اكتسبت العلاقة بين البيت الأبيض وشركات التكنولوجيا الكبرى أهمية متزايدة خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديدًا في ظل إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، الذي أولى ملف مواقع التواصل الاجتماعي اهتمامًا بالغًا، لا سيما في ظل استخدامه الكثيف لتلك المنصات، وتحديدًا موقع تويتر المفضل لديه.
وقد شابت علاقة ترامب مع تلك المنصات وشركات وادي السيليكون التوتر لاعتبارات نابعة من تفاعله الشخصي مع خدماتها، أو من منطلق نظرته لمصادر التهديد للأمن القومي.
ومع الإعلان عن فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية، تبرز العديد من التساؤلات عن حدود الثبات والتغيير في السياسة الرقمية والعلاقة مع شركات التكنولوجيا في ظل الإدارة الجديدة.
مقاربة الإدارة الأمريكية السابقة في التعامل مع شركات التكنولوجيا
وفقًا لصحيفة “لوس أنجلوس تايمز” الأمريكية، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان يخوض معركة على موقع التدوينات القصيرة “تويتر” مع الشركة المالكة للمنصة في الأيام التي سبقت الإعلان عن فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية، وذلك بعدما قام تويتر بوضع ملصق تحذيري على تغريدات يشكك فيها ترامب في نزاهة الانتخابات. واعتبر تويتر أن منشورات الرئيس الأمريكي تحتوي على معلومات متنازع عليها وربما مضللة.
وردَّ ترامب بتغريدة أشار فيها إلى أن “تويتر” بات خارج السيطرة بفضل ما سماه بـ”الهدية الحكومية” من خلال المادة 230 (من قانون آداب الاتصالات الأمريكي لعام 1996).
وتواترت مثل هذه الخلافات بين ترامب وشركات وادي السيليكون خلال فترة رئاسته، فغالبًا ما انتقد “فيسبوك” و”تويتر” واتهمهما بالتآمر ضده، وبالوقوف إلى جانب الليبراليين وخنق الأصوات المحافظة.
وانصبَّ تركيز الرئيس ترامب أيضًا على التكنولوجيا في إطار حربه التجارية طويلة الأمد مع الصين، حيث أصدر أوامر تنفيذية لحظر عمل شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي–Huawei” في أمريكا، وحظر تطبيقات تواصل اجتماعي مملوكة للصين مثل “وي تشات-WeChat” و”تيك توك-TikTok”.
والآن، ومع دخول ترامب مرحلة البطة العرجاء (مصطلح سياسي أمريكي يطلق على الرئيس في السنة الأخيرة من عهده) واستعداد بايدن لانتقال السلطة، يثير البعض تساؤلات حول مدى إمكانية تغيير هذه السياسات.
حدود التعاون بين الديمقراطيين والجمهوريين بشأن السياسة الرقمية
وتشير “لوس أنجلوس تايمز” إلى أن النموذج القادم للعلاقة بين البيت الأبيض وشركات التكنولوجيا الكبرى ليس واضحًا تمامًا، فباستثناء الدعوات الموجهة لعمالقة وسائل التواصل الاجتماعي لمحاربة المعلومات المضللة بقوة أكبر، لم يجعل جو بايدن شركات التكنولوجيا محورًا رئيسيًّا في حملته.
ويرى جميل جعفر، المدير التنفيذي لمعهد “Knight First Amendment Institute” في جامعة كولومبيا أن فريق بايدن لم يطوِّر مواقف مفصلة بشأن بعض الأسئلة الأكثر إلحاحًا المتعلقة بشركات التكنولوجيا الكبرى.
واستبعدت “لوس أنجلوس تايمز” أن تؤدي رئاسة بايدن إلى نقطة تحول في عالم التكنولوجيا كما هو الحال بالنسبة للقطاعات الأخرى، لافتة إلى أن الإصلاح التكنولوجي كان موضوعًا تشارَكَ فيه الحزبان الجمهوري والديمقراطي بشكل غير متوقع خلال رئاسة ترامب، حيث أدى التقاء الجهود التنظيمية لدى التقدميين ومخاوف حرية التعبير لدى المحافظين، إلى تحالف غير متوقع ضد شركات التكنولوجيا الكبرى، يمكن أن يستمر في ظل حكم الرئيس المنتخب جو بايدن.
