انطلقت في العاشر من سبتمبر الحالي، أعمال الدورة العادية الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة بمدينة نيويورك، في ظل تصاعد ملحوظ للصراعات الدولية حيث تفاقم الحروب والنزاعات بمعدلات غير مسبوقة منذ أكثر من ثلاثة عقود، إذ رصد المسح السنوي للصراعات المسلحة في العالم، الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، 183 صراعًا مستعرًا، وذلك وسط حالة من الشلل شبه التام للجهود والمبادرات الدبلوماسية جرّاء الاستقطابات والتجاذبات الحادة بين القوى الكبرى، التي تشكل في مجملها صورة قاتمة حول تراجع دور الأمم المتحدة كإطار مؤسسي يعبر عن النظام الدولي القائم ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما تثير تساؤلات قلقة حول مستقبل الدبلوماسية متعددة الأطراف.
- استقطاب حاد الوتيرة
وجاءت اجتماعات الشق رفيع المستوى للدورة الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تمثل الملتقى السنوي الذي يجمع ملوك ورؤساء وقادة دول العالم، حيث يلقي كل منهم كلمة بلاده أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وسط حالة استقطاب حاد في النظام الدولي عبر عنها أول مقال رأي مشترك لمديري جهاز المخابرات الخارجية البريطانية “إم آي6″، السير ريتشارد مور ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” ويليام بيرنز اللذين حذرا فيه من أن النظام العالمي يتعرض للتهديد بطريقة غير مسبوقة منذ فترة الحرب الباردة.
بجانب اعتبارهما في المقال المنشور بصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية أن صعود الصين هو التحدي المخابراتي والجيوسياسي الرئيسي للقرن الحادي والعشرين، وحديثهما عما وصفاه بـ”حملة التخريب المتهورة” التي تشنها المخابرات الروسية في أوروبا، واستخدامها للتكنولوجيا في نشر الأكاذيب والمعلومات المضللة.
- تكتلات وتحالفات دولية صاعدة
ويأتي تراجع دور الأمم المتحدة أيضًا في توقيت تتوسع فيه تكتلات دولية مثل مجموعة العشرين، ومجموعة بريكس، وتنشأ أيضًا تحالفات سياسية واستراتيجية عسكرية مثل تحالف “كواد- Quad”، الذي يضم الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان، وأخرى استخباراتية كتحالف “العيون الخمس- Five Eyes”، الذي يتألف من 5 دول ناطقة بالإنجليزية ذات أنظمة ديمقراطية، هي الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.
وتزامن ذلك مع تصاعد لنبرة الانتقادات لدور الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وكذلك المؤسسات المالية الدولية التي نشأت في إطار مؤتمر “بريتون وودز” عام 1944 (البنك وصندوق النقد الدوليان)، واللافت أن الأصوات الناقدة لم تقتصر على الدول -سواء كانت تنتمي لمجموعة القوى الصاعدة أو الدول النامية أو حتى دول العالم الثالث المثقلة بالديون-، بل إن سهام النقد اللاذع انطلقت من داخل المنظومة الأممية، ما تمثل في تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش خلال مشاركته في قمة “ميثاق مالي عالمي جديد” بالعاصمة الفرنسية باريس في مايو 2023، اعترف فيها بفشل النظام المالي العالمي في حماية الدول الأكثر فقرًا في مواجهة التحديات، وطالب بإجراء إصلاحات جذرية.
كما وجه أكاديميون من بينهم بول كولير، أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة في كلية بلافاتنيك للإدارة الحكومية بجامعة أكسفورد، انتقادات للبنك الدولي حيث اتهمه بالفشل في تحقيق أهدافه المتعلقة بتسريع النمو الاقتصادي والحد من الفقر المدقع، مشيرا إلى أن البنك يستخدم تقديرا تقريبيا لهذا الهدف هو تقدير سنوي لعدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من 2.15 دولار في اليوم، وهو المبلغ الذي يعتبر ضروريًا لتجنب الجوع، موضحًا أن هذا مقياس متحفظ للغاية لأداء البنك، ويمكن تحقيقه إذا وصل جميع فقراء العالم إلى هذا الحد الأدنى من البقاء على قيد الحياة حتى مع تخلفهم أكثر عن بقية البشر.
- الحروب العالمية والتنظيم الدولي
كل هذه المؤشرات تقود إلى تساؤل مفاده هل الأمم المتحدة تحتضر؟ وإذا كان الأمر على هذا النحو فماذا عن البديل؟ من المعلوم أن نشأة المؤسسات الدولية متعددة الأطراف وزوالها ارتبط على الدوام بأحداث كبرى على الساحة العالمية “الحروب”، فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، جاء تأسيس عصبة الأمم بموجب معاهدة فرساي عام 1919 التي كانت تهدف إلى إرساء السلام بين دول الحلفاء ودول المحور، لكن تلك المعاهدة بما فرضته من تسويات قاسية على دول المحور لا سيما ألمانيا، غرست جذور الحرب العالمية الثانية والتي اندلعت لتكتب شهادة وفاة العصبة.
