اتسمت الأعوام القليلة الماضية بالعديد من التطوُّرات التي أدت إلى تغيُّرٍ في طبيعة الحركة الدبلوماسية، لا سيما الجانب المتعلق بالدبلوماسية السرية والاتصالات التي تجري في الكواليس، إذ ازدهرت عمليات تسريب وثائق حكومية حسَّاسة، واستغلال التكنولوجيا والتقنيات الرقمية في نشر تلك الوثائق للجماهير، ممَّا شكَّل تحدِّيًا رئيسيًّا لأنماطٍ من العمل الدبلوماسي القائم على السرية، والكتمان وحصر المعلومات الخاصة به على أشخاص قلائل.
وتاريخيًّا كان إقدام الثورة البلشفية في روسيا على نشر الاتفاقات والمعاهدات السرية للحلفاء إبان الحرب العالمية الأولى، إيذانًا بأفول حقبة الدبلوماسية التقليدية، حيث لعبت الدبلوماسية السرية دورًا مرموقًا في خدمة أهداف الدول الاستعمارية وفي سياساتها لاقتسام المغانم بعد الحرب، ومن أمثلة ذلك اتفاقية “سايكس – بيكو” عام 1916 والتي قسمت المنطقة العربية إلى مناطق نفوذ بين فرنسا وبريطانيا، ووعد بلفور البريطاني عام 1917 لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
وخلال العقد الأخير تلقَّت الدبلوماسية السرية ضربة أشد قوة ممَّا جرى في خريف عام 1917، ممَّا تمثَّل في تسريبات موقع ويكيليكس الذي نشر أكثر من ربع مليون وثيقة سرية أمريكية، وشكَّل زالزالًا للدبلوماسية الدولية، والأمريكية على وجهٍ خاص، وفي منطقة الشرق الأوسط شكَّل موقع قطريليكس عاصفة قوية هبَّت على الدوحة، حيث كشف العديد من الأسرار عن دعم قطر للإهاب في المنطقة والتآمر ضد الدول العربية.
الدبلوماسية السرية بين تسريبات تروتسكي وويكيليكس
تعرضت الدبلوماسية السرية لحدثين فارقين على مدى القرن الماضي، وهما: تسريبات ما بعد الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، وتسريبات ويكيليكس عام 2010، وإن اختلفت الدوافع والأدوات المستخدمة في الكشف عن تلك التسريبات وتداعياتها.
ويشير نيكولاس كول، المؤرخ وأستاذ الدبلوماسية العامة في كلية أننبرغ للاتصالات والصحافة بجامعة جنوب كاليفورنيا في دراسة تحت عنوان “ويكيليكس والدبلوماسية العامة وحالة الدبلوماسية العامة الرقمية” إلى أن ثمة فارقًا أساسيًّا بين ما حدث إبان الثورة البلشفية وحالة ويكيليكس، وهو التكنولوجيا.
وتشير الدراسة إلى أنه في نوفمبر 1917 سرَّب ليون تروتسكي مفوَّض العلاقات الخارجية عندما أسَّس فلاديمير لينين حكومته البلشفية الأولى، وثائق واتفاقيات دبلوماسية وكشف أسرارَ دبلوماسيةِ القوى العظمى آنذاك أمام العالم، معتبرًا أن إنهاء نظام الدبلوماسية السرية كان واجبًا مطلقًا على البلاشفة، وشرطًا أساسيًّا لسياسة خارجية نزيهة وشعبية وديمقراطية حقًّا.
ولفتت الدراسة إلى أنه في حين أن ما جرى في عام 1917، تطلَّب ثورة مدمرة، فإن تسريبات ويكيليكس في عام 2010، كل ما تطلَّبته لتحدِّي النظام الدبلوماسي السائد في ذلك الوقت هو شخص واحد (الأسترالي جوليان أسانج) لديه شريك في وضع جيد (المحللة السابقة لدى الاستخبارات الأمريكية تشيلسي ماننج) وقليل من المعرفة الفنية الناجمة عن ثورة تكنولوجيا الاتصالات، بحيث أعطت تلك الثورة التكنولوجية أسانج قوة الاتصال التي كانت حكرًا على الدولة القومية في القرن الماضي، ومكنته من استخدام هذه القوة لجذب انتباه الجمهور.
ووفقًا لنيكولاس كول: بينما كانت تسريبات تروتسكي من أعراض قوة الطبقة الاجتماعية التي نظمها حزب أحادي التفكير “الحزب البلشفي”، يُعد تسريب أسانج أحد أعراض قوة اتصال الفرد عبر الشبكة.
ويشير كول أيضًا إلى أنه في أعقاب تسريب تروتسكي، واجهت القوى العظمى صراعًا طويلًا لإعادة تأكيد شرعيتها في بعض الأوساط الإقليمية، وفعلت ذلك جزئيًّا عن طريق تغييرٍ في سلوكها نحو انفتاح أكبر مع إنشاء مؤسسات دولية مثل عصبة الأمم، لكن في حالة تسريبات ويكيليكس، يتعين على الحكومات أن تعيد النظر في مخاطر التعامل المزدوج، وأن تعمل على ضمان وجود فجوة صغيرة بين ما يُطالب به في العلن وما يُمارس في السر.
وعلى الرغم من كَوْن تسريبات ويكيليكس مثَّلت مؤشرًا لا شك فيه، على قوة وسائل الإعلام الجديدة، فإن ويكيليكس قدمت أيضًا شهادة بسيطة على التأثير الدائم لوسائل الإعلام التقليدية، حيث حرص أسانج على التواصل مع صحف مثل نيويورك تايمز الأمريكية، وجارديان البريطانية، ودير شبيجل الألمانية للمشاركة في نشر وثائقه، وربما سعى لتأمين المزيد من المصداقية من خلال تلك الصحف.
