في خطوة جديدة على مسار تعزيز جهود التنمية المستدامة في المملكة وتحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، جاء الإعلان عن الميزانية العامة لعام 2021، والتي تأتي بعد عام واجهت فيه المملكة -كما العالم أجمع- تحدِّيًا استثنائيًّا هو انتشار وباء فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” وتداعياته على النشاط الاقتصادي.
ولما كانت الميزانية العامة للدولة تمثل الأداة الرئيسة في تحقيق إنجازات الأداء العام فهي تتضمن ترجمة مالية وكمية ونقدية للأهداف التي ترغب الدولة في تحقيقها خلال العام المالي، فقد وضعت ميزانية المملكة نصب أعينها، هدف تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتأمين الرفاهية للمجتمع، حيث راعت التوظيف الجيد للموارد وتكامل الجهود للسيطرة على جائحة كورونا والحفاظ على صحة المواطنين والمقيمين كأولوية، تجسيدًا لحرص القيادة الرشيدة لمملكة الإنسانية على تحقيق الرفاهية والسلامة والصحة والرعاية لكل من يحيا على أرض المملكة المباركة.
فلسفة ومرتكزات ميزانية المملكة لعام 2021
لقد أوضحت مضامين كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله، بمناسبة إقرار الميزانية العامة للدولة، الفلسفة والمرتكزات التي تقوم عليها تلك الميزانية وتمثلت أركانها فيما يلي:
الأولوية لحماية صحة المواطنين والمقيمين وسلامتهم.
مواصلة الجهود للحد من آثار جائحة كورونا على الاقتصاد بجانب استمرار العمل على تحفيز النمو الاقتصادي.
تطوير الخدمات ودعم القطاع الخاص والمحافظة على وظائف المواطنين فيه.
تنفيذ البرامج والمشاريع الإسكانية والمشاريع التنموية التي توفر مزيدًا من فرص العمل للمواطنين.
تحقيق مستهدفات رؤية المملكة ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي.
الاهتمام بالحماية الاجتماعية، والحد من الهدر ومحاربة الفساد.
التنفيذ الفاعل لبرامج ومشاريع الميزانية.
المرونة والتكيُّف وامتصاص صدمة وباء كورونا
واهتم بيان الميزانية بتوضيح الظروف المحيطة بإعدادها والمؤثرة على التقديرات الواردة فيها فيما يتعلق بالإيرادات والنفقات والعجز، وفي مقدمتها جائحة فيروس كورونا التي أثرت بشكل كبير على الاقتصادات العالمية بشكل عام والاقتصاد السعودي بشكل خاص، لكن المملكة استطاعت التكيف مع تلك التغيرات الطارئة وامتصاص صدمة الوباء.
وقد بادرت الدولة باتخاذ العديد من الخطوات والترتيبات المالية لمساندة القطاع الخاص خلال أزمة كورونا، من أبرزها برنامج أعده البنك المركزي السعودي بقيمة 50 مليار دولار لدعم وتمكين القطاع الخاص، فضلًا عن إطلاق 149 مبادرة تجاوزت مخصصاتها 218 مليار ريال.
وواجهت المملكة، خلال العام الحالي، ارتفاعا في النفقات الحكومية يقابله تراجع في الإيرادات بفعل الجائحة، حيث تحملت الحكومة تكاليف وتبعات الأزمة الصحية والمالية من خلال إعادة ترتيب أولويات الإنفاق وتوجيه الدعم للقطاع الصحي، فمنذ اللحظة الأولى جاءت توجيهات خادم الحرمين الشريفين بتوفير العلاج المجاني لجميع المصابين بالفيروس من المواطنين والمقيمين ومخالفي أنظمة الإقامة والعمل، في تعبير واضح عن أولوية حفظ النفس وتقديم الاعتبارات الإنسانية على أي اعتبارات أخرى، ورافق ذلك زيادة في الاعتمادات لقطاع الصحة بشكل مستمر لدعم القدرة الوقائية والعلاجية للخدمات الصحية.
وضاعف من حدة التداعيات الاقتصادية للوباء، التراجع في الإيرادات الحكومية، إذ انخفض سعر النفط برنت إلى أدنى مستوياته في 21 أبريل الماضي إلى نحو 9 دولارات للبرميل وتراجعت الإيرادات النفطية من بداية العام حتى يونيو بنحو 35% مقارنة بنفس الفترة من عام 2019
كما تراجعت الإيرادات غير النفطية من بداية العام حتى يونيو بنحو 37% مقارنة بنفس الفترة من عام 2019.
التعليم كقاطرة لتعزيز التنمية والانضباط المالي.. سمات أساسية للميزانية
تعد ميزانية المملكة لعام 2021 هي خامس ميزانية تصدر بعد إطلاق رؤية السعودية 2030 في عام 2016، وتتمحور الميزانية حول مواصلة تحقيق مستهدفات الرؤية، وفي القلب منها تحقيق نمو اقتصادي مستدام، عبر التركيز على القطاعات غير النفطية ودعم القطاع الخاص.
