أدت ثورة الاتصال الرقمية إلى تغيرات كبيرة في عمليات الاتصال ومكوناته، مع تحول الفعل الاتصالي الخطي إلى عملية اتصالية تفاعلية، وأصبح الفرد يعيش في فضاء مفتوح يحتوي على معلومات وبيانات متوافرة بكل الأنواع وفي كل المجالات بدأت مع المدونات، ثم انتقلت إلى المنتديات، حيث لم يعد يكتفي الجمهور بالقراءة والمتابعة، بل أصبح أيضًا يناقش ويتساءل ويستفسر مما أعطاها طابعًا تفاعليًا.
وقد غيرت التطورات المتسارعة في مجال الإعلام والاتصال من طريقة تنظيم وهيكلة عمل وسائل الإعلام التقليدية وطرق استخدامها وأشكال تمثلها من قبل مستخدميها. وهو ما حدا ببعض الباحثين إلى التنبؤ بنهاية نظريات الإعلام الكلاسيكية كنتيجة منطقية لنهاية وسائل الإعلام التقليدية.
وفي هذا الإطار، ركزت دراسة نشرتها مجلة علوم الاتصال للدكتور محمد على القعاري، الأستاذ بجامعة الملك محمد بن سعود بعنوان “المداخل النظرية في دراسات الإعلام الرقمي” على تحليل مدى ملاءمة النظريات والنماذج التي ظهرت في ظل وسائل الإعلام التقليدية والتي تم استخدامها لدراسة عناصر العملية الاتصالية في بيئة الإعلام الرقمي.
الإشكاليات النظرية في دراسات الإعلام الرقمي
وسعت الدراسة إلى رصد التوجهات العامة للمداخل النظرية في الدراسات الإعلامية، والكشف عن المنهجيات التي اعتمدتها والأدوات والنظريات العلمية التي استفادت منها، مع التركيز على تحديد الملامح الرئيسية لمخرجات تلك الدراسات.
وقد اعتمدت الدراسة على مسح التراث العلمي في المكتبة الإعلامية من الأطروحات والأبحاث المنشورة والأوراق البحثية المقدمة في المؤتمرات العلمية، بالإضافة إلى البحث في شبكات المعلومات والمكتبات الإلكترونية، حيث بلغت البحوث والدراسات التي خضعت للتحليل 36 بحثًا ودراسة.
ورصدت الدراسة مجموعة من الإشكاليات النظرية في دراسات الإعلام الرقمي، تمثلت في التحول من التركيز على مفهوم الاستهلاك إلى مفهوم التفاعل، ومن التركيز على مفهوم المتلقي إلى مفهوم المستخدم الذي يتفاعل ويسهم في إنتاج وتشكيل المحتوى.
وأيضًا التحول من مفهوم الجمهور العام الذي يشكل كتلة متجانسة تتلقى ذات الرسائل الاتصالية إلى مفهوم الفرد الذي يتلقى محتوى متفردًا على غيره في شبه عزلة افتراضية، بالإضافة إلى التحول من البحوث التي تركز على التفاعل في إطار الجماعات والمؤسسات إلى البحوث التي تركز على التفاعل الشبكي أو التفاعل بين المجموعات، بجانب التحول من التركيز على توصيف السمات والملامح التكنولوجية والاقتصادية والسلوكية الخاصة بالإعلام الجديد إلى التركيز على بحوث التحليل الثقافي وبحوث التاريخ الاجتماعي وبحوث تطبيق النظريات الاجتماعية.
ونتيجة لهذه التحولات تبين عدم قدرة النظريات التقليدية على استيعاب الظواهر الإعلامية في بيئة الإعلام الجديد، فضلًا عن أن معظمها كان وليدًا لسياق إعلامي واجتماعي وثقافي مختلف مما يجعل مسألة استعارتها في مجال الإعلام الجديد محفوفًا بعدد من المحاذير.
