في خضم تحولات سريعة وتنافس محموم في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، اقترحت الصين إنشاء منظمة عالمية للتعاون في هذا المجال بالنظر إلى المخاطر الأمنية الناجمة عنه، وجاءت تلك الدعوة بعد أيام قليلة من إعلان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطة عمل الذكاء الاصطناعي الجديدة، التي تدعو إلى تخفيف اللوائح لتحفيز ابتكار الذكاء الاصطناعي وتبنيه، وتسريع بناء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، وتصدير مجموعات تقنيات الذكاء الاصطناعي الكاملة إلى حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، بجانب تخليص أنظمة الذكاء الاصطناعي مما يسميه البيت الأبيض “التحيز الأيديولوجي”.
وفي هذا الإطار، نشر المجلس الأطلسي تقريرًا موسعًا يرصد تأثير تلك الخطة على صناعة الذكاء الاصطناعي وحوكمة الذكاء الاصطناعي العالمية، وانعكاساتها على قطاع الطاقة الأمريكي، وهو ما نستعرضه على النحو التالي:
- هندسة أحادية لمسار الذكاء الاصطناعي
توضح خطة عمل الذكاء الاصطناعي أن الولايات المتحدة لا تحاول الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي فحسب، بل تحاول هندسة المسار بشكل أحادي. فمع طموحات شاملة لتصدير الرقائق والنماذج والمعايير الأمريكية الصنع، تشير الخطة إلى استراتيجية متطورة لحشد الحلفاء ومواجهة الصين، لكنها تتطلب أيضًا مقامرة كبيرة، فبدلاً من المشاركة في تصميم حوكمة الذكاء الاصطناعي مع الحلفاء والشركاء الديمقراطيين، فإنها تدفع بنموذج “اشتر الأمريكي، وثق بأمريكا”.
ومن المرجح أن يكون هذا بلا فائدة للدول في جميع أنحاء أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ التي استثمرت بكثافة في بناء قواعد الذكاء الاصطناعي الخاصة بها حول الشفافية والعمل المناخي والمساواة الرقمية.
كما تشدد خطة عمل الذكاء الاصطناعي على مواجهة النفوذ المُعادي في هيئات الحوكمة الدولية، مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومؤسسة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصصة، ومجموعة الدول السبع، ومجموعة العشرين، والاتحاد الدولي للاتصالات.
ومع ذلك، تُقوض الخطة جهود حوكمة الذكاء الاصطناعي القائمة على التوافق داخل هذه الهيئات، بما في ذلك سخرية واضحة من مدونة قواعد السلوك لمجموعة الدول السبع. لذلك إذا سعى البيت الأبيض إلى تحقيق توافق حقيقي مع الحلفاء والشركاء، فعليه أن يُحدد رؤية إيجابية لحوكمة الذكاء الاصطناعي العالمية القائمة على القيم.
- سلسلة توريد الذكاء الاصطناعي
تُعد هذه الخطة خطوة للأمام في سلسلة توريد الذكاء الاصطناعي، فهي تركز على كامل منظومة الذكاء الاصطناعي بدءًا من البنية التحتية للطاقة، ومراكز البيانات، وأشباه الموصلات، ومسار المواهب، وصولًا إلى إدراك المخاطر المرتبطة بها ومخاوف الأمن السيبراني.
وقد اعتمدت الخطة رؤية متفائلة لنماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر وذات الوزن المفتوح (تكون فيها الإعدادات الأساسية أو “الأوزان” التي تتحكم في كيفية عمل النموذج متاحة للعامة)، وتضمنت أحكامًا لإنشاء بيئة ابتكارية سليمة لنماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر، إلى جانب تعزيز الوصول إلى الحوسبة وهو إنجاز إيجابي آخر من جانب الإدارة الأمريكية.
