الدراسات الإعلامية

الدبلوماسية الرقمية.. من البرج العاجي إلى الجمهور العادي

ظهر مفهوم الدبلوماسية الرقمية وانتشر مع التقدّم المذهل في تكنولوجيا الاتصالات وطغيان شبكات التواصل الاجتماعي، ودورها المتزايد في كافة مجالات الحياة.

ومع تلك المتغيّرات المتسارعة، لم يكن بوسع الساسة والدبلوماسيين سوى مواكبة متطلبات العصر والاستجابة لتلك المتغيرات، فسارع الملوك والرؤساء والزعماء وكذلك الوزراء والسفراء، بل وأقطاب المعارضة، إلى إنشاء حسابات رسمية لهم على شبكات التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها موقع “تويتر” ، الذي يعد الشبكة المفضّلة للنخب السياسية والدبلوماسية.

سعت الدبلوماسية الرقمية نحو تحسين الصورة الذهنية للدولة لدى الشعوب الأخرى، وتحقيق أهداف السياسة الخارجية عبر وسائل شعبية

واستثمر الساسة والدبلوماسيون شبكات التواصل في تحقيق التواصل والتفاعل الحر والمباشر مع الجماهير من مختلف الشرائح، بل ومن مختلف الجنسيات، كما استخدموها في التواصل مع نظرائهم من الدول الأخرى ومع مختلف الجهات المعنية ومنظمات المجتمع المدني، في إطار من الحوار المتبادل والتفاعل المباشر واللحظي، الذي وفرته منصات شبكات التواصل الاجتماعي.

وسعت الدبلوماسية الرقمية نحو تحسين الصورة الذهنية للدولة لدى الشعوب الأخرى، وتحقيق أهداف السياسة الخارجية عبر وسائل شعبية، في إطار يتكامل مع الدبلوماسية التقليدية ولا يُغني عنها.

وأنزلت الدبلوماسيةُ الرقمية، كبارَ الساسة والدبلوماسيين من أبراجهم العاجية، ودفعتهم نحو التفاعل مع الجمهور العادي، والحوار مع كافة الآراء والتوجّهات.

في المقابل فقد كان للدبلوماسية الرقمية وجه آخر، يتسبّب في إشعال أزمات ومشاكل بين الدول، فكثيراً ما تتسّم الكتابة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، باللحظية والانفعالية ولا تخضع لقيود والتزامات الدبلوماسية التقليدية، ما يتسبّب في خلق الأزمات، كالأزمة التي ظهرت بين البرازيل وفرنسا في أعقاب حرائق الأمازون في أغسطس عام 2019، نتيجة التلاسن الحادّ على شبكات التواصل مع الرئيس البرازيلي ونظيره الفرنسي، وكذلك تلك الصدامات الكثيرة التي دخل فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسبب تغريداته على “تويتر” مع خصومه وحلفائه على حدّ سواء.

 بين الدبلوماسية التقليدية والرقمية

تعني الدبلوماسية بمفهومها التقليدي الأنشطة التي تقوم بها القنوات الرسمية للدول، من أجل تعزيز علاقاتها بالدول الأخرى، وبناء جسور التواصل ليس فقط مع الجهات الحكومية في تلك الدول، وإنما مع شرائح المجتمع كافة.

تهتم الدبلوماسية الرقمية بتوظيف تكنولوجيا الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي في خدمة أهداف السياسة الخارجية

إلا أنه ومع التطوّرات المتلاحقة لتكنولوجيا الاتصال والانتشار الواسع لشبكات التواصل الاجتماعي، والدور الذي بدأت تلعبه هذه الشبكات في التأثير الثقافي والفكري في حياة المجتمعات، ظهرت أشكال جديدة من الدبلوماسية، أطلق عليها “الدبلوماسية الرقمية” “Digital Diplomacy”، والتي تُعرف بأنها “توظيف تكنولوجيا الاتصال الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي، لتحقيق أهداف السياسة الخارجية وممارسة الدبلوماسية العامة للدولة”.

وهذا يعني أن الدبلوماسية الرقمية أحد أشكال الدبلوماسية العامة، التي تُعرف بأنها “تلك النشاطات التي تتجه إلى مخاطبة الجماهير بوسائل شعبية، لإيجاد علاقات مباشرة بين الشعوب وكسب تأييدها”. فتعتبر الدبلوماسية الرقمية امتداداً للدبلوماسية بمفهومها التقليدي، حيث أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تمثل إلا مجرد وسيلة جديدة لنقل المعلومات.

يقول الكاتب “نيكولاس ويستكون” في كتابه (الدبلوماسية الرقمية: تأثير الإنترنت على العلاقات الدولية)، إن “الذين يُقلّلون من أهمية الدبلوماسية الرقمية ويعتقدون أنه لا يزال بإمكانهم أداء مهامّهم الدبلوماسية بالأسلوب التقليدي وحدَه، سوف يخسرون حتماً لصالح الذين يؤمنون بالمتغيرات الجديدة ويضعونها موضع التنفيذ”.

وبطبيعة الحال فإن الدبلوماسية الرقمية لا تُعتبر بديلاً عن الدبلوماسية التقليدية، ولكنها تساعدها وتعزّزها وبشكل خاص في مجال العلاقات الشعبية، عبر توفير وسائل جديدة تُساعد في تحقيق الأهداف العليا لدبلوماسية الدولة، فالتسارع الكبير الذي يشهده العالم الرقمي الآن، خاصة مع تزايد الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبح يستخدمها أكثر من 3 مليارات من البشر، نظراً لأنها وسائل إعلامية سهلة الوصول ومنخفضة التكاليف، جعل منها أداةً فاعلة في العمل الدبلوماسي وتوجيه السياسات وتحقيق الأهداف ورسم الصور الذهنية، من أجل التأثير في الجماهير وإقناعهم بالرؤية الرسمية للدولة.

الدبلوماسية الرقمية لا تعتبر بديلاً عن الدبلوماسية التقليدية، ولكنها تساعدها وتعززها وبشكل خاص في مجال العلاقات الشعبية

 أهمية الدبلوماسية الرقمية:

نظراً لأهمية الدبلوماسية الرقمية وما توفّره من مميزات نوعية، أصبحت أغلب دول العالم تمتلك حسابات وصفحات رسمية لمؤسساتها وقادتها والمسئولين فيها على وسائل التواصل الاجتماعي، لتقوم بمهام تمثيل الدولة والتصريح عنها ونقل مواقفها الرسمية.

ويُعدّ موقع “تويتر” الأكثر إقبالاً من قِبل رؤساء وقادة العالم، فهو يوصف بالمنصة النخبوية نظراً لأنه أكثر جذباً للسياسيين والمثقفين.

وبذلك لم تَعُد وسائل التواصل الاجتماعي تقتصر على كونها وسيلة للحديث وتبادل الآراء والترفيه بين المتابعين، بل تخطّت هذا لتصبح منصة هامة للأوساط السياسية والدبلوماسية، وصلت حدّ الإعلان عن المواقف والقرارات الرسمية عبرَها من قِبل القادة والزعماء والمسئولين. وعلى سبيل المثال بلغت حسابات وزارة الخارجية الأمريكية على “تويتر” أكثر من (300) حساب، يتم التغريد من خلالها بـ (11) لغة مختلفة. فضلاً عن (400) صفحة على ال”فيسبوك” تقريباً، في حين وصل عدد الدبلوماسيين الأمريكيين الذين يستخدمون الدبلوماسية الرقمية حوالي (1000) دبلوماسي.

يعتبر “تويتر” الأكثر إقبالاً من قِبل رؤساء وقادة العالم، فهو يوصف بالمنصة النخبوية نظراً لأنه أكثر جذباً للسياسيين والمثقفين

وفي سبتمبر عام 2017 احتفلت الدنمارك بتعيين أول سفير لها في “الجمهوريات الافتراضية”، حيث تم تعيين السفير “كاسبر كلينج” كأول سفير “تكنوبلوماسي” لها في وادي السيليكون “Silicon Valley” بسان فرانسيسكو، كون هذه المنطقة قد ارتبط اسمُها بالتطوير والاختراعات الجديدة في مجال التكنولوجيا المتطوّرة والتقنيات العالية.

