يعد مفهوم “مقاومة وسائل الإعلام- Media Resistance” واحداً من المفاهيم التي ارتبطت بالجهود الأكاديمية لدراسة تفاعل الجمهور مع وسائل الإعلام على اختلاف مراحل تطورها، وهو ما أفردت له ترين سيفرتسن أستاذة الدراسات الإعلامية بجامعة أوسلو مساحة واسعة في مؤلف تحت عنوان “مقاومة وسائل الإعلام.. الاحتجاج والنفور والامتناع”.
وتشمل دراسة مقاومة وسائل الإعلام مجالات وتخصصات مختلفة من أبرزها الدراسات الثقافية، ودراسات علم الاجتماع، والسياسة الإعلامية، ودراسات الجمهور والتكنولوجيا، وعلى الرغم من اختلاف هذه المداخل فإن هناك ميلًا إلى تصور مقاومة وسائل الإعلام من منظور سلبي إلى حد ما، حيث يُنظر إلى المقاومة على أنها شكل من أشكال الذعر، أو رد فعل غير منطقي ناجم عن الخوف من التكنولوجيا، أو التهميش الاجتماعي.
وغالبًا ما تكون الفرضية الأساسية هنا أن أولئك الذين يقاومون وسائل الإعلام هم “الأخلاقيون- moralists” الذين يخضعون للذعر الأخلاقي غير العقلاني، أو “الرجعيون-Luddites” المعارضون للتكنولوجيا والتقدم، أو “أصحاب الثقافة التشاؤمية-cultural pessimists” المتشككون في الثقافة الشعبية والحياة الحديثة.
الذعر الأخلاقي كمحرك رئيسي لمقاومة وسائل الإعلام
ويشير الكتاب إلى أنه تاريخيًا كان الكثير من الاحتجاجات ضد وسائل الإعلام ترتكز على الأحكام الأخلاقية، وقد فضلت الحركات الأخلاقية فرض الرقابة والقيود، وهو ما دفع الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان إلى صك مصطلح “الذعر الأخلاقي” في عام 1964 لوصف ردود أفعال العديد من الأشخاص الواعين معلوماتيًا تجاه وسائل الإعلام.
وبات المصطلح معروفًا على نطاق واسع من خلال عالم الاجتماع البريطاني، ستانلي كوهين في دراساته لردود الفعل المضادة لسلوك الشباب في ستينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين استُخدم مصطلح “الذعر الأخلاقي” لوصف مجموعة متنوعة من الاحتجاجات الاجتماعية، بما في ذلك الاحتجاجات ضد الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام الجديدة.
وقد أدى الاهتمام بهذه القيم إلى ردود فعل ليس فقط ضد المحتوى، ولكن أيضًا ضد تكنولوجيا الوسائط ووظائف وسائل الإعلام في المجتمع، وكما هو الحال في المجالات الأخرى، غالبًا ما يتم تصور أولئك الذين يقاومون التقنيات الجديدة على أنهم رجعيون مناهضون للحداثة.
ويشير الكتاب إلى أن القول إن مقاومة وسائل الإعلام ترتكز على القيم لا يعني أن كل شيء عقلاني في تلك المقاومة، فهناك بالتأكيد مكان للعواطف كما هو الحال في التنظير التاريخي والاجتماعي، ولعل المشاعر الأكثر شيوعًا التي رصدتها الكتابات الأكاديمية هي عدم الثقة وخيبة الأمل، إذ لا يوجد إيمان بما يمكن لوسائل الإعلام القيام به وتصويره، كما لا توجد ثقة في وسائل الإعلام بأنها قوة للخير.
ويغطي مصطلح “مقاومة وسائل الإعلام” مجموعة واسعة من الإجراءات والمواقف السلبية تجاه وسائل الإعلام، وهو يصف رفض الطريقة التي تعمل وتتطور بها وسائل الإعلام، كما تنطوي مقاومة وسائل الإعلام على أكثر من مجرد نقد لوسائل الإعلام، فهي حجة تربط وظائف وسائل الإعلام بالعلل الاجتماعية والتغيير الاجتماعي إلى الأسوأ.