ويبدو أن إدارة ترامب تُدرك أن القدرة التنافسية في مجال الذكاء الاصطناعي لن تتحقق فقط من خلال تدجين سلسلة توريد الذكاء الاصطناعي، بل يجب أن تكون القدرة التنافسية في هذه البيئة استراتيجية متعددة الجوانب لتحويل قدرات الذكاء الاصطناعي المحلية إلى قوة وطنية أسرع وأكثر كفاءة وفاعلية واقتصادية من المنافسين مدفوعة برقائق أسرع، ونماذج أذكى وأكثر موثوقية، وشبكة كهرباء أكثر مرونة، وبنية تحتية استثمارية متينة، والتعاون مع الحلفاء.
إن هذا التركيز على تأمين المجموعة الكاملة يعني أن السياسة قصيرة المدى لن تستهدف الابتكار فحسب، بل ستركز أيضًا على موقع كل مكون في سلسلة توريد الذكاء الاصطناعي ومصادره وموثوقيته.
- اختلافات جوهرية عن خطط بريطانيا والاتحاد الأوروبي
تركز خطة عمل الذكاء الاصطناعي الجديدة، مثل نظيراتها من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، على “الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي” من خلال إجراءات تنظيمية لتوجيه الابتكار وتعزيزه، واستثمارات جديدة لخلق وتعزيز الوصول إلى مدخلات الذكاء الاصطناعي الأساسية، وأطر للمشاركة والقيادة الدولية.
ويُعد الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي، في الواقع، الأولوية القصوى لجميع خطط الذكاء الاصطناعي الثلاث، وإن كان ذلك بطرق مختلفة. ففي حين أن قانون الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي يريد أن يكون أول من يضع حواجز تنظيمية، فإن خطة الذكاء الاصطناعي للولايات المتحدة لديها أجندة قوية لإلغاء القيود.
لكن توجد علامتان مشجعتان في خطة العمل الأمريكية فيما يتعلق بتعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة؛ أولها إعطاء الأولوية للدبلوماسية والأمن الدوليين، حيث تُهيئ الولايات المتحدة نفسها للتأثير على قواعد اللعبة العالمية للذكاء الاصطناعي التي ستحدد في نهاية المطاف من يجني الفوائد الاقتصادية من أنظمة الذكاء الاصطناعي.
ثانيًا، تُرسي الخطة خريطة طريق لضمان استيعاب الولايات المتحدة وحلفائها لقدرات الذكاء الاصطناعي بشكل أسرع من خصومهم. وفي هذا السياق، تُشدد الخطة على أهمية التنسيق مع الحلفاء لتنفيذ ضوابط التصدير التنسيقية وتعزيز إنفاذها.
- الطاقة في خطة عمل الذكاء الاصطناعي
لم يغب البعد المحلي عن خطة عمل الذكاء الاصطناعي التي أعلنتها إدارة ترامب، فهي ستؤثر في قطاع الطاقة من خلال:
- توسيع شبكة الكهرباء: تشير خطة العمل إلى أنه ينبغي على الولايات المتحدة استكشاف حلول مثل تقنيات إدارة الشبكة المتقدمة وترقيات خطوط الكهرباء التي يمكن أن تزيد من كمية الكهرباء المنقولة على طول المسارات الحالية.
- تمويل بطاريات ثنائية الاستخدام: يمكن لكيمياء البطاريات من الجيل التالي، مثل بطاريات الحالة الصلبة (نوع من البطاريات يستخدم أقطابًا كهربائية صلبة) أو بطاريات الليثيوم والكبريت، أن تعزز قدرات المركبات ذاتية القيادة. بالإضافة إلى ذلك، تُعد البطاريات مُمكنا عسكريًا بالغ الأهمية، فهي تُستخدم في الطائرات بدون طيار “الدرونز”، وأنظمة الحرب الإلكترونية، والروبوتات، والغواصات التي تعمل بالديزل والكهرباء، وأسلحة الطاقة الموجهة، وغيرها.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن المشهد الراهن المتعلق بمجال الذكاء الاصطناعي يعكس نطاقا جديدا من المنافسة الشرسة بين واشنطن وبكين، كما يثير الحاجة الملحة لحوكمة عالمية وتوافق دولي واضح حول محددات تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي.