تعتبر الحروب واحدة من أعقد أشكال الأزمات التي يواجهها المجتمع الدولي، والتي تهدد الأمن والاستقرار على المستويات الإقليمية والدولية، ويمكن تقسيم الحروب إلى فئات عديدة تشمل حروب الغزو والحروب الأهلية وحروب التمرد والحروب الدينية، كما شهد التاريخ الحديث أيضًا حروبًا بالوكالة، وحروبًا وقائية، وحروبًا لتغيير الأنظمة، وحربًا عالمية على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001، والتي تركزت على أفغانستان والعراق.
وقد ذهب الفيلسوف الأمريكي مايكل والزر إلى أبعد من ذلك عندما حاول تحديد الحجج الأخلاقية وراء الحروب، وتقسيمها إلى حروب عادلة وغير عادلة، أي هناك حروب يجب خوضها على أسس إنسانية وأخرى ليست كذلك.
وتوجد العديد من الصراعات التي يرغب العالم في إنهائها حاليًا، لكن طبيعة الحرب قد تغيرت مما جعل صنع السلام أكثر صعوبة، إذ يمكن أن تنتهي الحروب بجروح عميقة تؤدي إلى مزيد من القلاقل في المستقبل أو إمكانية التعافي منها بطريقة سلمية نسبيًّا.
ومع تلاشي الحرب في سوريا والمستقبل المجهول لأفغانستان، واستمرار الصراعات في اليمن وإثيوبيا والصومال ومنطقة الساحل وليبيا وفنزويلا وأماكن أخرى، رأت مجلة فورين بوليسي الأمريكية أنه من الأهمية بمكان إلقاء نظرة فاحصة على كيفية إنهاء الحروب بصورة فعالة.
ركائز إنهاء الحروب وتسوية النزاعات
ويوجد مرتكزان أساسيان لإنهاء الحروب، الأول توافر إرادة قوية لإنهاء النزاعات، والثاني تطور آخر جديد نسبيًّا في المفاوضات الدولية، يتمثل في آلية تُعرف باسم “دبلوماسية المسار الثاني”.
وتُشكل تجربة سيراليون أحد الأمثلة المفيدة للغاية على استخدام الإرادة لإنهاء الحرب، حينما تدخلت بريطانيا عسكريًّا في مايو عام 2000 بشكل ناجح لإنهاء الحرب الوحشية هناك، والتي شهدت انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان ضد المدنيين، بما في ذلك بتر الأطراف، والاغتصاب الجماعي، والتعذيب وإحراق قرى بأكملها، فقبل وصول القوات البريطانية إلى سيراليون كانت حصيلة القتلى قد تجاوزت أكثر من 50 ألف مدني.
وكانت العاصمة فريتاون على وشك الوقوع في أيدي متمردي الجبهة الثورية المتحدة، لكن جهود القائد العسكري البريطاني ديفيد ريتشاردز منعت مذبحة شاملة، حينما تحرك دون انتظار أوامر قادته في لندن من أجل تأمين المطار لحماية المدنيين وصد هجوم الجبهة الثورية المتحدة، وتمكن من إنشاء مناطق آمنة للمدنيين، ثم التقى أمراء الحرب وأقنعهم بالانضمام معًا لمحاربة الجبهة الثورية المتحدة، إلى أن تمكن لاحقًا من إقناع جميع الأطراف بما في ذلك الجبهة الثورية المتحدة، بأن أفضل نتيجة للجميع هي إنهاء القتال، وعندما انتهت الحرب تم تكليف ريتشاردز ورجاله بنزع سلاح الفصائل المختلفة وتدريب جيش سيراليون الجديد.
لقد أصبحت مهمة ريتشاردز الناجحة – التي بدأت في البداية كعملية استطلاع صغيرة تمت الموافقة عليها من قبل لندن فقط بهدف إجلاء المواطنين البريطانيين – تُعرف باسم عملية “Palliser”. وجاء الإنهاء السريع لتلك الحرب تقريبًا عكس ما حدث في أفغانستان، رغم أن ريتشاردز تولى قيادة قوات حلف شمال الأطلسي “الناتو” هناك.
