شهدت العلاقات الأمريكية الصينية خلال الأعوام القليلة الماضية، تراجعًا كبيرًا وتوترات متصاعدة أذْكَتْها المنافسة الاستراتيجية بين البلدين حول قضايا مثل التجارة والملكية الفكرية وحقوق الإنسان ووضع هونج كونج، فضلًا عن تنامي الأنشطة العسكرية لبكين في منطقة المحيط الهادئ المتوقع لها أن تكون واحدة من أكبر محركات الاقتصاد العالمي في المستقبل المنظور.
يضاف إلى هذه الملفات الخلافية أيضًا توترات بشأن ترسانة الصين النووية المتزايدة، حيث تُطالب الإدارة الأمريكية بكين بالانضمام إلى محادثاتها مع موسكو لصياغة معاهدة أسلحة متعددة الأطراف.
وفي ظل تصاعد حدة الاحتقان في العلاقة بين القوتين العظميين مع نُذر صدام ومواجهة قد تتخذ أبعادًا عسكرية، يسعى التقرير التالي إلى رسم صورة حول موقع الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي على خريطة الصراع بين واشنطن وبكين، ومعرفة إلى أي مدى يُشكِّل النفوذ المتنامي للصين في المنطقة مصدرًا إضافيًّا للخلاف مع الولايات المتحدة، واستشراف سيناريوهات مستقبل هذه المنطقة في ضوء ذلك التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة والصين.
الخصومة الأيديولوجية والصراع على النفوذ بين واشنطن وبكين
على مدى العامين الماضيين، تشدَّد خطاب السياسة الأمريكية تُجاه الصين وسلوكها، واتخذت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطوات تصعيدية مختلفة تهدف إلى مواجهة بكين، بدءًا من شن حرب تجارية وصولًا إلى زيادة وتيرة مهام الاستطلاع للطائرات الأمريكية وتنفيذ القوات البحرية الأمريكية بشكل منتظم، عمليات “حرية الملاحة” الدفاعية في بحر الصين الجنوبي، وإجراء تدريبات عسكرية مع الحلفاء في آسيا.
ويمكن القول بأن الصراع بين الولايات المتحدة والصين، هو صراع أيديولوجي بالأساس وتنافُس على مناطق النفوذ، ويعد إقليم جنوب شرق آسيا الساحة الرئيسية للصراع.
وفي هذا الإطار تشير دراسة لمركز الأمن الأمريكي الجديد إلى التناقص الحاد في الرؤيتين الأمريكية والصينية للنظام الإقليمي في تلك المنطقة، إذ تقوم رؤية واشنطن على احترام السيادة واستقلال الدول في المنطقة، والحل السلمي للنزاعات، والتجارة الحرة، والالتزام بالقانون الدولي، والمزيد من الشفافية والحكم الرشيد، ويتطلب تنفيذ تلك الرؤية ما يلي:
– إقامة تحالفات أمريكية قوية وشراكات أمنية.
– جيش قادر على العمل في جميع أنحاء المنطقة بما يتفق مع القانون الدولي.
– قدرة الشركات الأمريكية على الوصول إلى الأسواق الرائدة.
– الاستفادة من المعايير التكنولوجية وقواعد الاستثمار والاتفاقيات التجارية.
في المقابل، رصدت الدراسة السمات الرئيسية للنظام الذي ترغب الصين في قيادته بتلك المنطقة وهي:
– سيطرة جيش التحرير الشعبي الصيني على جنوب وشرق بحر الصين.
– امتثال دول المنطقة لتفضيلات الصين في الشؤون العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية.
– إقامة نظام اقتصادي تضع فيه بكين قواعد التجارة والاستثمار لصالحها، مع الهيمنة على التقنيات والبيانات.
وقد ظهرت خلال الأشهر القليلة الماضية العديد من المؤشرات على تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين، جسَّدَتْها العديد من المواقف الأمريكية، ومن أبرزها:
– اعتبار الحزب الشيوعي الحاكم في الصين التهديد الأول للأمن العالمي، ممَّا يعني أنه بات خطرًا يفوق الإرهاب العالمي، وهو ما جسَّدته تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي وصف الحزب الشيوعي بأنه “التهديد الرئيسي” الذي يتحدى المبادئ الغربية، فضلًا عن اتهامه لحكومة بكين بشكل مباشر بأنها حكومة معادية لواشنطن، وإعلانه عزْمَ الولايات المتحدة تشكيل تحالف جديد من الدول الديمقراطية لمواجهة الصين بالقوة الاقتصادية والعسكرية المشتركة، ممَّا تسبب في صدام مباشر مع الصين التي دعَتْه إلى التخلِّي عمَّا سمَّتْه بـ”الأحكام الأيديولوجية المسبقة وعقلية الحرب الباردة البالية”.