عيّنت الدنمارك السفير “كاسبر كلينج” أولَ سفير “تكنوبلوماسي” لها في وادي السيليكون “Silicon Valley” بسان فرانسيسكو

وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مقابلة أجرتها معه صحيفة الفايننشال تايمز “لولا التغريدات لم أكن هنا”، حيث أن ترامب يُعدّ أحدَ أبرز الرؤساء استخداماً لمواقع التواصل الاجتماعي، ويحظى بمتابعة كبيرة على موقع “تويتر” بلغت (63.6) مليون متابعاً، كما أنه اعتمد على موقع “تويتر” بشكل أساسي في إدارة حملته الانتخابية الرئاسية، وعندما تولى منصب الرئاسة الأمريكية أثارت تغريداته جدلاً واسعاً، وصل إلى درجة الأزمات الدبلوماسية مع بعض الدول، كما هاجم عبر هذه المنصة خصومه السياسيين، مما عرّضه للكثير من النقد، حتى إنه اتُّهم بالعنصرية عندما طالب نائبتين ديمقراطيتين بالعودة إلى وطنهما الأصلي، وذلك على خلفية الخلاف السياسي بينهم.

من جانبه أطلق وزير الخارجية البريطاني السابق وليام هيغ عبر حسابه الشخصي على “تويتر”، مبادرة تسمى “تعرّف على وزير الخارجية”، قال فيها إن هذه المبادرة تدعو المتابعين له بالتغريد إليه بأفكارهم حول القضايا التي يعتقدون أنها يجب أن تكون ضمن أولويات وزارة الخارجية البريطانية خلال السنوات المقبلة، ووعدهم بقراءة المشاركات المختلفة وإمكانية مقابلته.

وقد انضم مئات الأشخاص وغردوا بشكل ضخم معبّرين عن آرائهم، وعرضوا كيف يمكن أن تُوفر وسائل التواصل الاجتماعي منصة للجمهور للمشاركة في المحادثات حول السياسة الخارجية. وكانت هذه المبادرة إثباتاً لقناعة وزير الخارجية البريطاني بأهمية مشاركة المواطنين في المجال السياسي والدبلوماسي وحدوث التفاعل المتبادل معهم.

ينشر الرئيس الأمريكي ترامب تغريدات يومية تسمح لأتباعه بمعرفة مع من سيجتمع اليوم وما الذي ستتم مناقشته

بدوره خصّص حساب الحكومة الهولندية على “تويتر” فترة زمنية يومية، تمتد من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساءً، للإجابة على الأسئلة التي يطرحها المتابعون.

ويقوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنشر تغريدات يومية تسمح لأتباعه بمعرفة مع من سيجتمع اليوم وما الذي ستتم مناقشته. وقد أظهرت الأبحاث أن الرسائل الشخصية كهذه لها تأثيرات إيجابية.

تجدر الإشارة إلى أن موقع “تويبلوماسي” المتخصص في إعداد دراسات عن حسابات الزعماء والرؤساء ومدى تفاعلهم على مواقع التواصل الاجتماعي، قال إن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما كان أولَ زعيم في العالم يعتمد على موقع “تويتر” لأغراض سياسية، وليس بهدف التواصل الاجتماعي، حينما كان سيناتوراً في ولاية إلينوي عام 2007.

 مميزات الدبلوماسية الرقمية:

جعلت الابتكاراتُ في العصر الرقمي القيامَ بالعملية الدبلوماسية أسهل، فحوّلت مواقعُ وسائل التواصل الاجتماعي مثل Twitter و Facebook الاتصالاتِ من كونها “مونولوج” لتصبح حواراً، مما سمح للمسئولين الحكوميين أن يكونوا قادرين على الانخراط في محادثات ثنائية مع المواطنين.