مراحل تطور مقاومة وسائل الإعلام
وقد استخدمت بعض الكتابات الأكاديمية ما يسمى بـ”المقاومين- resisters” لوصف الأشخاص الذين لا يستخدمون تقنية معينة لأنهم لا يريدونها، و”الرافضين-rejectors” لوصف أولئك الذين توقفوا عن استخدامها لأنهم يجدونها غير مناسبة.
واستخدم البعض الآخر مصطلح “مقاومة وسائل الإعلام” لوصف الأشخاص الذين يحدون عن قصد وبشكل كبير من استخدامهم لوسائل الإعلام، دون الإيحاء بالضرورة بأنها جزء من حركة ثقافية أوسع. وبجانب استخدام مصطلح ما يسمى بـ”المقاومين” يتم أيضًا استخدام مصطلحات مثل “المتشككين- sceptics” و”المحتجين- protesters” و”الممتنعين- abstainers” وأيضًا “النقاد- critics”، للإشارة إلى أن هناك حدودًا بين الأشكال المختلفة للمقاومة والتشكيك.
ويركز الكتاب على مقاومة وسائل الإعلام كظاهرة يومية، مشيرًا إلى أن تاريخ وسائل الإعلام، مليء بالكثير من حوادث تدمير وسائل الإعلام، من حرق الكتب في القرن السادس عشر إلى تدمير حركة طالبان لأجهزة التلفزيون في أفغانستان، بينما كان التدمير المادي لوسائل الإعلام نادرًا في الغرب، على الرغم من وجود احتجاجات رمزية، مثل حرق 44 جهاز تلفاز في حفل نظم بمدينة سان فرانسيسكو في عام 1975 كدعوة من أجل تحرير المتفرجين من إدمان التلفاز. وعلى الرغم من ندرة مثل هذه الحوادث، فإنها تظل جزءًا من رمزية المقاومة الإعلامية.
ويستعرض الكتاب ثلاث مراحل ذات أهمية خاصة لفهم مقاومة وسائل الإعلام اليوم، المرحلة الأولى تتمثل في مقاومة وسائل الإعلام في عصر انطلاق وسائل الإعلام الحديثة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين متمثلة في (المطبوعات، الأدب الجماهيري، السينما، الراديو، الرسوم الكاريكاتورية)، ثم المرحلة الثانية حيث مقاومة التلفاز في النصف الثاني من القرن العشرين، والمرحلة الثالثة تتمثل في مقاومة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي منذ عام 2000.
تقويض الثقافة والأخلاق وحركة التنوير
وسعى الكتاب إلى تحديد العناصر الإعلامية التي تثير ردود الفعل والمقاومة، فهو يعكس الانتقال من المنتجات والخدمات الإعلامية المنفصلة، إلى الإعلام الإلكتروني الذي يتسم بتقارب أنماطه ووجوده في كل مكان، وهو ما جعل “المحتجين- protesters” و”الممتنعين- abstainers” يكافحون للتمييز بين الجوانب المفيدة والبغيضة لوسائل الإعلام المتقاربة بشكل كبير.
ويشير الكتاب إلى أن مقاومة وسائل الإعلام تشكلت من خلال حركة التصنيع والنمو الحضاري، والمناقشات حول المجتمع الجماهيري والثقافة الجماهيرية، حيث انصبت المقاومة لـ”وسائل الإعلام المبكرة- early mass media” مثل المطبوعات والكتب والسينما والراديو والقصص المصورة، من منطلق أنها تقوض الأخلاق والثقافة والتنوير والديمقراطية والمجتمع، بل والصحة أيضًا إذ اعتبر المقاومون للراديو مع بدايات ظهوره أن موجاته تتسبب في إصابة الإنسان بنوبات دوار.