– تصنيف التقييم الاستراتيجي الجديد لوزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” للصين كأكبر تهديد عسكري للولايات المتحدة، وذلك بعدما كانت استراتيجية الدفاع التي قدَّمها وزير الدفاع الأمريكي السابق جيمس ماتيس عام 2018 تنظر إلى الصين وروسيا على قدم المساواة كخصمَيْن للولايات المتحدة.
– التلويح بالصدام العسكري المباشر بين البلدين في المحيط الهادئ، حيث تواصل الولايات المتحدة إرسال سفن حربية إلى المنطقة، فضلًا عن بيع الأسلحة إلى تايوان التي تطالب “بكين” بالسيادة عليها، وقد أعلن وزير الدفاع الأمريكي، مارك إسبر أن واشنطن تواصل تجهيزاتها وعملياتها في جميع أرجاء آسيا وتعيد تمركزها استعدادًا لمواجهة محتملة مع الصين.
– الاتهامات الأمريكية لبكين بالتجسُّس وشن هجمات سيبرانية تستهدف الأبحاث المتعلقة بفيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، ومحاولة التوصُّل إلى لقاح ضده، إذ اعتبر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي “إف.بي.آي”، كريستوفر راي أن الصين باتت “أعظم تهديد على المدى الطويل” لمستقبل الولايات المتحدة، متحدثًا عن فتح قضية لمكافحة التجسُّس تتعلق بالصين كل 10 ساعات تقريبًا، موضحًا أن المكتب يحقق حاليًّا فى 2500 قضية تجسس تتصل ببكين.
– التوتر الدبلوماسي بين البلدين، حيث أمرت إدارة الرئيس دونالد ترامب بإغلاق القنصلية الصينية في مدينة هيوستن، متهمة موظفين صينيين فيها بسرقة أسرار دفاعية أمريكية، واعتبر أعضاء في الكونجرس الأمريكي أن القنصلية تقع في صلب شبكة واسعة للتجسس ولعمليات نفوذ الحزب الشيوعي الصيني في الولايات المتحدة، وهو ما ندَّدت به وزارة الخارجية الصينية واعتبرته استفزازًا ينتهك القانون الدولي، وسَرْعان ما ردَّت عليه بإغلاق القنصلية الأمريكية في شينغدو جنوب غربي الصين.
الشرق الأوسط في الصراع الأمريكي الصيني
تدفع المؤشرات السابقة التي تُنذر بأن صدامًا ربما يَلُوحُ في الأفق بين الولايات المتحدة والصين إلى سيل من التساؤلات حول وضع منطقة الشرق الأوسط ومكانتها في إطار تلك المنافسة الاستراتيجية العالمية، وإلى أي مدى يمكن أن يمتد لهيب ذلك الصراع الذي قد يندلع في جنوب شرق آسيا إلى أنظمة إقليمية أخرى، منها الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي.
في البداية وجب التأكيد على أن منطقة الشرق الأوسط كانت على مدى عقود ساحة رئيسية تخوض فيها القوى العظمى معاركها الجيوسياسية عبر العديد من الأدوات، أبرزها “الحرب بالوكالة”.
كما يعد الشرق الأوسط المنطقة الأكثر تأثرًا خارج الجوار المباشر للصين بأي تداعيات محتملة لمواجهة أمريكية صينية، نظرًا لأنها تضم بعض أكثر الاقتصادات ديناميكية في العالم، بجانب ارتباطها بشكل متزايد بالاقتصاد الصيني، فبكين الآن الشريك التجاري الأكبر لجميع دول الشرق الأوسط تقريبًا، وقد تأثرت المنطقة فعليًّا بتباطؤ الاقتصاد الصيني بفعل الحرب التجارية، إذ سجل النمو الصيني أدنى مستوياته خلال الـ30 عامًا الأخيرة، ولا شك أن هذا يعني نموًّا أبطأ وتجارة أقل للاقتصادات المفتوحة أو المعتمدة على النفط في منطقة الشرق الأوسط.
وممَّا يُعزِّز من فرص الصدام بين القوتين العظميين أيضًا، مساعي الصين إلى تحدِّي النفوذ الأمريكي المترسِّخ في المنطقة عبر مجموعة من الأدوات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، من أبرز مظاهر ذلك:
– تُعد الصين أكبر مستثمر أجنبي في الشرق الأوسط، كما أنها مشترٍ رئيسيٍّ للنفط والغاز الطبيعي من مُصدِّري الشرق الأوسط، حيث تحصل بكين على أكثر من 40% من وارداتها النفطية من المنطقة.
– تشكل دول الخليج العربي مصادر رئيسية لعقود تشييد البنية التحتية بالنسبة للشركات الصينية، مثل مصفاة ينبع بالسعودية وخط السكك الحديدية عالي السرعة الذي يربط مدينة جدة بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وإنشاء استاد لوسيل القطري ضمن المشاريع المتعلقة باستضافة الدوحة لكأس العالم لكرة القدم2022، كما توفِّر مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية فرصًا كبرى للشركات الصينية.