وتشير الصحيفة الأمريكية إلى أنه حتى لو انتهت نتائج انتخابات الكونجرس بسيطرة الجمهوريين بزعامة ميتش ماكونيل على مجلس الشيوخ، فمن المحتمل أن يتمكن بايدن من كبح جماح عمالقة وادي السيليكون، نظرًا لوجود تداخل واضح بين الدعوات التقدمية إلى “تفكيك شركات التكنولوجيا الكبرى”، والتحقيقات التقنية المختلفة لمكافحة الاحتكار، والتي أشرفت عليها إدارة ترامب.
وفي هذا الإطار، يشير كريستوفر لويس، رئيس منظمةPublic Knowledge غير الربحية، إلى التحقيق الأخير الذي أجرته اللجنة الفرعية لمكافحة الاحتكار في مجلس النواب بشأن الممارسات المناهضة للمنافسة في هذا القطاع، باعتباره مؤشرًا على مسار محتمل يمكن للجانبين الديمقراطي والجمهوري المضيُّ قُدمًا من خلاله، موضحًا أن هذا التحقيق تم بجهود مشتركة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، معتبرًا أن هذا الأمر سيحظى بأولوية كبيرة.
ومن ناحية أخرى، ترى جيجي سون، الزميلة البارزة في معهد جورج تاون للقانون والسياسة التكنولوجية، أنه حتى إذا استأنف الجمهوريون نهجًا أكثر تقليدية لعدم التدخل في عمليات الاندماج الصناعي، يمكن لإدارة بايدن أن تتصرف بمفردها لتنظيم عمليات الاندماج والاستحواذ.
واعتبرت سون أن الإدارة الديمقراطية يمكن أن تكون أكثر نشاطًا في إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار وأكثر تشككًا في عمليات الدمج الرأسية والأفقية لشركات التكنولوجيا والاتصال، مرجحة أن تسير إدارة بايدن على نهج إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، التي لم تسمح باندماج شركتي “T-Mobile” و”Sprint”، وشركة Time Warner” و”Comcast”.
ورأت الباحثة الأمريكية أن الإشراف على محتوى منصات التواصل الاجتماعي مجال محتمل آخر للتدخل من جانب إدارة بايدن، حيث يريد الديمقراطيون عمومًا مزيدًا من الاعتدال مدفوعين بمخاوف من التضليل حول فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” والتدخل الأجنبي في الانتخابات.
في المقابل، فإن العديد من الجمهوريين يريدون قدرًا أقل بسبب مخاوف من “إسكات” الأصوات المحافظة عبر الإنترنت، لكن كلا الجانبين اعترض على المادة 230 من قانون آداب الاتصالات، التي كانت ضمن نقاط قليلة موضع اتفاق صريح بين بايدن وترامب، حيث دعا كل منهما إلى تغييرها، وقد صرح بايدن في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بأنه “يجب إلغاء المادة 230 من قانون آداب الاتصالات”.
أمَّا عن خطر الاستعانة بالتكنولوجيا الصينية، الذي كان محركًا لأوامر ترامب بحظر شركة هواوي وتطبيقي “وي تشات” و”تيك توك”، فإن اللافت أن “بايدن” لم يميز نفسه بشكل كبير عن ترامب في هذا الصدد، ففي سبتمبر الماضي، اعتبر بايدن أن “تيك توك” “مسألة تثير قلقًا حقيقيًّا”، سائرًا على نفس نمط ترامب بشأن محاولة الحظر.
وبينما اعتبر الرئيس الجمهوري أن الصين الصاعدة اقتصاديًّا تمثل تهديدًا لكل من التجارة والأمن القوميين الأمريكيين، حاولت الحملة الانتخابية لبايدن باستمرار أن تظهر للصين أن إدارته ستكون أكثر حدة وشدة في تعاملها مع بكين عن إدارة ترامب.
تضييق الفجوة الرقمية واستئناف منح تأشيرات “H1-B“
تعد “الفجوة الرقمية” أو التباينات في الوصول إلى الإنترنت أحد الموضوعات التي أصبحت ملحة بشكل متزايد في عصر العمل والتعليم عن بُعد، وهي قضية ذات أولوية على الساحة الأمريكية في الوقت الراهن.
