تقارير

العقوبات ثمرة سياسات أردوغان

ألقت السياسة الخارجية التي ينتهجها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال الأعوام الأخيرة، الدولةَ التركيةَ في دوامة من الصدام مع محيطها الإقليمي وأحدثت شروخًا في العلاقات مع الدول الكبرى الحليفة لأنقرة في إطار حلف شمال الأطلسي “الناتو”، حيث دفعت الإدارة الأردوغانية المضطربة لملفات السياسة الخارجية بتركيا في مرمى العقوبات الأمريكية والأوروبية، على خلفية صفقة منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس-400″، والاستفزازات التركية المتواصلة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
وقد جاءت الإعلانات المتتالية عن تلك العقوبات الأمريكية والأوروبية في ظرف اقتصادي بالغ الصعوبة في تركيا، التي تحولت إلى بلد طارد للاستثمار مع استمرار الاضطرابات السياسية والاقتصادية، وفي توقيت حساس مع اقتراب تولِّي إدارة أمريكية جديدة تعتزم انتهاج مقاربة جديدة للتعامل مع أنقرة وسط مؤشرات واضحة تفيد بشعورها بحالة من عدم الارتياح لسياسات أردوغان الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء.

قانون كاتسا والعقاب الأمريكي المتأخر لأنقرة
اندلعت أزمة شراء تركيا لمنظومة الدفاع الجوي الروسية “إس-400” قبل ثلاث سنوات، حينما أبرمت أنقرة اتفاقًا مع موسكو في 12 سبتمبر 2017، شكَّل تطورًا لافتًا في العلاقات بين البلدين، التي تعرضت لهزات متتالية أبرزها إسقاط القوات التركية طائرة عسكرية روسية فوق الحدود السورية عام 2015، واغتيال السفير الروسي لدى أنقرة في 19 ديسمبر 2016.
وقد زاد قرار تركيا شراء المنظومة الروسية من توتر العلاقات بين واشنطن وأنقرة، والذي أخذ في التنامي مع تعزيز أردوغان سلطته في السنوات الأخيرة من خلال قمع المعارضة وسجن الصحفيين والتنكيل بكل صوت معارض لسياساته.
ورغم معارضة الولايات المتحدة والغرب لتلك الصفقة وتحذيراتهم المتكررة من تداعياتها على العلاقات مع أنقرة، فإن “أردوغان” اعتبرها الاتفاق الأهم في تاريخ تركيا الحديث، ومضت تركيا في طريقها عبر تسلُّم أجزاء من المنظومة في 12 يوليو من العام الماضي، الأمر الذي دفع “واشنطن” إلى اتخاذ قرار باستبعاد تركيا من برنامج الطائرات المقاتلة “إف-35” التابع للناتو نتيجة لشرائها لتلك المنظومة الروسية، حيث يقول المسؤولون الأمريكيون إن استخدام تركيا لمنظومة “إس-400” يهدد برنامج الطائرات المقاتلة الأمريكية “إف-35″، بسبب مخاوف من أن رادارات النظام الروسي قد تجمع معلومات استخبارية عن طائرات “إف-35”.
وفي مقابل تلك الرسالة الواضحة لم تعبأ إدارة أردوغان بتلك الانتقادات والقرارات الأمريكية، بل تمادى الرئيس التركي في سياسته عبر إجراء اختبار في 16 أكتوبر لنظام الدفاع الجوي “إس-400″، في خطوة لاقت تنديدًا قويًّا من جانب مسؤولي الدفاع الأمريكيين، الذين حذروا من تدهور خطير في العلاقات بين البلدين، مع إمكانية فرض عقوبات قاسية على أنقرة تطبيقًا لقانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات “كاتسا- CAATSA” وينص على اتخاذ تدابير عقابية تلقائية ضد أي بلد يشتري أسلحة روسية.
وبعد نحو شهرين، جاء إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عن فرض عقوبات على “إدارة الصناعات الدفاعية” وهي الوكالة الحكومية التركية المكلفة بشراء وتصدير الأسلحة، لحيازة أنقرة منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس-400”.