ويعتبر أحد أسباب نجاح تدخل ريتشاردز في سيراليون معرفته الجيدة بالبلد، حيث التقى بمعظم الفاعلين البارزين فيها خلال رحلات سابقة، فضلًا عن فهمه للخريطة والتضاريس والناس والعادات، والأهم من ذلك أن دافع ريتشاردز كان مساعدة المدنيين، وقد يكون هذا أحد العوامل الحاسمة لنجاحه في إحلال سلام دائم في سيراليون، إذ جاء تدخله على أسس أخلاقية وإنسانية بحتة، فلم يكن إنهاء الحرب مدفوعًا بأسباب تجارية أو استراتيجية مثل الحرب على العراق، أو لأسباب سياسية داخلية في الغالب مثل الحرب في أفغانستان.
واستخدم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير- الذي أشرف على عملية “Palliser”- سيراليون كمثال لحل الحروب بطريقة بناءة، وكان بلير قد وضع بالفعل معايير التدخل العسكري على أسس إنسانية وأخلاقية في خطاب ألقاه في شيكاغو عام 1999، وأصبحت فكرة وجود أسس إنسانية تلزم المجتمع الدولي بالتدخل تعرف باسم “مبدأ بلير-The Blair Doctrine”.
وبدلًا من أن يصبح بلير صاحب الفضل في هذه الرؤية الرائعة لصنع السلام للمجتمع الدولي، إلا أن إرثه خيّم عليه دوره في غزو العراق عام 2003، حيث دعم بالكامل الحرب المشؤومة التي شنتها إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، لكن السبب الأكثر أهمية في عدم ترسيخ رؤية التدخلات الإنسانية البحتة هو أنها كانت غارقة في الجدل منذ البداية.
المزج بين دبلوماسية المسار الأول والثاني في حالة طاجيكستان
وتتجلى كل هذه القضايا في سوريا، حيث ستنتهي الحرب في النهاية، وسيتعين إعادة بناء دولة محطمة، فصحيح لا يمكن أن ينتهي هذا الصراع المميت في وقت قريب، ولكن كيفية نهايته لا تقل أهمية عن الوقت. وهنا تثار تساؤلات هل يمكن لكل الأطراف الاقتناع بأن السلام في مصلحتهم؟ أم أنهم سيصبحون أطرافًا في اتفاق معيب يُبقي الماضي المرير حيًّا؟ مع مقتل نصف مليون سوري وملايين اللاجئين، وهل سيكون هناك أي نوع من العدالة الانتقالية؟
ومع استمرار الحرب وعدم وجود حل تفاوضي في الأفق، قد يتطلب الطريق إلى السلام المستدام فحص ومراجعة عملية التفاوض التقليدية للجمع بين أطراف النزاع والقوى الخارجية ذات الصلة على أمل التوصل إلى اتفاق رسمي، حيث تضم المفاوضات الراهنة ممثلين عن بعض أطراف النزاع، بالإضافة إلى وسطاء خارجيين مثل الأمم المتحدة ومؤخرًا روسيا، لكن هذه العملية لم تستثن أصحاب المصلحة السوريين الرئيسيين فحسب، بل استبعدت أيضًا الجهات الفاعلة غير الحكومية صاحبة المصلحة والتي يمكن أن تُساعد في تنفيذ السلام مثل المنظمات غير الحكومية والزعماء الدينيين وجماعات المجتمع المدني والمواطنين العاديين.
وهنا يأتي دور دبلوماسية المسار الثاني، وهو مصطلح صاغه الدبلوماسي الأمريكي جوزيف مونتفيل في عام 1981، (المسار الأول هو عملية التفاوض التقليدية بين أطراف النزاع الرئيسية)، ويتم هذا النوع من الدبلوماسية، بشكل غير رسمي، حيث يشمل نطاقًا أوسع من الأطراف التي يتم جلبها إلى الطاولة، وغالبًا ما يتم إجراؤه سرًّا بحيث يمكن تناول كل المخاوف.
فبعيدًا عن أضواء الإعلام والسياسة العامة، لا يتم عقد هذه المحادثات غير الرسمية من قبل الأمم المتحدة أو القوى الكبرى مثل روسيا، ولكن غالبًا من قبل المنظمات غير الحكومية والمؤسسات المتخصصة في حل النزاعات من بينها مؤسسة غيلمور بيرغوف، ومركز الحوار الإنساني في جنيف، والمعهد الأوروبي للسلام في بروكسل، فعلى سبيل المثال تنخرط مؤسسة بيرغوف في دبلوماسية المسار الثاني السرية في الصومال وأفغانستان.