وقد تعهدت حملة بايدن الانتخابية بتوسيع “النطاق العريض، أو تقنية الجيل الخامس (5G) لكل أمريكي”، ممَّا يوفر وصول خدمة الإنترنت إلى المناطق الريفية والمدارس الحضرية، معلنة عزم إدارته ضخ استثمارات بقيمة 20 مليار دولار لتوفير خدمات النطاق العريض في المناطق الريفية.
من ناحية أخرى، رجحت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” تحول بايدن عن بعض سياسة ترامب ومنها إيقاف تعليق تأشيرات “H1-B” (تأشيرة لغير الهجرة، بحيث تسمح لصاحبها بالقدوم للعمل في أمريكا لفترة مؤقتة)، التي تسمح للشركات بتوظيف عمال أجانب ذوي مهارات متخصصة، حيث يتجه نحو ثلاثة أرباع تلك العمالة إلى قطاع التكنولوجيا.
وقد كان العديد من المديرين التنفيذيين في مجال التكنولوجيا ضد ترامب في انتخابات عام 2016، كما اتجه موظفو التكنولوجيا إلى التبرع لحملة بايدن في انتخابات 2020.
ورأت الصحيفة أن ابتعاد بايدن عن الجهود الحمائية التي قام بها ترامب، سيجعله حليفًا أكثر لوادي السيليكون، ويعيد أجواء العلاقة الودية التي جمعت الديمقراطيين بقادة شركات التكنولوجيا في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما.
وتجدر الإشارة هنا أيضًا إلى أن المراقبة الداخلية كانت مصدر قلق كبير عندما كان بايدن نائبًا للرئيس الأمريكي، والمثال الأبرز يتمثل في كفاح مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف.بي.آي” من أجل فك شفرة جهاز “آي فون-iPhone” الخاص بمنفذ هجوم سان برناردينو الإرهابي في فبراير 2016، في الوقت الذي رفضت فيه شركة آبل القيام بتلك المهمة.
وقد تطرقت حملة بايدن الانتخابية إلى هذه المشكلة فقط، حيت دعت شركات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي إلى تقديم تعهدات ملموسة حول كيفية ضمان أن خوارزمياتها ومنصاتها لا تعمل على تمكين دولة الرقابة، وفي الوقت ذاته عدم تسهيل القمع الصيني أو نشر الكراهية أو الترويج للعنف.
كما صرح بايدن في مقابلته مع صحيفة نيويورك تايمز بأن “الولايات المتحدة يجب أن تضع معايير لا تختلف عن المعايير التي يتبعها الأوروبيون فيما يتعلق بالخصوصية” ولم يركز بايدن على الأتمتة بقدر منافسيه في سباق الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة مثل أندرو يانج وبيرني ساندرز.
وعلى الرغم من ذلك، يشير بايدن في حسابه على الإنترنت إلى أنه “لا يقبل وجهة النظر الانهزامية القائلة بأن قوى الأتمتة والعولمة تجعل أمريكا عاجزة عن الاحتفاظ بالوظائف وخلق المزيد منها، ودعا الرئيس المنتخب إلى ضرورة حماية الموظفين الأساسيين فيما يتعلق بالأتمتة والاستثمار بقيمة 300 مليار دولار في البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي (بالإضافة إلى المركبات الكهربائية وشبكات الجيل الخامس).
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن طبيعة السياسة التي ستنتهجها الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه وادي السيليكون ستكون جزءًا لا يتجزأ من إدارتها لملفات أخرى سياسية الطابع، من أبرزها العلاقة مع بكين وتأثيرها على عمل التطبيقات الإلكترونية وشركات التكنولوجيا المملوكة للصين.
كما يمكن التأكيد أن الدور الذي يجب أن تلعبه منصات التواصل الاجتماعي في مكافحة المعلومات المضللة، سيبقى أحد المجالات الرئيسية التي ستتمحور حولها النقاشات بعد تسلُّم بايدن مهام منصبه في 20 يناير المقبل.