النظريات المستخدمة في دراسات الإعلام الرقمي
استعرضت الدراسة النظريات التي طورها الإعلام الرقمي وتلك التي استحدثها وأضافها، على النحو التالي:
• النظريات التي طورها الإعلام الرقمي
– نظرية ثراء الوسيلة: تستخدم لدراسة معايير الاختيار بين الوسائل الإعلامية والتكنولوجية وفقًا لدرجة ثرائها المعلوماتي، وتوضح أن فاعلية الاتصال تعتمد على القدر الذي تستخدم به الوسيلة وتركز بشكل أكبر على الأشكال التفاعلية للاتصال في اتجاهين بين القائم بالاتصال والجمهور المستقبل للرسالة.
– نظرية المجال العام: تعد من أكثر النظريات العلمية التي طورها الإعلام الجديد وتنسجم مع بيئته، وذلك لأن جوهر النظرية يقوم على وجود المجال العام الذي يتيح الفرصة للنقاش الحر في القضايا التي تلامس اهتمامات الناس والتي تقدم عن طريق الوسائل الإعلامية الجديدة.
– نظرية الحضور الاجتماعي: تعد من النظريات التي ارتبطت بالشبكة العنكبوتية على الرغم من أنها تعود إلى عام 1976م، ويرتبط الحضور الاجتماعي للوسيلة بقدرتها على تيسيرها عملية الفهم والاتصال بثرائها وتنوع لغاتها وقدرتها على نشر آراء متعددة.
– نظرية رأس المال الاجتماعي: ظهرت ضمن الاتجاهات النظرية للإعلام الجديد، ويقصد بها المصادر المتاحة أمام الناس من خلال تفاعلهم معًا عن طريق شبكة الويب، وهو ما شكل مجتمعًا افتراضيًّا تتخطى تفاعلاته الحدود الإقليمية وتتكون في إطار تفاعلات لا مكانية يطلق عليها شبكات اجتماعية كثيفة، حيث يمكن أن تشكل رأس المال الاجتماعي في المجتمع الافتراضي.
– نظرية التجربة الأمثل: تعمل على قياس استمتاع الأفراد بقضاء الوقت على الإنترنت، حيث تركز على عدة جوانب مثل استغراق الفرد في المهام التي يود إنجازها، وفقدانه الإحساس بالوقت والذات، وتشير إلى أن هناك تفاعلاً إيجابيًّا بين التمكن من استخدام الإنترنت والشعور بالاستمتاع، وتقترب من نظرية الاستخدامات والإشباعات، بيد أنها تختلف عنها في أنها تتطلب قدرًا من الخبرة أثناء التجول عبر الإنترنت، حددها باحثون في 4 شروط وهي: مستوى عال من المهارة والتحكم، مستوى عال من التحدي والفضول، تركيز الانتباه، التفاعلية والحضور.
– نظرية تقليل الشك: تشير إلى أن الأفراد يبحثون عن المعلومات لتقليل الشك أو القلق عندهم ويمكن الاعتماد على هذه النظرية في الدراسات القائمة على التشكيك في مصداقية الوسائل التقليدية مقابل مصداقية الإنترنت والإحصاءات التي يعتمد عليها في زيادة معلومات الأفراد حول المسائل الخلافية، ومن ثم تفيد هذه النظرية في دراسة الإنترنت كبيئة بديلة لوسائل الإعلام التقليدية.
• النظريات التي استحدثها الإعلام الرقمي
حاول العديد من الباحثين في مجال الإعلام تقديم نظريات علمية لدراسة الظاهرة الاتصالية في البيئة الرقمية، ونوهت الدراسة إلى أنه من خلال القراءة المتعمقة لهذه النظريات فإنها لم تصدر من أساتذة التخصص في الإعلام والاتصال بقدر ما صدرت عن خبراء وأساتذة مهتمين بالشق التكنولوجي المتعلق بتقنية المعلومات وهندسة الشبكات، ومن أبرز النظريات التي غلب عليها الجانب التقني:
– نظرية التحول الرقمي: تكاد تكون النظرية الوحيدة التي اتفق عليها الباحثون في الاتصال على أنها نظرية في الإعلام الجديد، ومنطلقاتها الرئيسية تتمثل في أن وسائل الإعلام الجديد تظهر تدريجيًا نتيجة للتحول العضوي، وأن وسائل الإعلام تستجيب مثل الأنظمة الأخرى للضغوط الخارجية وتتجه إلى إعادة تنظيم نفسها وتتطور مثل الكائنات الحية لكي تزيد فرص بقائها وعندما يظهر نمط اتصالي جديد ويتطور فإنه يؤثر على مر الزمن وبدرجات متفاوتة في أنماط الاتصال القائمة، ودعمت البحوث القليلة التي تناولت هذه النظرية الأفكار الرئيسة فيها وطورت مفاهيم مثل التحول الرقمي ومفهوم إحلال وسائل الإعلام والإحلال الوقتي والإحلال الوظيفي.
