على مدى أكثر من أربعة عقود استند نظام الملالي في إيران على استراتيجية القمع والتنكيل بالمعارضين والأقليات، وسلب المواطنين الإيرانيين حريتهم؛ من أجل تأمين هدف وحيد هو استمرار النظام، وتنفيذ مشروعه الإقليمي التخريبي، حتى وإن كان على حساب الشعب الإيراني ذاته الذي يئن تحت وطأة الانهيار الاقتصادي، والفساد الذي يضرب الطبقة الحاكمة التي تتخذ من الدين ستارًا للحكم.
ولم تقتصر تلك الاستراتيجية القمعية السامة على الداخل الإيراني فقط، لكنها عابرة للحدود إذ طالت العديد من المواطنين بدول في المنطقة تنشط فيها الأذرع المسلحة لطهران، ممثلة في ميليشيا الحرس الثوري الإيراني، ووكلاء إيران من الميليشيات المسلحة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، حيث تعيث تلك الميليشيات فسادًا، وتُدمر مقدرات وتنهب ثروات الشعوب من خلال تطبيق نهج القمع ذاته.
ويُقدر العديد من المراقبين والتحليلات أن ذلك الملف يجب أن يحظى باهتمام من جانب إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن ضمن صياغته لمحاور السياسة الأمريكية تجاه إيران، بحيث يتبنى نظرة أكثر شمولًا للتصدي لممارسات النظام الإيراني لا تقتصر على معالجة الملف النووي فقط.
وحشيةُ نظام الملالي تسحقُ حقوق الإنسان في إيران
وبحسب مجلة “فورين آفيرز” الأمريكية، فإنه من الضروري أن تكون حقوق الإنسان في قلب الأجندة الأمريكية تجاه طهران، لا سيما وأن الدبلوماسية الأوروبية التزمت الصمت إلى حدٍّ كبيرٍ بشأن هذه القضية خلال السنوات الماضية، وتحديدًا مع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، فمنذ ذلك الوقت انصب تركيز الأوروبيين على منع انهيار الاتفاق.
ويعني هذا أن لدى الإدارة الأمريكية الجديدة الفرصة لمعالجة وضع حقوق الإنسان في إيران الذي لا يتدهور فحسب، بل يرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بمجالات متعددة تُثير شواغل ذات طابع استراتيجي.
لقد كانت السنوات الأربع الماضية حالكةً بالنسبة لحقوق الإنسان في إيران، حيث انفجر الاستياء المجتمعي من تدهور الأوضاع الاقتصادية، والقمع المستمر في نوفمبر 2019 في أخطر احتجاجات شهدتها إيران منذ عقود، استخدمت فيها قوات الأمن الإيرانية العنف بشكل وحشي وعشوائي لسحق المُحتجين.
كما أصدر القضاء أحكامًا بالسجن قاسيةً على نحو متزايد بحق محامين ونُشطاء حقوق الإنسان بعد محاكمات جائرة، فضلًا عن أحكام بالإعدام طالت المتظاهرين والمعارضين. ومع ذلك لا يزال التركيز الأساسي في الغرب مُنصبًّا على الملف النووي باعتباره القضية الأولى التي يجب حلها مع إيران.
المقاربةُ الحقوقيةُ تجاه إيران وتحقيق المصالح الاستراتيجية الأمريكية
ووفقًا لـ”فورين آفيرز”، يمكن لإدارة الرئيس بايدن من خلال منح ملف حقوق الإنسان في إيران مكانةً مركزيةً في سياسات واشنطن الخارجية، أن تُعالج بشكل أكثر فاعلية جميع مصالحها الاستراتيجية الرئيسية فيما يتعلق بطهران، والمتمثلة في القضايا التالية: الانتشار النووي، وإنتاج الصواريخ، والصراع الإقليمي، والإرهاب، وأسواق النفط.
وتُشير المجلة الأمريكية إلى أن حماية الحقوق والحريات المدنية الأساسية تُعزِّز الحكم الرشيد، الذي بدوره يُعزِّز الاستقرار الداخلي، منوهةً إلى أن الوضع في إيران يُظْهر بوضوح العلاقة بين الحكم المُستبِد والاضطرابات، فخروج المحتجين إلى الشوارع الإيرانية في نوفمبر 2019 كان ردًّا على سُوء إدارة، وظلم نظام الملالي.
وواجه النظام الإيراني هذه الاحتجاجات بكل وحشية، حيث أطلقت القوات الأمنية الذخيرة الحية على حشود من المدنيين العُزل، مما أسفر عن مقتل المئات، واعتقال الآلاف في غضون أيام.
وفي ظل تلك الأجواء، فإن دعم النشطاء الإيرانيين والحقوق التي يدافعون عنها من خلال تضخيم أصواتهم، والعمل مع الحلفاء لإثارة قضاياهم بشكل مشترك، والاعتراض بقوة على محاكمتهم في كل محفل ليس واجبًا أخلاقيًّا فقط، لكنه واجب استراتيجي باعتبار أن توفير مساحة للتعبير عن الرأي في إيران خُطوة تخدم المصالح الأمريكية من خلال تقليل احتمالات الصراع الإقليمي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدول ذات السجلات القوية في مجال حقوق الإنسان أقل احتمالية للانخراط في العُدوان على جيرانها، نظرًا لأنه من الصعب ببساطة فرض تكاليف الحرب على المواطنين المستنيرين، كما أن تمتُّع هؤلاء المواطنين بالحماية التي توفرها حرية التعبير تجعلهم يُعبِّرون عن معارضتهم لأي خطوة عُدوانية.
وفي الوقت الحالي، ينشر الإيرانيون تعليقاتٍ لاذعةً على وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط حول انتهاكات حقوق الإنسان، ولكن أيضًا حول تصرفات النظام الإيراني في سوريا، وهدره أموال الإيرانيين على حزب الله في لبنان.
ومن المؤكد أن تلك التعليقات والضغط على النظام الإيراني سيكونان أكثر شراسة إذا كانت مساحة التعبير السياسي أقل تقييدًا. فكُلما زاد عدد الإيرانيين الذين يمكنهم الوصول إلى المعلومات ومشاركة آرائهم، ستصبح انتهاكات الحقوق والقمع السياسي أكثر تكلفة بالنسبة للنظام.
وتُؤشِّر محاولات النظام الإيراني لتشكيل الرواية العامة – من خلال الرقابة على الإنترنت، والسيطرة على وسائل الإعلام، وبثّ الاعترافات القسرية للمعتقلين، وترهيب عائلات الصحفيين والمعارضين لإسكاتهم- على اهتمامه بالرأي العام.
من جهة أخرى، يجعل إعطاء السياسة الخارجية الأمريكية الأولوية لحقوق الإنسان في التعامل مع إيران من ذلك الملف محددًا أساسيًّا في تعاملات طهران الثنائية مع الدول الأخرى، ما يُمثِّل مصدر قلق لدى نظام الملالي، ورسالة واضحة من واشنطن بأنها تعتبر القضية مهمة بما يكفي للسعي إلى تنسيق دولي للعمل على معالجتها.
وفي هذا الإطار، يمكن للولايات المتحدة أن تستخدم المنتديات متعددة الأطراف للضغط من أجل الرقابة العالمية على انتهاكات نظام الملالي لحقوق الإنسان، سواء داخل إيران أو خارجها، وبخاصة أن ذلك النهج القمعي الإيراني أضحى منهجًا عابرًا للحدود تُنفذه طهران عبر أذرعها الخبيثة في المنطقة، التي تُمارس عمليات تهجير قسري، وقمع واغتيالات بحق المعارضين وقادة الرأي.
عدوانُ الأذرع التخريبية الإيرانية في المنطقة على حقوق المواطنة
وتعكس الممارسات الإيرانية في سوريا نموذجًا متكاملًا للقمع ونهب وسلب حقوق المواطنين، فبجانب قيام الميليشيات الإيرانية بارتكاب مجازر بحق السوريين على خلفية طائفية، فإن النظام الإيراني يستخدم استراتيجية إضافية هي اللعب في التركيبة السكانية لسوريا، حيث أقامت إيران أحياء شيعية صغيرة في دمشق من خلال منح أجانب معظمهم من اللاجئين الأفغان الجنسية السورية.
علاوةً على ذلك، لدى إيران أهداف جغرافية من وراء تلك التغييرات الديموغرافية، تتمثل في المنطقة المحيطة بمطار دمشق الدولي لتأمين طريق النقل الجوي الإيراني إلى سوريا، وكذلك المنطقة الواقعة على طول نهر الفرات بين دير الزور والبوكمال؛ لتأمين طريق إيران البري إلى سوريا، وأخيرًا منطقة الحدود السورية اللبنانية.
أما في لبنان، فتمارس جماعة حزب الله سياسات القمع الإيرانية ذاتها، ومن أبرز مظاهرها اعتداء عناصر حزب الله على المتظاهرين في بيروت خلال الصيف الماضي، حينما خرج آلاف اللبنانيين إلى الشوارع؛ احتجاجًا على الوضع الاقتصادي المُنهار للبلاد، وكذلك للدعوة إلى محاربة الفساد، والمطالبة بنزع سلاح ميليشيا حزب الله، الذي يعرقل خطة الإنقاذ السياسي والاقتصادي للبنان.
وتعمل جماعة حزب الله على تشويه وترهيب السياسيين والصحفيين وقادة الرأي؛ سعيًا لتكميم الأصوات المُناهِضة للحزب وللسياسات الإيرانية، ويبقى الوجه الأكثر دموية في انتهاج حزب الله لسياسة الاغتيالات والتصفية الجسدية.
ولا يختلف الوضع كثيرًا في اليمن، حيث ميليشيا الحوثي التي ترتكب بدعم إيراني مكشوف جرائم حرب بحق المواطنين اليمنيين المناهضين للانقلاب الحوثي، حيث تستهدف قذائف الحوثيين المناطق السكنية، وتقوم الميليشيات باختطاف الأطفال وتجنيدهم والزج بهم في المعارك، بجانب عرقلة واحتجاز ونهب المساعدات الإنسانية، وفق إجراءات ممنهجة تهدف إلى تجويع اليمنيين، وقطع إمدادات الحياة عنهم.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن النهج الشامل للأمن الذي يضع ملف القمع الإيراني على قدم المساواة مع القضايا الاستراتيجية الأخرى هو في نهاية المطاف الطريقة الوحيدة للبدء في تحقيق السلام والاستقرار والتنمية السياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط.
كما يُعدُّ منظورًا أكثر ملاءمة لمواجهة السلوكيات القمعية، سواء التي يرتكبها نظام الملالي بحق المواطنين داخل إيران، أو تنفذها الأذرع التخريبية الموالية لإيران في بعض دول المنطقة.
وأخيرًا من الضروري أن يكون الاهتمام بمصير الاتفاق النووي الإيراني والسياسة النووية لطهران نقطة انطلاق لاستراتيجية أكثر شمولًا بشأن التعامل مع ما تمثله إيران من تهديد لأمن واستقرار المنطقة، وهو ما يتطلب أن تحظى القضايا الحاسمة الأخرى – بما في ذلك حرية التعبير – بالمتابعة بنفس القوة من جانب الولايات المتحدة والغرب.