قراءات

مجلس الرقابة على محتوى فيسبوك.. رؤية نقدية

في خطوة تهدف إلى مكافحة المحتوى المثير للجدل الذي يجب عدم السماح به على “فيسبوك” و”إنستغرام”، ومع تزايُد الدعوات إلى المزيد من الشفافية والمساءلة، جاء إعلان شركة فيسبوك عن تشكيل مجلس للرقابة على المحتوى يكون بمثابة “محكمة عليا” تتولى الحكم على المحتوى الذي تم حظر نشره.
ويتألف المجلس حاليا من 20 عضوًا يمثلون مجموعة متنوعة من التخصصات والخلفيات، ومن المقرر أن يتم توسيعه خلال الشهور المقبلة إلى 40 عضوًا من جميع أنحاء العالم، وسيكون المجلس منوطًا بمراجعة عدد محدد من الحالات الرمزية للغاية، ويحدد ما إذا كانت القرارات قد اتخذت وَفقًا للقيم والسياسات المعلنة في فيسبوك.
وبينما رحَّب بعض النشطاء بالمجلس بحذر كخطوة في الاتجاه الصحيح للشفافية، فإن المنتقدين يقولون إن صلاحياته محدودة للغاية، بحيث لا يمكنه فعليًّا مواجهة المشكلات التي يواجهها فيسبوك في السيطرة على انتشار المعلومات المضللة وخطاب الكراهية.
آلية عمل مجلس الرقابة على محتوى فيسبوك
يتمتع مجلس الرقابة بالاستقلالية عن مجلس إدارة فيسبوك، لذلك يمكن اعتبار صفته القانونية ضمن اللوائح الداخلية شبيهة بالمحكمة الدستورية العليا المعمول بها لدى الدول الديمقراطية.
ووفقًا لآلية عمل المجلس، يتولى خمسة أعضاء بالمجلس المكون من 20 عضوًا الحالات التي يتم مراجعتها من بين الطلبات أو الطعون المقدمة من قِبل مستخدمين تم إزالة منشوراتهم، ثم يتم تقسيم الأعضاء الخمسة عشر الباقين إلى ثلاث مجموعات (كل مجموعة تضم شخصًا واحدًا من نفس المنطقة المنشور فيها المحتوى الأصلي)، ثم يتم تقسيم الملفات المنظورة على تلك المجموعات بالتساوي.
وفي جولة لاحقة، يتم عرض المسألة على لجنة جديدة مكونة من خمسة أعضاء وخلالها سيتمكن المستخدمون من شرح نياتهم من وراء المنشور كجزء من عملية الاستئناف، بحسب موقع “The Verge” الأمريكي المتخصص في أخبار التكنولوجيا.
لكن عددًا من النشطاء أشاروا إلى وجود قيود على عمل مجلس الرقابة، إذ يمكنه فقط أنْ يحكم فيما إذا كانت المنشورات قد أزيلت بشكل خاطئ وليس تلك التي يُسمح ببقائها، فضلًا عن أنه يمكنه فقط تفسير قواعد فيسبوك الحالية وليس وضع قواعد جديدة، كما أن “فيسبوك” لن يحيل الطلبات إلى المجلس إذا تمت إزالة المحتوى، وفقًا لقانون البلد الذي تم فيه نشر المنشور، ممَّا يعني وجود مشكلات أكثر تعقيدًا بشأن حرية التعبير في أجزاء من العالم، وأخيرًا ليس لدى المجلس سلطة طلب مستندات داخلية من فيسبوك في إطار تحقيقاته.
ويقر “نيك سوزور”، العضو الأسترالي الوحيد في مجلس الرقابة، بأن اقتصار اختصاص المجلس على المحتوى الذي تمت إزالته بواسطة فيسبوك من المحتمل أن يكون مشكلة عندما يتعلق الأمر بمعالجة المعلومات المضللة التي ينشرها السياسيون، مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي ينشر معلومات مضللة حول تزوير الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
ويشار إلى أن “فيسبوك” يكثف حاليا جهوده لمكافحتها بوضع ملصقات تحذير على هذا النوع من المنشورات، لكنه لا يتخذ قرارًا بإزالتها، وفقًا لصحيفة “جارديان” البريطانية.
6 قضايا محل المراجعة على طاولة المجلس
ووفقًا لمجلة تايم الأمريكية، اختار مجلس الرقابة على محتوى فيسبوك حتى الآن ست حالات فقط من بين أكثر من 20 ألف حالة، أبلغ عنها المستخدمون منذ فتح باب تلقي الطلبات في أكتوبر الماضي، ومنحت نفسها ثلاثة أشهر للتداول. وقال المجلس إن الهدف هو وضع سوابق من خلال الحكم في القضايا التي من المحتمل أن تؤثر على الكثير من المستخدمين.