فمن أهم ما يُميّز الدبلوماسية الرقمية، أن لديها القدرة على تعزيز التواصل التفاعلي ثنائي الاتجاه، ويقول سفير هولندا لدى الولايات المتحدة الأمريكية “رودولف بيكينك” في هذا الشأن، إن الساحة الرقمية أتاحت إمكانية التحوّل من المحادثات الفردية إلى الحوار مع المجتمعات.

أهم ما يميّز الدبلوماسية الرقمية قدرتها على تعزيز التواصل التفاعلي ثنائي الاتجاه

فتستطيع الدولة من خلال مؤسساتها الحكومية والمسئولين الرسميين والقادة، التواصل والتفاعل مع الجمهور الداخلي والخارجي بشكل مباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وإحداث التأثير المتبادل، وذلك عبر نقل توجهات الدولة فيما يتعلق بالقضايا المختلفة، والعمل على تشكيل الصورة الذهنية للدولة لدى الجماهير، كما مكّنت وسائل التواصل الاجتماعي المسئولين من رصد ومتابعة وتحليل رجع الصدى “Feedback”، أو ردود فعل الجماهير على الرسائل التي يوجهونها إليهم والمواقف التي تتخذها الدولة من خلال مراجعة تعليقاتهم على هذه الرسائل، وبالتالي معرفة توجّهات الرأي العام حول ما تتخذه الدولة من مواقف.

وسمحت وسائل التواصل الاجتماعي مثل “تويتر” و”فيسبوك” للدبلوماسيين بالظهور بشكل شخصي أمام الجمهور، مما يُولد شعوراً لدى الجماهير بالثقة والشفافية تجاه المسئول، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على صورته، فيزداد نفوذه وقوة تأثيره في نهاية المطاف.

مكّنت وسائل التواصل الاجتماعي المسئولين من رصد ومتابعة وتحليل رجع الصدى Feedback” أو ردود فعل الجماهير على المواقف التي تتخذها الدولة

كما أحدثت عملية “الرقمنة” نوعاً جديداً من الشبكات المعروفة باسم “Twiplomacy”، والتي تُشير إلى الطريقة التي يشكل بها الأفراد في العصر الحديث العلاقات ببساطة عن طريق “متابعة” بعضهم البعض على تويتر.

فأتاحت وسائل التواصل الاجتماعي للدبلوماسيين والسياسيين والقادة سهولة تمديد وتوسيع شبكاتهم الدبلوماسية، وبناء علاقات استراتيجية عبر الدبلوماسية الرقمية، سواء مع نظرائهم في الدول الأخرى أو منظمات المجتمع المدني، فضلاً عن الفاعلين الشعبيين والمواطنين عامة، فأتاحت الدبلوماسية الرقمية للجهات الفاعلة غير الحكومية الفرصة لتصبح أكثر قيمة من ذي قبل، وهو ما خلق حوافز جديدة للدبلوماسيين للتحرّر من شبكاتهم التقليدية والتي كانت محصورة في النخب.

ومع كل المميزات التي توفرها الدبلوماسية الرقمية، فإنها تُعد وسيلة منخفضة التكلفة لا تُحمّل ميزانية الدولة أموالاً ضخمة من أجل تحقيق أهدافها وإتمام عملية التفاعل الدبلوماسي، فلم يعد الدبلوماسيون بحاجة للسفر إلى بلد بعيد من أجل عقد اجتماع، حيث سمحت تقنيات الاتصالات مثل “Skype” و “Facetime” للأشخاص بالتواصل عن بُعد، والقدرة على مناقشة القضايا كما لو كانوا في نفس الغرفة.