ومع انتهاء تلك الحرب، اتخذت القوى المنتصرة خطوة جديدة نحو تشكيل إطار مؤسسي يضع على عاتقه مسؤولية حماية الأجيال المقبلة من ويلات الحروب فجاء تأسيس الأمم المتحدة في 26 يونيو 1945 خلال مؤتمر سان فرانسيسكو، لتصبح وريثًا لعصبة الأمم، وقد استطاعت المنظمة الصمود على مدى 79 عامًا شهدت خلالها تحديات جساما كالحرب الباردة ثم انهيار الاتحاد السوفيتي واتساع دول النادي النووي، وتصاعد التهديدات غير التقليدية كأزمة تغير المناخ والأوبئة مثل “جائحة كورونا”، فضلًا عن بروز مخاطر عابرة للحدود كالإرهاب والهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة، ومما لا شك فيه أن استجابة المنظمة لتلك التحديات جاءت متفاوتة إذ تراوحت ما بين التحرك الاستباقي المبادر تجاه بعض القضايا، والاستجابة القوية الفاعلة إزاء أخرى، والعجز والفشل في مواجهات بعض الأزمات.
وربما يرى البعض في الحرب الروسية الأوكرانية- وهي أول حرب برية كبرى تندلع على الأراضي الأوروبية منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها-، مع طول أمدها واحتمالات خروجها عن السيطرة لتصبح حربًا عالمية ثالثة بأنها ستكتب نهاية النظام الدولي الراهن بمؤسسته الرئيسية “الأمم المتحدة”، لكن الإجابة على السؤال حول البديل سيكتبها الطرف المنتصر فهكذا يخبرنا التاريخ.
- إصلاح مجلس الأمن
ويمكن القول بأن السبب الرئيسي في ضعف المنظومة الأممية يكمن في تعطيل دور الجهاز الأهم بداخلها وهو مجلس الأمن الدولي، فطبيعة تركيبه والميزة التي تتمتع بها الدول دائمة العضوية (امتلاك حق النقض “الفيتو”)، كانت عاملًا مقوضًا لأدائه الدور المنوط به والمتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين.
ويعد العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، نموذجًا واضحًا على عجز مجلس الأمن الذي تمكن بالكاد في 25 مارس الماضي وبعد أكثر من خمسة أشهر من الحرب، أن يتبنى قرارًا يطالب بـ”وقف فوري لإطلاق النار” في غزة، إذ امتنعت فيه الولايات المتحدة عن التصويت بعدما عطلت محاولات سابقة لإصدار قرار عبر اللجوء إلى حق “الفيتو”.
لكن الاحتلال الإسرائيلي مازال يتمادى في عدوانه متجاهلًا قرار مجلس الأمن، وأوامر محكمة العدل الدولية-أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة- باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية وتحسين الوضع الإنساني الكارثي بغزة، حيث تقترب الحرب من دخول إلى العام الأول، وأسفرت حتى الآن عن أكثر من 135 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، بجانب دمار هائل ومجاعة أودت بحياة العشرات، في إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
وبالعودة لقضية إصلاح مجلس الأمن، فإن من اللافت أنه رغم وجود إجماع على ضرورة تطوير وتوسيع المجلس إلا أن هناك خلافا حادا حول الكيفية، فمنذ إنشائه، تم إدخال تعديل في تركيبة المجلس مرة واحدة فقط، حيث أُضيفت 4 مقاعد غير دائمة عام 1965، مع الأخذ في الاعتبار أن تكوين المجلس كان يعكس الوضع الجيوسياسي القائم بعد فترة وجيزة من الحرب العالمية الثانية، وهو ما تغير تماما حاليًا.
وختامًا، يمكن القول بأن التحولات التي يشهدها النظام الدولي حاليًا وانعكست على أداء هياكله المؤسسية الرئيسية هي نتاج عاملين رئيسيين الأول يتعلق بتغير في موازين القوى حيث بروز قوى صاعدة مؤثرة ممثلة في دول تنامى نفوذها وقوتها الاقتصادية والعسكرية، وكذلك قوى غير تقليدية هي شركات التكنولوجيا الكبرى وتأثيرها المتعاظم.
أما العامل الثاني، فيتصل بدور الولايات المتحدة الذي انحسر كثيرًا خلال العقدين الماضيين، سواء كان البيت الأبيض في عهدة الديمقراطيين أو الجمهوريين، وهو ما تجسد في مبدأ “القيادة من الخلف” للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وشعار “أمريكا أولًا” الذي رفعه الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الرئاسي الجمهوري الحالي دونالد ترامب، فكلاهما وإن كان له نهجه وأسلوبه الخاص، إلا أن تلك السياسات تمثل خروجًا على مبدأ الرئيس الأمريكي الراحل هاري ترومان “سياسة أمريكا التوسعية عالميًا”.