يفرض التقدم المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي ودورها المتعاظم في مختلف مناحي الحياة، تساؤلًا مُلحًا حول مدى قدرة تطبيقات الذكاء الاصطناعي على التفكير في وقت تستطيع تلك التطبيقات تقييم المعلومات وتحليلها وتقويمها وتوصيلها.
وفي محاولة لاختبار قدرة الذكاء الاصطناعي على التفكير بنفس طريقة الإنسان، بحثت دراسة نشرتها مجلة Transactions on Machine Learning Research”” في فبراير 2025، في مدى قدرة نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) على تكوين تشبيهات. ووجد الباحثون أنه في كل من تشبيهات سلسلة الأحرف البسيطة ومسائل المصفوفات الرقمية – حيث كانت المهمة إكمال مصفوفة بتحديد الرقم المفقود – كان أداء البشر جيدًا، لكن أداء الذكاء الاصطناعي انخفض بشكل حاد.
إلى ذلك، يخلط البعض بين التفكير والذكاء، ويتعامل معهما على أنهما مترادفان إلى حد ما، لكن الفلاسفة وضعوا الفروق الدقيقة بينهما لآلاف السنين. ربما لم يكن الفلاسفة اليونانيون على دراية بتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين، لكن أفكارهم حول العقل والتفكير يمكن أن تساعدنا على فهم ما هو على المحك مع الذكاء الاصطناعي اليوم، بحسب ما أوضح ريان ليك الأستاذ المساعد في كلية دورنسيف للآداب والفنون والعلوم بجامعة جنوب كاليفورنيا في مقاله المنشور على موقع “ذا كونفرزيشن” الأسترالي، والذي نستعرضه على النحو التالي:
- الخط الفاصل
على الرغم من أن الكلمتين الإنجليزيتين “العقل- intellect” و”التفكير-thinking” ليس لهما نظير مباشر في اللغة اليونانية القديمة، فإن النظر إلى النصوص القديمة يقدم مقارنات مفيدة. ففي كتاب “الجمهورية”، على سبيل المثال، يستخدم أفلاطون تشبيه “الخط الفاصل” الذي يفصل بين أشكال الفهم العليا والدنيا.
جادل أفلاطون، الذي علّم في القرن الرابع قبل الميلاد، بأن لكل إنسان قدرة حدسية على إدراك الحقيقة. وقد أطلق على هذه القدرة اسم “الإدراك- noesis” وهو أعلى أشكال الفهم.
ويُمكّن الإدراك من إدراك يتجاوز العقل أو الاعتقاد أو الإدراك الحسي، وهو أحد أشكال “معرفة” الشيء، ولكنه من وجهة نظر أفلاطون، من خصائص الروح أيضًا.
وفوق “الخط الفاصل”، يوجد العقل، الذي يعتمد على الجدل. أما أسفله، فتتمثل أشكاله الدنيا من الفهم في الاعتقاد والخيال. ويقصد بالاعتقاد بأنه اعتقاد متأثر بالتجربة والإدراك الحسي: مدخلات يمكن للمرء دراستها نقديًا والتفكير فيها. أما الخيال، فيُعرّفه أفلاطون بأنها رأي لا أساس له من الصحة، متجذر في إدراك خاطئ.
وفي هرم أفلاطون للقدرات العقلية، يقع الفهم المباشر والحدسي في القمة، بينما تأتي المدخلات المادية اللحظية في الأسفل. وتؤدي قمة الهرم إلى المعرفة الحقيقية والمطلقة، بينما تُفضي القاعدة إلى الانطباعات والمعتقدات الخاطئة. لكن الحدس، وفقًا لأفلاطون، جزء من الروح، ويتجسد في صورة بشرية.
لذا، بينما لا يُفرّق أفلاطون بين “العقل” و”التفكير”، فإن تمييزاته تُساعدنا على التفكير في الذكاء الاصطناعي. فبدون تجسيده، قد لا “يُفكّر” الذكاء الاصطناعي أو “يفهم” كما يفعل البشر. قد يُشبه “الخيال -وهو أدنى أشكال الفهم القائمة على تصورات خاطئة – هلوسات الذكاء الاصطناعي المتكررة، عندما يُختلق معلومات تبدو معقولة لكنها في الواقع غير دقيقة.