مزايا وعيوب الدبلوماسية السرية.. وتقدير صانع القرار
وفي ورقة بحثية بعنوان “قواعد الدبلوماسية السرية” نشرتها دورية “Journal of Global Ethics“، رأى الباحث بجامعة أكسفورد، كورنيليو بجولا أن هناك العديد من الحالات التي تظل فيها الدبلوماسية السرية هي المسار المفضَّل للحكومات، وهي كالتالي:
إطلاق مفاوضات السلام لأنها تعزل القادة وتخلق بيئة بنَّاءة للمفاوضات، على سبيل المثال كان هذا هو الحال مع المفاوضات التي جرت بين إسرائيل والفلسطينيين في أوسلو عام 1993.
تطبيع العلاقات بين الخصوم السابقين، حيث يتطلَّب تطبيع العلاقات بين الخصوم رأس مال سياسيًّا كبيرًا، وقد يتجنَّب القادة إهدار رأس المال دون ضمانات معيَّنة، وهو ما حدث عندما أعلن الرئيس أوباما عن نيته إعادة العلاقات مع كوبا.
في منع التصعيد الخطير، فإذا أعلنت حكومةٌ ما نيتها في استخدام القوة لا يمكنها بسهولة تغيير مسار عملها، وبالتالي قد تتطلب دبلوماسية سرية لنزع فتيل الموقف بشكل سلمي.
في المقابل، رصدت دراسة كورنيليو أيضًا حججًا ضد الدبلوماسية السرية، ومن أبرزها أن السرية تديم الشكوك وعدم الثقة بين الدول، وأن الدبلوماسية السرية تتعارض مع بعض المبادئ الأساسية للحكم الديمقراطي، حيث يتم استبعاد الجمهور من عملية صنع القرار، كما أن الدبلوماسية السرية قد تكون غير عملية، نظرًا للتقدُّم في تقنيات الاتصال وصعود تأثير وسائل التواصل الاجتماعي.
وخلصت الدراسة إلى أنه لا توجد طريقة سهلة لتحديد ما إذا كان استخدام الدبلوماسية السرية مشروعًا أم لا، وبدلًا من ذلك، يجب على صانعي القرار تحليل المواقف والأحداث وتقييم ما إذا كان استخدام السرية ضروريًّا حقًّا.
تأثير العصر الرقمي في مستقبل الدبلوماسية السرية
تعد تسريبات الوثائق السرية جزءًا من ثورة العصر الرقمي ضـد كل المفاهيم الدبلوماسية التقليدية، كما أنها تُعتبر تتويجًا للعصر الإلكتروني المعرفي، الذي يعتمد على تبادل المعلومات وشفافيتها، وفي حين أن التسريبات قد تُغيِّر قواعد السرية، إلا أنها لن تُغير جوهر العمل الدبلوماسي نفسه، القائم على مبدأ السرية منذ آلاف السنين، وفقًا لموقع “سويس إنفو” السويسري.
وفي هذا الإطار، استعرض الدكتور جوفان كورباليجا، مدير مؤسسة “DiploFoundation” (منظمة غير ربحية معنية بالشؤون الدبلوماسية مقرها في مالطا) عددًا من التأثيرات المرتبطة بالعصر الرقمي في الدبلوماسية السرية، وذلك عبر محورين أساسيين:
اتجاه الدول نحو فرض المزيد من السرية والقيود وإجراءات التأمين المشددة، بحيث ستحاول الحكومات زيادة التحكم في تدفُّق البيانات، ممَّا سيؤدي إلى ازدهارٍ في صناعة أمن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إلا أنه اعتبر أن التركيز على تحقيق الأمن السيبراني كحلٍّ تقنيٍّ وجهة نظر ساذَجَة، من منطلق أن جميع التسريبات الأخيرة تمت بشكلٍ رئيسيٍّ من قِبَل مصادر مطلعة، فنادرًا ما تكون نتيجة لخرق أمني تقني.
التأثير في الأداء الدبلوماسي وتحديدًا التقارير الدبلوماسية، بحيث سيبدأ الدبلوماسيون في كتابة تقاريرهم، وهم مدركون أن تلك التقارير قد يتم تسريبها يومًا ما، ويمكن أن يكون لذلك تأثيرات، إمَّا إيجابية، بحيث يجبرهم ذلك على كتابة التقارير على نحوٍ أفضل، وإمَّا تأثيرات سلبية، بحيث يؤدي إلى رقابة ذاتية وربما تقليل حجم وعدد التقارير.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأنه على الرغم من تأثيرات العصر الرقمي فإن الدبلوماسية لن تكون شفَّافة بالكامل، حيث تظل الدبلوماسية السرية تشكل جانبًا لا غنى عنه بالنسبة لأي مفاوضات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، فأي عملية تسوية بين طرفين لا بد أن تتم بمعزلٍ عن صخب العلانية وخطر الكشف.
من جهة أخرى، أدت التطورات التكنولوجية إلى تآكلٍ في مبادئ السرية التي تقوم عليها الكثير من الدبلوماسية، لكن ما كشفت عنه التسريبات في الأعوام الأخيرة، سواء ويكيليكس أو قطريليكس، أظهر حجم الازدواجية بين الخطابات العلنية وما يحدث داخل الغرف المغلقة.
وأخيرًا أضْفَتْ تلك التسريبات مزيدًا من التعقيد على عمل الدبلوماسيين، وأظهرت الحاجة إلى الحرص والدقة والتمرُّس في نقل الرسائل والمعلومات من المصادر بشكل أكثر تكثيفًا للمعلومة واستخدام التعبير الحرفي للعبارات وتفاصيل المشاهد في أضيق الحدود، ما لم تكن هناك حاجة ملحَّة لذلك.