وشملت العقوبات حظرًا على جميع تراخيص وتصاريح التصدير الأمريكية لصالح إدارة الصناعات الدفاعية وتجميد الأصول الخاصة بالدكتور إسماعيل دمير، رئيس إدارة الصناعات الدفاعية، ومسؤولين آخرين فيها، وفرض قيود التأشيرة عليهم.
وتبعث تلك العقوبات، بحسب وزارة الخارجية الأمريكية، بإشارة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة ستنفذ قانون “كاتسا-CAATSA”، ولن تتسامح في المعاملات المهمة مع قطاعي الدفاع والاستخبارات في روسيا.
العقوبات الأمريكية والأوروبية تطوِّق “أردوغان”
ووفقًا لصحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، فإن الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب كان مضطرًّا بالفعل إلى معاقبة أولئك الذين “انخرطوا عن عمد” في معاملات مع قطاعي الدفاع والاستخبارات الروسية، بموجب قانون “كاتسا- CAATSA”.
ورغم أنه أرجأ مرارًا اتخاذ إجراء ضد تركيا على الرغم من ضغوط الكونجرس، فإنه لم يعد بمقدوره التصدي لتلك الضغوط بعدما قام المشرعون الأمريكيون بتضمينه كبند في قانون تفويض الدفاع الوطني لهذا العام (قانون الإنفاق الدفاعي) الذي أقره الكونجرس بمجلسيه الأسبوع الماضي بأغلبية مانعة لحق النقض “الفيتو”.
ويصف أردا مولود أوغلو، الخبير التركي بالشؤون الدفاعية والأمن، العقوبات بـ”الأخبار السيئة”، لافتًا إلى أن هذه المؤسسة والأشخاص المستهدفين بالعقوبات باتوا موصومين، وستتردد الدول والشركات الأوروبية في التعامل معهم.
ويمكن لهذه الخطوة أنْ توجِّه ضربة للجيش التركي، ثاني أكبر جيش في حلف الناتو –حسب موقع “ستاتيستا” الأمريكي- ولصناعة الدفاع التركية المزدهرة، نظرًا لأن إدارة الصناعات الدفاعية تلعب دورًا رئيسيًّا في مشتريات وإنتاج معدات الدفاع التركي.
ويُبرز قرار الولايات المتحدة فرض عقوبات على بلد حليف في الناتو مدى التوتر بين تركيا وحلفائها الغربيين التقليديين، فرغبة أردوغان في المُضي قُدُمًا فيما يعتبره سياسة خارجية مستقلة، واستخدامه المتزايد لتكتيكات القوة الصلبة لتحقيق أهدافه، اصطدمت ليس فقط بواشنطن ولكن أيضًا بعواصم أوروبية.
ففي الأسبوع الماضي، اتفق زعماء الاتحاد الأوروبي على فرض مزيد من العقوبات على أنقرة بسبب تصرفاتها “غير القانونية والعدوانية” في البحر المتوسط ضد قبرص واليونان.
ووفقًا لمصادر دبلوماسية أوروبية عدة فمن المقرر أن تكون عقوبات فردية مع إمكانية اتخاذ إجراءات إضافية إذا واصلت تركيا استفزازاتها، حيث ستوضع لائحة بالأسماء التي ستطولها العقوبات في الأسابيع المقبلة، وستُعرض على الدول الأعضاء للموافقة عليها.
محاولات أردوغانية لتغيير الجلد وتجنُّب الاصطدام مع إدارة بايدن
واعتبر مراقبون أن خطوة العقوبات الأمريكية ستزيد من توتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن، وهو وضع مرشح للمزيد من التأزم مع تولِّي الرئيس المنتخب جو بايدن منصبه في 20 يناير المقبل، وفقًا لشبكة “فوكس نيوز” الإخبارية الأمريكية.
وكان بايدن قد أظهر خلال حملته الانتخابية العديد من المؤشرات التي تنذر بصدام محتمل مع أردوغان، وتجلَّى ذلك خلال مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في وقت سابق من العام الحالي، ومن أبرز هذه المؤشرات:
– وصف بايدن الرئيس التركي بـ “المستبد”، مقترحًا اتخاذ نهج مختلف للغاية تجاهه عمَّا هو الآن، داعيًا لدعم قيادة المعارضة التركية.