كما تم تصوير الوسائط التي تعتمد على الشاشة (السينما والتلفزيون) على أنها سيئة، في حين تم اعتبار أن الكتب المطبوعة تمثل الأمل للإنسانية، بعبارة أخرى لا توجد وسيلة مكروهة مثل كراهية التلفاز، إذ رأى عدد من النقاد أنه سبب العلل الاجتماعية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وأنه يقوض المجتمع وحركة التنوير، ويعيق أسلوب الحياة الأخلاقي، ويضر بالصحة العقلية والبدنية.
وكانت السمة المشتركة في الحملات والاحتجاجات ضد وسائل الإعلام المبكرة هي النضال من أجل السيطرة السياسية والمؤسسية أو الحظر أو الرقابة.
ويشير الكتاب إلى أن النظرة إلى الإنترنت في البداية تمثلت في أنه يحقق التحرر من التلفاز، لكن بعد مرور عقد من القرن الجديد، انتشرت التحذيرات بشأن العواقب السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، حيث رأى النقاد أن تلك المنصات تقوض القيم المشتركة على نطاق واسع (الأخلاق والثقافة والتنوير والديمقراطية والمجتمع والصحة).
ومع انتشار وسائل الإعلام في كل مكان، بات من الصعب اقتراح تدابير سياسية لتقييدها، لكن التطور الموازي هو ظهور “أدلة المساعدة الذاتية- self-help guides”، والمواقع الإلكترونية المحفزة للمستخدمين للامتناع عن استخدام وسائل الإعلام.
ويشير الكتاب إلى أن مقاومة وسائل الإعلام انتقلت بشكل متزايد من المجال السياسي إلى المجال الشخصي، ويستعرض تفسيرات لاستمرار مقاومة وسائل الإعلام كتيار ثقافي قوي، من أبرزها أنها عملية تتسم بالمرونة والقابلية للتكيف مع المتغيرات.
ويوضح أيضًا أن الحجة القائلة إن الإعلام والثقافة الشعبية يقوضان الأخلاق هي موقف كلاسيكي، برر النقد والقيود عبر تاريخ وسائل الإعلام، وقد اندلعت الاحتجاجات في العديد من البلدان ضد المحتوى الذي يُنظر إليه على أنه غير أخلاقي (غالبًا المحتوى الجنسي والعنيف) في الأدب والسينما والقصص المصورة والتلفزيون والفيديو ووسائل الإعلام عبر الإنترنت.
ويتم التعبير عن القلق بشأن أثر التقليد، حيث إن الشباب سيقلدون السلوك السيئ، في استعارات حادة تدريجيًا مثل “التربية على الجريمة” (من السينما)، وغالبًا ما يستخدم المحترفون والناشطون الذين يتفاعلون مع وسائل الإعلام على أسس أخلاقية استعارات قوية وعنيفة، مما يدفع وسائل الإعلام الليبرالية والعلماء إلى وصفهم بالذعر وغياب العقلانية.
وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول إن أهمية وسائل الإعلام ازدادت مع ظهور أنماط الإعلام الجديد، لا سيما منصات التواصل الاجتماعي، وتؤدي تلك الوسائل حزمة من المهام، مثل تمثيل الرأي العام والمؤسسات، والترفيه والموسيقى والرياضة والقراءة العامة، وتقديم خدمات للجمهور، والتعليم والإرشاد.
ولم تعد فكرة مقاومة وسائل الإعلام مسألة ذات جدوى في ظل محاصرة تلك الوسائل للإنسان وعدم فاعلية خيارات حظر الوصول إليها، لذا يبقى الحل الأمثل لتقويم محتوى وسائل الإعلام هو تعزيز التفاعل الجماهيري مع المحتوى من أجل رصد وقياس أثر هذا المحتوى على الواقع.
5 دقائق