بعد أسابيع من الترقب والتكهنات بشأن رد تل أبيب على القصف الإيراني الذي استهدف إسرائيل مطلع الشهر الحالي كرد انتقامي على اغتيالها للأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله في 27 سبتمبر الماضي، وجهت إسرائيل “ضربة محدودة” لإيران اقتصرت على عدد من المواقع العسكرية دون أن تمتد لمنشآت نفطية أو نووية، فيما بدا أنها المرة الأولى التي يلتزم فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي بالضوابط والخطوط الحمراء التي تضعها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للعمل العسكري في المنطقة، إذ دعا بايدن تل أبيب إلى التصرف بـ”شكل متوازن”، مؤكدًا رفضه شن أي هجوم على المنشآت النووية أو النفطية في إيران.
- السياق المحيط بالضربة الإسرائيلية
جاء الهجوم الإسرائيلي قبل 10 أيام من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وبعد مرور نحو 3 أسابيع على الضربات الإيرانية على إسرائيل، حيث استغرقت تل أبيب التي توعدت طهران بدفع ثمن باهظ، وقتًا طويلًا في تصميم الرد، وسط ضغوط أمريكية متزايدة على حكومة نتنياهو خشية اشتعال المنطقة، الأمر الذي سيكون له تداعيات على أسعار النفط وبالتالي تأثير واضح على المستهلكين الأمريكيين وخياراتهم في الانتخابات الرئاسية، إذ يضعف ذلك من صورة الديمقراطيين لدى الناخبين ويعزز من حظوظ منافسيهم الجمهوريين.
كما تأتي بعد جولات دبلوماسية أمريكية مكوكية في المنطقة، إذ سعى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن خلال مباحثاته قبل أيام في تل أبيب إلى التأكد من أن الرد على طهران لن يؤدي إلى تصعيد أكبر، في وقت ترى فيه واشنطن أن المجال أصبح مهيأ لتحقيق اختراق وكسر جمود مفاوضات وقف إطلاق النار بقطاع غزة والتوصل لصفقة تبادل للأسرى بعد مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار، وهي المقاربة ذاتها للوضع في لبنان بعد اغتيال حسن نصر الله وخليفته هاشم صفي الدين، والتي أكدت عليها من خلال زيارة المبعوث الأمريكي الخاص إلى بيروت آموس هوكشتاين.
من جانبها، كثفت إيران خلال الأسبوعين الماضيين من تحركاتها الدبلوماسية عبر جولة إقليمية لوزير خارجيتها عباس عراقجي شملت ثماني دول، هدفت من خلالها تمرير رسائل إلى الجانبين الأمريكي والإسرائيلي بعدم رغبتها في التصعيد واشتعال حرب إقليمية.
وبحسب تقارير إعلامية أمريكية، فإن تلك الجولات كانت مثمرة، وهو ما انعكس في صورة ضربة إسرائيلية محدودة بإخطار مسبق، إذ أفاد موقع “أكسيوس” الإخباري الأمريكي، نقلا عن مصادر مطلعة بأن إسرائيل أرسلت رسالة إلى طهران قبل غاراتها الجوية الانتقامية محذرة إيران من الرد، كما أوضحت المصادر أن الرسالة الإسرائيلية نقلت عبر عدة أطراف ثالثة إلى إيران، مشيرة إلى أن الإسرائيليين أوضحوا للإيرانيين مسبقا ما الذي سيهاجمونه بشكل عام وما الذي لن يهاجموه.
كما نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن مصادر مطلعة تأكيدها أن دولا عربية وأوروبية عدة سلمت طهران تحذيرًا بشأن هجوم إسرائيل قبل ساعات من وقوعه.
وأضافت المصادر أن تحذير إسرائيل حدد ما تنوي استهدافه وأنها ستتجنب المواقع النفطية والنووية، وتضمن التحذير أنه إذا خططت إيران للرد فإن الهجمات اللاحقة ستكون أكثر قوة.
- الهجوم الإسرائيلي وردود الأفعال
وبحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، تمت الضربة الإسرائيلية على إيران التي شاركت فيها أكثر من 100 طائرة بينها مقاتلات وطائرات مسيرة عبر 3 موجات واستغرقت 4 ساعات مستهدفة منشآت عسكرية في ثلاث محافظات هي طهران وإيلام وخوزستان.
كما أوضح بيان عسكري إسرائيلي أن الغارات الجوية شملت مواقع إنتاج صواريخ إيرانية وأنظمة صواريخ أرض-جو وقدرات جوية إيرانية تهدف إلى تقييد حرية العمل الجوي الإسرائيلي.
ولم تطل الضربات أي منشآت تابعة للحرس الثوري الإيراني بما فيها النووية ومصانع الصواريخ الباليستية، بحسب وكالة تسنيم الإيرانية للأنباء التي أكدت أن الأضرار الناجمة عن قصف المواقع العسكرية “محدودة”، مشيرة إلى أن إعلان إسرائيل استهداف 20 منشأة عسكرية في إيران “خبر عار عن الصحة”. في وقت أعلن فيه الجيش الإيراني مقتل جنديين خلال التصدي للهجوم الإسرائيلي.