– تعزيز الوجود العسكري الصيني في المنطقة، مع نشر ثلاث سفن في خليج عدن والمحيط الهندي منذ عام 2008 في إطار جهود مكافحة القرصنة، كما افتتحت بكين أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي عام 2017.
– تنامي وتيرة عمليات تصدير الأسلحة الصينية لدول المنطقة، ومن أبرزها المملكة العربية السعودية والإمارات، حيث تقوم بتزويدهما بالطائرات المقاتلة بدون طيار.
– تفوُّق الصين على الولايات المتحدة كشريك تكنولوجي في معظم أنحاء المنطقة، فعلى سبيل المثال وقعت شركة هواوي الصينية صفقات لتطوير شبكات الجيل الخامس في السعودية والإمارات والبحرين.
– زيادة جهود الوساطة الصينية في الأزمات في سوريا واليمن، وإن كان ذلك بقدرٍ من الحذر مع الالتزام بقاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعيَّنت بكين مبعوثًا خاصًّا لشؤون الشرق الأوسط ومبعوثًا خاصًّا إلى سوريا.
يتضح من العرض السابق أن الوجود الصيني في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي على وجه الخصوص أصبح منافسًا قويًّا لمكانة الولايات المتحدة فيها، وبذلك سيكون لأي تصعيد بين القوتين العظميين آثاره وارتداداته السلبية على المنطقة.
سيناريوهات لمستقبل الشرق الأوسط في ظل الصراع الأمريكي الصيني
وضعت دراسة للمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية، أربعة سيناريوهات مستقبلية للشرق الأوسط في ظل التنافس بين الولايات المتحدة والصين، جاءت على النحو التالي:
السيناريو الأول:
يفترض أن تظل الولايات المتحدة القوة العظمى الرئيسية الوحيدة الموجودة في الشرق الأوسط، كما كانت طيلة العقود الماضية، ومن المنتظر أن تجدد الإدارة الأمريكية المقبلة التزام واشنطن بدورها في حفظ أمن واستقرار المنطقة، ولكن من غير المعقول أن يتراجع الدَّوْرَان الصيني والروسي بعدما تمكنَّا من تأمين مواطئ أقدامهما.
السيناريو الثاني:
أن يصبح الشرق الأوسط مسرحًا جغرافيًّا إقليميًّا في مواجهة عالمية عظمى بين الولايات المتحدة والصين، تكون على غرار التنافس الأمريكي مع الاتحاد السوفييتي على النفوذ في أجزاء كثيرة من العالم خلال الحرب الباردة.
وسيتم استغلال كل الأدوات الدبلوماسية والاستخباراتية والاقتصادية والعسكرية في تلك المواجهة، ممَّا يتطلَّب من دول المنطقة أن تختار جانبًا من طرفي الصراع لتصطفَّ معه، وقطعًا سيفرض ذلك الوضع مزيدًا من التعقيد على التحديات والأزمات التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط.
السيناريو الثالث:
يتمثل في انسحاب الولايات المتحدة الكامل من المنطقة، واحتمالية حدوث ذلك السيناريو ضعيفة للغاية، لما لهذه الخطوة من تداعيات سلبية بشكل واضح لجميع اللاعبين في المنطقة، بما في ذلك الصين أيضًا، نظرًا للفراغ الأمني الذي سينجم عن غياب الولايات المتحدة، وليس من الصعب تصوُّرُ ما قد يمثِّله ذلك الفراغ من تهديدات لأمن موارد الطاقة في المنطقة، حيث يزداد خطر إيران التي ستصبح أكثر عدوانيةً، وتركيا ذات النزعة التوسعية، فضلًا عن نموِّ نشاط الجماعات الإرهابية، وسيكون الاقتصاد العالمي أكثر عرضة للصدامات المتعلقة بالطاقة.
السيناريو الرابع:
أن يصبح الشرق الأوسط إلى حدٍّ كبير منطقة للتعاون بين الصين والولايات المتحدة، بحيث تنسِّق الدولتان أنشطتَيْهما على أساس المصلحة المتبادلة في الطاقة والاستقرار والازدهار الاقتصادي. وقطعًا ستظل هناك اختلافات حادة بين واشنطن وبكين، عالميًّا وإقليميًّا، لكنهما سيعملان بوعي معًا لتطوير آليات محددة لإدارة هذه الاختلافات في منطقة الشرق الأوسط.
وللوصول إلى هذا السيناريو الأكثر إيجابيةً، يجب على الصين والولايات المتحدة البدءُ في مناقشة المصالح المشتركة والاختلافات بشكل شفَّاف، والسَّعْيُ إلى تحسين التفاهُم المتبادل بينهما، رسميًّا بين حكومَتَي البلدين، وبشكل غير رسمي بين الخبراء ومراكز الفكر الأمريكية والصينية.