– نظرية الفجوة الرقمية: هي نمط من فجوة المعرفة ولكن في الفضاء الإلكتروني ويستخدم لوصف الاختلاف بين الأفراد والجماعات والدول في القدرة على الوصول واستخدام تكنولوجيا المعلومات الحديثة. وينظر الباحثون إلى متغير الوصول إلى الإنترنت باعتباره متغيرًا واحدًا ضمن متغيرات تؤثر في الفجوة الرقمية مثل جودة الاتصال بالإنترنت وتوافر الخدمات المساندة لاستخدام الإنترنت وتكلفة الاتصال بأسعار معقولة.
– نظرية الشبكات: يطلق عليها مدخل الشبكة أو تحليل الشبكة الاجتماعية أو ممثل الشبكة وهي كلها مستمدة من علوم الحاسب، وتم استخدامها في مجال الإعلام الجديد لتوصيف وتشخيص أشكال التشبيك الاجتماعي على الإنترنت.
– نظرية التلاقي أو الدمج: تسعى لتقديم فهم كامل ومخطط لظاهرة الإعلام الجديد، ويدور محتواها في جملة من الافتراضات الرئيسة أهمها أن هناك تغييرات جسيمة تحدثها تكنولوجيات الإعلام الجديدة على طبيعة التواصل البشري.
– نظرية الرقمنة: تتشارك إلى حد ما مع نظرية التلاقي أو الدمج من حيث نظرتها إلى التداخل بين مختلف أنواع المحتويات التي كانت إلى حد ما مفصولة في الإعلام التقليدي.
مقترحات ورؤى لتطوير النظرية في دراسات الإعلام الرقمي
قدمت الدراسة عددًا من المقترحات والرؤى العلمية للتغلب على الإشكاليات النظرية والمنهجية في دراسات الإعلام الجديد وتطوير الأطر النظرية في بيئة الإعلام الجديد، بناء على ما تم عرضه واستخلاصه من التراث العلمي في هذا المجال، وهو ما يتمثل فيما يلي:
التعامل مع الإعلام الجديد ووسائله الشبكية بوصفها علومًا جديدة مستقلة والعمل على استقلال هذه الظاهرة والسعي لتأسيس نماذج نظرية بوصفها بداية لنظريات الإعلام الجديد، والاستفادة من العلوم الأخرى للتعامل مع هذه الظواهر سواء أكان المتعلق منها بالهوية الذاتية للفرد، أم بالعلاقات الاجتماعية أم بالمجال العام.
اللجوء إلى مستوى التنظير الجزئي في ظل عدم تناسب نظريات الإعلام التقليدية مع تغيرات الظاهرة الإعلامية في بيئة التواصل الاجتماعي، وذلك للحصول على تفسيرات تتسم بالاستقرار النسبي، مما يساعد على تكوين تراث معرفي ونظري خاص ببحوث الإعلام الجديد.
صياغة نظريات تتناسب مع طبيعة ظاهرة الإعلام الجديد، من خلال البدء ببناء نماذج نظرية جديدة كمخرج للتعامل مع الإشكاليات التي تواجهها بحوث الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي، في إطار سعيها لبناء إطار نظري يلائم خصائص ظواهرها والتي تختلف عن خصائص ظواهر البيئة الإعلامية التقليدية.