وإثر تلك الضربة الإسرائيلية، توالت ردود الأفعال الإقليمية والدولية، حيث استنكر كثير من الدول العربية الهجوم على إيران.
فقد أعربت وزارة الخارجية السعودية في بيان عن إدانتها واستنكارها للهجوم الإسرائيلي باعتباره انتهاكا لسيادة طهران ومخالفة للقوانين والأعراف الدولية. كما حث البيان كافة الأطراف على التحلي بأقصى درجات ضبط النفس وخفض التصعيد، وحذر من عواقب استمرار الصراعات العسكرية بالمنطقة.
كما دعت الخارجية السعودية المجتمع الدولي والأطراف المؤثرة والفاعلة للاضطلاع بأدوارهم ومسؤولياتهم تجاه خفض التصعيد وإنهاء الصراعات بالمنطقة.
وقد أدان كل من الإمارات وسلطنة عمان وقطر والأردن الهجوم الإسرائيلي الذي يقوض جهود التهدئة في المنطقة. كما حذرت مصر من مخاطر الانزلاق إلى مواجهة خطيرة قد تهدد الأمن الإقليمي والدولي، مؤكدة إدانتها لكل الإجراءات التي من شأنها تهديد أمن واستقرار المنطقة، مشددةً على أهمية تجنب تصعيد الصراع وضرورة العمل على تهدئة الأوضاع.
وفي واشنطن، اعتبر مسؤول كبير في إدارة بايدن أن الضربات الإسرائيلية “المستهدفة والمتناسبة” على إيران ينبغي أن تكون نهاية التبادل المباشر لإطلاق النار بين الجانبين، كما رأى الاتحاد الأوروبي أن “دورة الهجمات والردود الانتقامية الخطيرة تهدد بتوسيع الصراع الإقليمي بشكل أكبر”.
- سيناريوهات ما بعد الضربة الإسرائيلية
يمكن استشراف 3 سيناريوهات محتملة الآن ما بعد الضربة الإسرائيلية على إيران، تتوقف جميعها على رد فعل طهران والمسار الذي ستسلكه، علما بأنها أكدت في موقفها الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية بعد الهجوم أن من حقّها وواجبها الدفاع عن نفسها ضدّ الأعمال العدوانية الأجنبية، على أساس الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
- السيناريو الأول: وقف التصعيد المباشر
وفقا لهذا السيناريو- وهو الأقرب للتحقق- فإن الضربة الإسرائيلية على إيران هي الحلقة الأخيرة من التصعيد المباشر بين الجانبين، ليعودا إلى قواعد الاشتباك السابقة المتمثلة في ضربات غير مباشرة، حيث تقوم إيران باستهداف إسرائيل عبر الفصائل الموالية لها في المنطقة مثل المقاومة الإسلامية في العراق و”حزب الله” في لبنان والحوثيين في اليمن، بينما تعمل تل أبيب على استهداف القوات والأصول الإيرانية في “ساحات خلفية” كسوريا والعراق ولبنان، مع العمل على الأراضي الإيرانية عبر سياسة الاغتيالات لشخصيات أمنية وعسكرية وعلماء دون اللجوء للقوة العسكرية.
- السيناريو الثاني: مزيد من الضربات المتبادلة
يفترض هذا السيناريو- الأقل احتمالية- أن تمضي إيران قدمًا في توجيه ضربة انتقامية “محدودة” إلى إسرائيل تتناسب مع طبيعة الهجوم الإسرائيلي، وهو ما ينذر بدائرة مفرغة من التصعيد حيث الرد والرد المضاد، وربما يخرج الوضع عن السيطرة، لا سيما مع تحذيرات أمريكية لطهران من عواقب وخيمة حال قيامها بالرد على الهجوم الإسرائيلي، بجانب تعهد تل أبيب بالرد على أي هجوم إيراني جديد يستهدفها.
- السيناريو الثالث: حرب إقليمية شاملة
وفقًا لهذا السيناريو- مستبعد حدوثه حاليًا- ستقوم إيران بشن هجمات أكبر وأعنف على إسرائيل بقصد تكبيدها خسائر مادية وبشرية كبيرة، وفي تلك الحالة سترد الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بضربات عنيفة تستهدف المنشآت النفطية أو المواقع النووية التي أحجمت عن ضربها في ظل الضغوط الأمريكية الحالية، مما يعني اندلاع حرب إقليمية شاملة بين إيران وإسرائيل، تحشد فيها طهران كل الفصائل الموالية لها في المنطقة ضد إسرائيل، التي بدورها ستدفع الولايات المتحدة إلى الانخراط عسكريًا في تلك الحرب.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الضربة الإسرائيلية على إيران تعتبر نهاية لجولة تصعيد غير مسبوقة بين الجانبين، وتمثل عودة لقواعد الاشتباك التقليدية.