ويمكن استخلاص عدد من المؤشرات من خلال قراءة الميزانية تتمثل فيما يلي:
تعكس الميزانية سياسة اقتصادية حكيمة تتسم بالمرونة في تحديد الأولويات والدقة في رصد المخصصات وتوزيعها بين مختلف القطاعات، إذ اشتملت على برامج تنفيذية تسهم بقوة في توفير بيئة محفِّزة للنمو الاقتصادي.
تعتمد على قراءة واعية للمشهد الاقتصادي العالمي وفي مقدمته تقلبات أسواق النفط التي تعتبر ركنًا أساسيًّا في مصادر الدخل، من منطلق أهمية القطاع النفطي للمملكة، كونها كبرى الدول المصدرة للنفط، إلا أن الميزانية انتهجت سياسة التحرك الاستباقي للتعامل مع التحولات التي تطرأ على سوق النفط، عبر تخفيض الاعتماد على الإيرادات النفطية إلى 52% في خطوة غير مسبوقة، حيث كانت الإيرادات النفطية في الماضي تمثل 80% إلى 90% من إجمالي الإيرادات الحكومية.
تبعث برسالة واضحة بأن عجلة التطوير والبناء لن تتوقف، وأن الدولة بتخطيط القيادة الرشيدة وتكاتف المواطنين ماضية في بلوغ أهداف التنمية، حيث تستمر مسيرة التنمية على قواعد متينة وراسخة وثابتة في ظل التحديات الإقليمية والدولية.
تجسّد اهتمام الدولة بمنظومة التعليم وإدراكها لأهمية القطاع في قيادة جهود التنمية، في كون التعليم في المرتبة الأولى لتوزيع الإنفاق العام في ميزانية المملكة بين قطاعات الدولة المختلفة، بتخصيص 186 مليار ريال من إجمالي نفقات يبلغ 990 مليارًا، يليه كل من قطاع الصحة والتنمية الاجتماعية بـ175 مليار ريال والإنفاق العسكري أيضًا بـ 175 مليار ريال.
وتشير المخصصات الضخمة والحظوة التي تتمتع بها تلك القطاعات في سُلَّم الأولويات إلى الحرص على الاستثمار في المستقبل، فالتعليم والصحة هما ركيزتان أساسيتان للنهوض بالأمة، كما أن الأمن والدفاع حصن أساسي لحماية الوطن والمواطن والحفاظ على مكتسباته وثرواته.
الحرص على تحقيق الانضباط المالي وهو ما يتجلى في مقارنة أرقام ميزانية 2021 بالعام الماضي، حيث من المتوقع زيادة الإيرادات إلى 849 مليار ريال بعدما كانت 770 مليارًا في 2020 لتسجل زيادة نسبتها 10.3%، فضلًا عن تقليص النفقات بنسبة 4.7% من 1068 مليارًا لتكون 990 مليارًا في 2021، والحد من التضخم ليصل إلى 2.9%، ولعل الجانب الأكثر أهمية هو أن العجز المتوقع في الميزانية القادمة ويبلغ 141 مليار ريال سيكون تقريبا نصف العجز في ميزانية 2020 الذي يبلغ 298 مليار ريال.
تمكين القطاع الخاص ودعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة من خلال التحفيز وتنفيذ برنامج التخصيص وإتاحة المزيد من الفرص أمام القطاع الخاص للمشاركة في المشاريع الاستثمارية ومشاريع تطوير البنى التحتية.
وتأسيسًا على ما سبق، يتضح أن المملكة تسير عبر تلك الميزانية نحو مزيد من تعزيز النمو واستكمال تنفيذ أهداف رؤية المملكة 2030، كما توفر قدرًا كبيرًا من المرونة اللازمة للتعاطي مع أي مستجدات، فضلًا عن أن الاتجاه نحو المزيد من تقليص الاعتماد على الإيرادات النفطية يشكل أداة ناجعة تعكس رؤية ثاقبة حكيمة لصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، تقود المملكة نحو مزيد من التطور والتقدم في مختلف المجالات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية.
كما أن الميزانية تبنَّت نظرة معتدلة للمستقبل المنظور، فهي لم تفرط في النزعة التفاؤلية حول آفاق تعافي الاقتصاد العالمي من تداعيات جائحة كورونا، بل وضعت في الاعتبار أن التحديات التي ستظل مستمرة انطلاقًا من الأثر الهائل الذي تركته الجائحة على العالم، هو ما يتطلب وقتًا ليس بالقصير لتجاوزه.
وقدمت الوثيقة، تحت بند إنجازات ومستهدفات لتحقيق رؤية المملكة 2030، توثيقًا لحجم الإنجاز المتحقق والأهداف المأمولة، تبعث على الفخر لدى كل مواطن لما حققه الوطن بتوفيق من الله، وجهد وفكر وإدارة القيادة الرشيدة لإمكانات وموارد المملكة وإيمانها بقدرة المواطن السعودي على المبادرة والإنجاز.