وانتقدت إميلي بيل، مديرة مركز تو للصحافة الرقمية في جامعة كولومبيا المدة الزمنية التي يستغرقها المجلس في نظر الحالات المعروضة عليه، قائلة “إنه إذا احتاج المجلس إلى ثلاثة أشهر ليقرر ما إذا كان يجب أن يَبقى منشورًا على الموقع، فإن الأمل في إحداث تأثير قد يكون “محكومًا عليه بالفشل من البداية”.
وقد شارك مجلس الرقابة تفاصيل حول الحالات الست الأولى في الأول من ديسمبر الجاري، لكنه لم يفصح عن التفاصيل حول معايير اختيار تلك الحالات التي تمت من بين 20 ألف طعن تقدَّم به المستخدمون، وتتمثل الحالات المعلنة فيما يلي:
الحالة الأولى: تتمثل في مشاركة مستخدم صورتين لطفل متوفَّى، جنبًا إلى جنب مع تعليق يسأل عن سبب عدم مواجهة معاملة الصين لمسلمي الإيجور بالانتقام.
الحالة الثانية: تتعلق بقضية يتهم فيها مستخدم “أذربيجان” بهدم كنائس بناها الأرمن، إلى جانب تعليق يشير إلى ازدراء الشعب الأذربيجاني.
الحالة الثالثة: شارك فيها أحد المستخدمين صورًا لأعراض سرطان الثدي، والتي تضمنت صورًا عارية، اعتبر أنها محاولة لزيادة الوعي.
الحالة الرابعة: قيام مستخدم بمشاركة اقتباس من جوزيف جوبلز، وزير الدعاية النازية حول أهمية جذب المشاعر بدلاً من الفكر وعدم أهمية الحقيقة في الدعاية السياسية، حيث قال المستخدم إن الاقتباس كان بمثابة تعليق على السياسة الأمريكية الحالية.
الحالة الخامسة: منشور داخل مجموعة على فيسبوك ينتقد استراتيجية فرنسا في التعامل مع فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، ويدَّعي أن الأدوية غير المثبتة “هيدروكسي كلوروكين وأزيثروميسين” هي علاجات لكورونا.
وقد تم حذف جميع المنشورات في الحالات الخمس السابقة من قِبل المشرفين على فيسبوك، وهي قرارات يجادل المستخدمون الذين نشروا تلك الرسائل بأنها “غير عادلة”.
الحالة السادسة: شارك فيها أحد المستخدمين تعليقات أدلى بها رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد قائلًا: إن المسلمين لهم الحق في قَتْل ملايين الفرنسيين -أزالها فيسبوك لانتهاكها قواعد خطاب الكراهية-، وقد نشر المستخدم الرسالة دون تعليق، بينما قال إنه محاولة لزيادة الوعي بـ “الكلمات الرهيبة” التي استخدمها مهاتير محمد.
وفي 5 ديسمبر الجاري، أصدر مجلس الرقابة بيانًا قال فيه إنه لم يعد بإمكانه النظر في القضية التي تتضمن رسائل من قِبل رئيس الوزراء الماليزي السابق، لأن المنشور المعنيَّ قد أزاله المستخدم الذي نشره، مما يجعله غير مؤهل للمراجعة.
واستبدل مجلس الرقابة بهذه القضية منشورًا ينطوي على تحريض للعنف في الهند وهو عبارة عن صورة لرجل بسيف، مع تعليق يدعو لسحب السيف من غمده ردًّا على الإساءة إلى النبي الكريم.
ويبدو أن النص المصاحب يشير إلى تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذات الصلة بتلك المسألة، حيث أزال فيسبوك المنشور بسبب التحريض على العنف واحتوائه على “تهديد مستتر” ضد ماكرون.
وتسلط الحالات الست الأولى لمجلس الرقابة الضوء على بعض القرارات الصعبة التي يواجهها مشرفو فيسبوك بانتظام، على سبيل المثال: هل يجب السماح للمستخدم بمشاركة خطاب كراهية سياسي بقصد إبراز مدى فظاعته حتى لو لم ينشر المستخدم أي معلومات مصاحبة؟ هل يجب السماح بصور الأطفال المتوفين إذا تم استخدامها لتوصيل رسالة سياسية؟ أين يجب رسم الخط الفاصل بين المعلومات المضللة وانتقاد سياسة الحكومة الوطنية بشأن كورونا؟
واعتبر برنت هاريس، مدير الحوكمة والشؤون العالمية في فيسبوك أن مجلس الرقابة الجديد يمثل فصلًا جديدًا في الحوكمة عبر الإنترنت، مؤكدًا التزام الشركة بتنفيذ قرارات المجلس.