– انتقاد بايدن سياسة إدارة ترامب في سوريا، التي مهدت الطريق لتركيا لإنشاء منطقة عازلة في شمال سوريا، مع إدانته سحب القوات الأمريكية من سوريا، ووصفه للخطوة بأنها “خيانة للأكراد”، هذا فضلًا عن تأكيده أن تركيا يجب أن تدفع ثمنًا باهظًا لحملتها العسكرية في الأراضي الكردية السورية.
– إبداء القلق البالغ بشأن احتفاظ الولايات المتحدة بأسلحة نووية في تركيا.
وفي ضوء تلك المؤشرات، ذهب ساسة ومحللون أتراك إلى إمكانية لجوء أردوغان إلى تغيير جلده نوعًا ما واتباع سياسة للتكيُّف المرحلي مع الساكن الجديد للبيت الأبيض وتجنُّب الاصطدام بإدارته.
وقد صرح رئيس الوزراء التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو، الحليف السابق لأردوغان والذي بات من أهم الأصوات المعارضة لحكمه، بأن الرئيس التركي بعد فوز جو بايدن بسباق الرئاسة الأمريكية، سيدافع عن “فلسفة الإصلاح” بعدما كان ينتهج سياسة الاستبداد، في إشارة إلى التلوُّن الذي يمارسه أردوغان.
كما يتوقع سونر كاجابتاي، مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أن يصبح أردوغان كما يريده بايدن، على الأقل في المدى القصير.
وتشير تقارير صحفية إلى اتجاه أردوغان إلى اتخاذ خطوات عملية لتحسين علاقتها مع الإدارة الأمريكية الجديدة من خلال استعادة دفء علاقاتها مع إسرائيل، عبر تعيين سفير جديد لتركيا في تل أبيب، لطيِّ صفحة الجمود الدبلوماسي الرسمي، حيث لا يوجد أي سفير لكلتا الدولتين في أنقرة وتل أبيب منذ مايو 2018 بعد الأزمة السياسية حول نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة.
كما أفاد موقع “المونيتور” الإخباري الأمريكي نقلًا عن مصادر وصفها بالمطلعة أن رئيس جهاز المخابرات التركي أجرى محادثات سرية مع مسؤولين إسرائيليين بهدف رفع مستوى العلاقات.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن العقوبات الأمريكية والأوروبية على تركيا ستؤدي إلى تعميق الانقسام بين أنقرة وحلفائها في “الناتو”، وتزيد أيضًا من وطأة معاناة الاقتصاد التركي الذي يعاني بشدة حيث فقدت الليرة التركية أكثر من 25% من قيمتها هذا العام فقط.
كما يشكل قرار إدارة ترامب مشكلة للرئيس المنتخب جو بايدن الذي يواجه وحلفاء آخرون معضلة صعبة بشأن تركيا، الشريك الاستراتيجي في الناتو، لذا تريد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الضغط على أردوغان لوضع حدٍّ لسلوكه غير المسؤول وإعادته إلى الحظيرة، لكن ثمة مخاطرة بأن تأتي الضغوط المتزايدة بنتائج عكسية تدفع لمزيد من التقارب بين أنقرة وموسكو.
لذلك ستكون العلاقة مع تركيا من المحطات الصعبة أمام إدارة بايدن الطامحة لإعادة بناء الشراكات الأمريكية مع الحلفاء وتجنيد هؤلاء الشركاء في جهد أوسع لدعم نظام ومعايير عالمية ضد التحديات المتزايدة من جانب القوى الكبرى المنافسة لواشنطن كروسيا والصين.
وأخيرًا.. ستظل الشراكة الدفاعية بين تركيا والولايات المتحدة أمام معضلة كبرى طالما لم يتم التوصل إلى تسوية لملف شراء تركيا لمنظومة “إس- 400” الروسية.

زر الذهاب إلى الأعلى