- التفكير المتجسد
ألقى أرسطو، تلميذ أفلاطون، المزيد من الضوء على العقل والتفكير في كتابه “عن النفس”، الذي يُفرق فيه بين “العقل الفاعل-Active Intellect ” و” العقل المنفعل -Passive Intellect”.
العقل الفاعل، الذي سماه “النوس”، غير مادي، فهو يُكوّن المعنى من التجربة، لكنه يتجاوز الإدراك الجسدي. أما العقل المنفعل فهو جسدي، يستقبل الانطباعات الحسية دون تفكير. ويمكننا القول إن هاتين العمليتين الفاعلتين والمفعول بهما، تُشكّلان معًا “التفكير”.
اليوم، تحمل كلمة “العقل” صفة منطقية يُمكن أن تُحاكيها حسابات الذكاء الاصطناعي. مع ذلك، يُشير أرسطو، مثل أفلاطون، إلى أن “التفكير” يتطلب شكلًا مُجسّدًا ويتجاوز العقل وحده.
تظهر آراء أرسطو في البلاغة أيضًا أن التروي والحكم يتطلبان جسدًا وشعورًا وتجربة. قد نعتبر البلاغة إقناعًا، لكنها في الواقع أقرب إلى الملاحظة: مراقبة وتقييم كيفية تشكيل الأدلة والعاطفة والشخصية لتفكير الناس وقراراتهم.
إن الحقائق مهمة لكن العواطف والأشخاص يحركوننا، ويبدو من المشكوك فيها ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يستخدم البلاغة بهذه الطريقة. كما يُلقي مفهوم أرسطو عن “العقل” مزيدًا من الضوء على قدرة الذكاء الاصطناعي على التفكير.
في كتاب “أخلاقيات نيقوماخوس”، يُعرّف أرسطو العقل بأنه “الحكمة العملية” أو “التعقل”. ويتضمن “العقل” تجربة معيشة تُحدد ليس فقط الفكر الصحيح، بل أيضًا كيفية تطبيقه على “غايات فاضلة” أو أفعال فاضلة.
قد يُحلل الذكاء الاصطناعي مجموعات بيانات ضخمة للوصول إلى استنتاجاته، لكن العقل يتجاوز المعلومات إلى الحكمة والبصيرة الأخلاقية.
- روبوتات تعالج البيانات
يتخذ الذكاء الاصطناعي اليوم أشكالًا مادية متعددة، من المركبات ذاتية القيادة والروبوتات الشبيهة بالبشر إلى روبوتات الرعاية الصحية والطائرات بدون طيار. وإذا كان العقل يتطلب تجسيدًا، كما اعتقد أفلاطون وأرسطو، فقد يبدو أن الذكاء الاصطناعي يقترب أكثر من أي وقت مضى من التفكير البشري.
ويتخذ الذكاء الاصطناعي أشكالًا متعددة، لكنها لا تزال ليست أجسامًا؛ إنها تعمل على الأكواد والخوارزميات ومجموعة البيانات. ويبدو أن الفهم الحدسي والعاطفة والنزاهة والحكمة العملية تتطلب شكلًا متجسدًا وقابلًا للفناء يتحرك بالتجربة.
وربما يجب أن نسأل الذكاء الاصطناعي نفسه – وهذا ما فعلته – عندما سألت تطبيق “شات جي بي تي” سؤالا بسيطا: “هل يمكنك التفكير؟” أجاب: “أستطيع معالجة المعلومات وتحليل الأنماط وتوليد استجابات بناءً على البيانات. لذا، قد يبدو الأمر، في بعض النواحي، وكأنني أفكر. لكنه ليس تفكيرًا بشريًا. ليس لدي وعي، ولا مشاعر، ولا نيات، ولا إدراك. إن كل ما أفعله مبني على أنماط تعلمتها من نصوص ضخمة ومجموعة من القواعد والاحتمالات. أستطيع محاكاة جوانب معينة من التفكير، لكنني لا أفكر أو أفهم حقًا بالمعنى البشري”، وهذا الرد يتوافق مع آراء أفلاطون وأرسطو، في الوقت الحالي.
وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول بأن الذكاء الاصطناعي قد يتفوق في السرعة والذاكرة، لكن التفكير لن يتمكن منه ولن يستطيع بلوغ قدرات البشر.