ومن المثير للاهتمام أن كل منظمة من هذه المنظمات الثلاث يرأسها مسؤول كبير سابق في الأمم المتحدة كان شاهدًا على فشل النظام التقليدي في إنهاء النزاعات، فعلى سبيل المثال ساعدت راندا سليم، مديرة برنامج حوارات المسار الثاني وحل النزاعات في معهد الشرق الأوسط (مقره واشنطن)، في تسهيل مثل هذه الاتصالات وراء الكواليس في طاجيكستان خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث كانت الحكومة تقاتل تمردًا إسلاميًّا.
وكانت هذه واحدة من المرات الأولى التي تحدثت فيها الحكومة في طاجيكستان ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي مع الإسلاميين الذين لم يكن لمشاركتهم في أي شكل من أشكال السلام فرصة تُذكر.
وكانت العملية بطيئة في البداية ويغلب عليها أجواء الإحباط ولكنها أدت إلى تقدم كبير، حيث أنشأت مع فريقها القناة الخلفية التي أرست الأساس لإطلاق عملية سياسية رسمية بوساطة الأمم المتحدة. وقد استمر المساران – الرسمي وغير الرسمي- في العمل بالتنسيق الوثيق مع بعضهما البعض، مما أدى في النهاية إلى اتفاق سلام في عام 1997.
الدروس المستفادة من تجربة دبلوماسية المسار الثاني في آيرلندا
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أحد الأسئلة التي لا يمكن تجنبها هو ما إذا كان يجب عقد محادثات مع الفصائل المسلحة أم لا، فمن المرجح أن تشمل الحروب في المستقبل المزيد من الجماعات المتمردة والجهات الفاعلة العنيفة الأخرى من غير الدول، ومن ثمة تبرز الحاجة إلى القدرة على التحدث معهم أو على الأقل فهمهم.
وفي هذا الإطار، نجح جوناثان باول، كبير المفاوضين في محادثات السلام التي أنهت الصراع المستمر منذ عقود في آيرلندا الشمالية والتي عرفت باسم “محادثات الجمعة العظيمة”، لأنه كان على استعداد للتحدث مع المجموعات المعنية، بما في ذلك ممثلو الجيش الجمهوري الآيرلندي، الذي كان مسؤولاً عن هجمات في بريطانيا، فلو كانت هذه المحادثات معروفة لوسائل الإعلام لواكبتها عاصفة من الغضب تعرقل السلام على الأرجح.
وبعد تلك التجربة، قاد باول جهود دبلوماسية المسار الثاني الناجحة لإنهاء النزاعات الأخرى في كولومبيا وأماكن أخرى، وخلص إلى أنه من أجل إنهاء الصراعات فلا بد من فهم الجماعات المتمردة والطريقة الوحيدة لذلك هي الالتقاء بهم.
وأخيرًا، إذا كانت دبلوماسية المسار الثاني تعد بنتائج حقيقية، إذن لماذا لا تستخدم بكثافة، والإجابة وفقًا للمفاوضين المنخرطين في المحادثات عبر القنوات الخلفية في نزاعات مثل ليبيا وسوريا، تعود إلى أن الأمر يستغرق وقتًا، حيث يتطلب المزيد من الحوار والوساطة أكثر من صنع السلام التقليدي، ويحتاج لمشاركة خبراء يعرفون البلد جيدًا وملتزمين بصياغة سلام دائم، وليس للبيروقراطيين الذين يريدون فقط مجرد توقيع اتفاق، كما يتطلب أيضًا الثقة والسرية. والأخذ بعين الاعتبار التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان وتحقيق العدالة.
إن الحروب لا تنتهي دائمًا بالانتصارات، فهي تنتهي ببلدان منكوبة وسكان يعانون صدمات نفسية، لذا يتطلب صياغة سلام دائم الاعتراف بالناجين من هذا الرعب، سواء من خلال العدالة التصالحية أو الانتقالية، مع وجوب إصلاح الضرر الناجم عن جرائم الحرب، وإلا فإن جذور تلك الحروب ستعود حتمًا وبصورة رهيبة.
5 دقائق