نشطاء يدشنون “مجلس الإشراف الحقيقي على فيسبوك” كمجلس مُوازٍ
في المقابل، رأى مجموعة من خبراء ونشطاء سياسة التكنولوجيا أن جهود فيسبوك يشوبها النقص وأن تلك العملية معيبة، فقرروا إنشاء مجموعة بديلة تسمى “مجلس الإشراف الحقيقي على فيسبوك”.
وقد رأت المجموعة أن خطوة فيسبوك حيلة دعائية أكثر من كونها حلًّا للقضاء على المعلومات المضللة وخطاب الكراهية، التي تقول إنها لا تزال منتشرة على المنصة.
وتقول جيسيكا غونزاليس، العضوة في مجلس الرقابة البديل والمديرة التنفيذية المشاركة لمنظمة “Free Press” المعنية بحرية الإعلام والإنترنت إن “مجلس الرقابة الذي دشنه فيسبوك ليس محاولة لإصلاح مشكلات المنصة في الوقت الفعلي”.
وأكدت غونزاليس أهمية أن يكون لدى فيسبوك عملية لمراجعة ما إذا كان يُزيل المحتوى بشكل مناسب، لكنها أوضحت أن العملية الراهنة لا تعالج المشكلات الرئيسية على فيسبوك، وهي كميات هائلة من المعلومات المضللة على المنصة.
ولا تزال المنشورات التي تُلقي بظلال من الشك على نتائج الانتخابات الأمريكية 2020 متاحة على نطاق واسع، وكذلك المعلومات المضللة حول كورونا، وبينما صنف فيسبوك 180 مليون منشور قبل 3 نوفمبر على أنها معلومات مضللة متعلقة بالانتخابات، وأعلن عن عدد مماثل من المنشورات التي تتضمن أكاذيب حول كورونا، قاوم المسؤولون التنفيذيون اتخاذ تدابير أكثر صرامة لقمع ما يراه حتى العديد من موظفي فيسبوك أنفسهم كمحتوى ضار بالديمقراطية والصحة العامة، وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية استند إلى شهادات موظفين.
وفي نفس اليوم الذي كشف فيه مجلس الرقابة على فيسبوك عن أولى الحالات التي سينظر فيها، أعلن المجلس الموازي أن أعضاءه سينظرون في ثلاث حالات غير مؤهلة لأنْ يباشرها مجلس الرقابة على فيسبوك، وهي كالتالي:
مدى إمكانية فرْض حظر على استخدام كبير استراتيجيي البيت الأبيض السابق ستيف بانون للمنصة، بعدما دعا لقطع رأس الدكتور أنتوني فاوتشي، كبير خبراء الأمراض المعدية في الولايات المتحدة.
قيام فيسبوك بحظر ناشط فيتنامي بعد طلب من الحكومة الفيتنامية.
نشر مجموعة على فيسبوك معلومات خاطئة عن كورونا.
ووفقًا لمتحدث باسم ذلك المجلس الموازي فإن هدفهم أنْ يخضع فيسبوك للمساءلة ديمقراطيًّا، فعلى المنصة الكثير من المحتوى الذي يسبِّب الكثير من الضرر في الوقت الحالي ولكنه غير مؤهل للمراجعة من قِبل مجلس الرقابة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن جهود الرقابة على المحتوى المنشور على المنصات الإلكترونية مسألة حساسة للغاية، حيث تتخوَّف معظم المنصات من التوسع في أعمال الرقابة ممَّا قد يدفع المستخدمين إلى مغادرة المنصة والاتجاه إلى منصات أخرى منافسة، وفي حالة فيسبوك، رغم أنه ما زال من المبكر الحكم على تجربة مجلس الرقابة فإن تكوينه وصلاحياته يثيران الشكوك حول قدرته في التصدي لحملات التضليل ونظريات المؤامرة المنتشرة على المنصة، وهي مسألة تتطلب تحركًا استباقيًّا وليس التعامل باستراتيجية رد الفعل، فكما هو واضح من طريقة عمل مجلس الرقابة فهي أقرب إلى المحكمة التي تنظر في الدعاوى المطروحة، إلا أن المقاربة تتطلب إنشاء مجلس له سلطة التحرك والمبادرة في ذلك الفضاء الرقمي، على أن يكون أقرب إلى هيئة للادعاء العام وليس المحكمة.

زر الذهاب إلى الأعلى