين ومنتجين، وبالتالي منحُ حقوق خاصّة لمحو البيانات لبعض الشباب لن يحل المشكلة الأوسع، فلا يوجد أحد في عالم تكنولوجيا المعلومات لديه حافز لحذف مئات التيرابايت من التاريخ الشخصي من دون الحصول على مقابل.

محدوديةُ الأضرار بالنسبة لحجم مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعيّ
وتُشير مجلة “The New Statesman” البريطانية إلى أنّ كتاب إيكورن يُعدُّ دليلًا مهمًّا لأي شخص ينشر بانتظام على وسائل التواصل الاجتماعيّ، فهو يُحدّد المخاطر التي تُشكلها المنصات، ويُقدّم حُجةً رائعةً للنشر الحذر، ويدعو إلى زيادة الضغط على شركات التكنولوجيا التي تحتفظ ببيانات المستخدمين، لكنّ استنتاجها – بأننا لن ننسى أبدًا أكثر ذكرياتنا يُعتبر إذلالًا يُسيء فهم الطريقة التي يوثق بها الشباب طفولتهم على وسائل التواصل الاجتماعيّ، ومدى ما يلاحقهم من ماضيهم.
من جهة أخرى، تعتمدُ حُجة إيكورن في جانب كبير على مجموعة من دراسات الحالة المتخصصة، فاستعرضت بين دفتي الكتاب الكثير من حالات الأطفال الذين أصبحوا من مشاهير الإنترنت أو الميمات سواء عن قصد أو دون قصد، والشباب الذين وقعُوا ضحايا للجرائم الإلكترونية مثل الإباحية الانتقامية.
وتشرحُ كيف يُمكن أن يضر الإنترنت بهؤلاء الأطفال، عبر الصور ومقاطع الفيديو التي تتبعهم مدى حياتهم، حيث من الصعب للغاية تدمير هذه السجلات، مقارنة بالشريط أو الصورة في زمن ما قبل منصات التواصل الاجتماعي.
ووفقًا لمجلة “PopMatters” المعنية بالنقد الثقافيّ، فبالرغم من أن صعوبة تدمير السجلات الرقمية التى توثق الماضي قد تُشكل مصدر قلق للبعض، إلا أن الغالبية العُظمى من مليارات الشباب في العالم لن يصبحوا موضوع محتوى فيروسي، أو حتى محتوى ينتشر بشكل ضارّ في جميع المنصات، فعلى سبيل المثال اللحظات المحرجة نادرًا ما تصل إلى خلاصات إنستغرام المنسقة بعناية للمراهقين.

وتأسيسًا على ما سبق، من الأهمية بمكان أنْ تركز الدراسات الأكاديمية خلال المرحلة المُقبلة على بحث دور منصات التواصل الاجتماعيّ في عملية النسيان، ويُمكن تحقيق ذلك من خلال دراسات نوعية لكيفية تمكين التطبيقات المحمولة المشفرة من طرف إلى طرف؛ مثل واتساب وسيجنال وتليجرام بتلك المهمة، أو منح المراهقين المزيد من الأدوات للتحكم في بياناتهم الرقمية، ومن يمكنهم الوصول إلى الذكريات على وسائط التواصل الاجتماعيّ منذ طفولتهم، كما يُمكن أن تتطرق الدراسات أيضًا إلى استكشاف كيفية قيام الجهات التنظيمية بتقليل العمر الافتراضي لذاكرة منصات التواصل الاجتماعيّ.

زر الذهاب إلى الأعلى