عدم إغلاق باب الاجتهاد نحو صياغة مفاهيم ومقاربات ومداخل ونماذج نظرية تساعد على تفسير بعض ظواهر الإعلام الرقمي.
إعادة تعريف المفاهيم والوحدات التقليدية المستخدمة، سواء أكان في النظريات الاتصالية أم الاجتماعية، وخاصة في ظل بروز التأثير الكبير للتكنولوجيا على الأنشطة الاتصالية والاجتماعية.
تطوير مقاربات نظرية وأدوات تحليلية مبتكرة لمعالجة الاستخدامات والتأثيرات وأنماط الانخراط في هذه المجالات الاجتماعية وإنتاج أشكال المضامين الجديدة.
إعادة النظر في نظريات وسائل الإعلام التقليدي، سواء أكان لنفي المقولات النظرية السابقة أم تطويرها أم إعادة إنتاجها أو بناء مقولات نظرية جديدة تشكل نموذجًا نظريًّا تستند عليها في تفسير ما تدرسه من ظواهر.
عدم المبالغة في تطويع نظريات قديمة ومحاولة إخضاعها قسرًا على ظواهر اتصالية جديدة تتم في بيئة مغايرة.
تطوير أدوات بحث متقدمة في دراسة الإعلام الرقمي والشبكات الاجتماعية تحاول أن تستفيد من تقنيات هذه الوسائل لدراستها، فثمة العديد من الآليات والتقنيات والبرمجيات التي يمكن توظيفها في الوصول إلى نتائج بحثية أكثر دقة.
الحرص على تطوير بعض النظريات المعتمدة في بيئة الإعلام التقليدي، والتحقق من إمكانية ملاءمتها وطبيعة البيئة الإعلامية الاتصالية، والعمل على إعادة اختبار فروضها أو بعضها من أجل إصباغها بالصبغة العلمية التي تتيح استخدامها في بيئة الإعلام الرقمي.
توفير الآليات التي تتيح التعاون المشترك وإجراء الأبحاث والدراسات بين الباحثين العرب في ميدان الإعلام والاتصال ونظرائهم في المؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية في الدول الأجنبية، من أجل العمل على صياغة نظريات علمية خاصة بالإعلام الرقمي تتناسب مع الواقع الجديد.
تواصل الدراسات الخاصة بتوظيف نظريات التأثير المعتمدة في بيئة الإعلام الجديد، من أجل تبيان صلاحية ذلك أو تحديد الإشكاليات التي ترتبط به أو تنجم عنه.
وضع مصفوفة بالقضايا البحثية ذات الأولوية في الدراسة والتحليل، بما يساعد على توجيه العمل البحثي، مع إيلاء مزيد من الاهتمام بالبحوث التي تقوم على الدراسات الثانوية لمراجعة الإنتاج العلمي في هذا المجال من وقت لآخر، وكذلك الحاجة إلى مراجعة الكثير من المفاهيم والمداخل النظرية التي يتم توظيفها في دراسة الإعلام الرقمي.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن هناك العديد من الجهود التي تسعى إلى تقديم افتراضات نظرية جديدة تعكس الحالة التي يعيشها المجتمع الإنساني المعاصر بفضل نمو الاعتماد على المواقع الإلكترونية، وشبكات التواصل الاجتماعي، والمنتديات والهواتف الذكية، والتسوق الإلكتروني، غير أن النظريات الجديدة المفسرة لظاهرة الإعلام الجديد، لم تستطع التخلص من تبعيتها لفرضيات النظريات الكبرى المعروفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبالتالي فإن البحث في الإعلام الجديد لم يكن سوى امتداد للتراث الكبير المعروف في بحوث الإعلام التقليدي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تفسير طبيعة وتأثيرات الإعلام الجديد وفقًا للأطر النظرية للإعلام التقليدي يبدو ممكنًا، غير أنه يحتاج إلى تطوير وتطعيم بأطر جديدة، وذلك بالنظر إلى الطابع الخاص لهذه الظاهرة.