 

مخاطر الدبلوماسية الرقمية:

بالرغم من المميزات العديدة التي توفّرها الدبلوماسية الرقمية في تحقيق أهداف الدولة وإحداث التأثير والإقناع، إلا أنها ما زالت تُمثل مصدر قلق وتخوّف عند بعض الدبلوماسيين، وذلك لعدة أسباب، منها:

  • وجود بعض الكوادر الدبلوماسية والسياسية ليسوا بالكفاءة المطلوبة في مجال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، أو تنقصهم الخبرة والمعرفة الكافية حول استخدام تقنيات الاتصال الحديث.
  • بعض مميزات الدبلوماسية الرقمية لا تتحقق أثناء الممارسة الفعلية على أرض الواقع. فعلى سبيل المثال، رغم أن مواقع التواصل الاجتماعي توفر للمسئولين الحكوميين القدرة على توسيع نفوذهم من خلال التفاعلات الشخصية وتحقيق الشفافية، لا يستغل بعضُ المسئولين هذه الفرصة.
  • من التحديات التي تواجه الدبلوماسية الرقمية ما يتعلق بالأمن السيبراني، فعلى الرغم من أن الانتشار السريع للمعلومات غالباً ما يكون ميزة للدبلوماسية الرقمية، إلا أنها قد تتحول إلى مشكلة كبيرة، خاصة مع إمكانية تعرّض حسابات المسئولين للاختراق وتسريب المعلومات، ويُعدّ المثال الأكثر شهرة على ذلك هو الملفات التي حصل عليه موقع “WikiLeaks” وعرضها علناً، وكانت تتعلق بملفات السياسة الخارجية الخاصة، التي تمت مشاركتها بين الولايات المتحدة وسفاراتها بالخارج، وتمكن العالم بأسره من الوصول إلى التقييمات الصريحة التي تم إجراؤها من قبل الدبلوماسيين الأمريكيين حول قادة العالم الآخرين والبلدان المضيفة لهم.

من أكبر مخاطر الدبلوماسية الرقمية إمكانية تعرّض حسابات المسئولين للاختراق وتسريب المعلومات

  • الكتابة الانفعالية على وسائل التواصل الاجتماعي

من سِمات الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي اقترانها باللحظية والانفعالية عند بعض المستخدمين، حيث لا يستطيعون التحكم في انفعالاتهم، فعندما تُستثار مشاعرهم نتيجة تعرّضهم لموقفٍ ما أو قراءتهم لمنشور معين على هذه الوسائل، يُسارعون بالردّ الفوري الذي يكون في الغالب متأثراً بالحالة المزاجية والانفعالية، مما قد يتسبب في حدوث مشاكل تختلف في طبيعتها ودرجة حدّتها.

هذا الوضع يُصبح أكثرَ خطورة عندما يتعلق الأمر بأحد المسئولين أو القادة الذين من المفترض أن تكون لديهم الحِكمة والقدرة على ضبط النفس. وبالرغم من ذلك فقد شهدت وسائل التواصل الاجتماعي خلال الفترة الأخيرة عدداً من المشاحنات والمعارك بين قادة دول وسياسيين، ومن أمثلة ذلك ما حدث بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، عندما قام خامنئي بنشر صورة له عبر حسابه الرسمي بموقع الصور “انستجرام” وهو يُطالع كتاب “النار والغضب” الذي يُسيء لترامب، الأمر الذي أثار غضب الرئيس الأمريكي، وبشكل انفعالي توعّد بالردّ القريب على هذه الفعلة.

وفي موقف آخر لدونالد ترامب ولكن هذه المرة على موقع تويتر، وعلى خلفية التوتر في العلاقات الأمريكية الكورية الشمالية، توعّد زعيمُ كوريا الشمالية بردٍّ لا رحمة فيه على أي استفزاز أمريكي، مهدداً بأنه يمتلك الزرَّ النووي في مكتبه، ومن جانبه غرّد الرئيس الأمريكي قائلاً “إن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون قال لتوه إن الزر النووي موجود على مكتبه دوماً، هلا يبلغه أحد في نظامه المتهالك والمتضوّر جوعاً بأنني أنا أيضاً لدي زر نووي، ولكنه أكبر وأقوى من زره، وبأن زري يعمل”.

كما تبادل دونالد ترامب ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف التراشق الكلامي على موقع تويتر، حيث قال ترامب “إن إيران تلعب بالنار، إنهم لا يقدرون كم كان الرئيس أوباما طيباً معهم، أنا لست هكذا”. وجاء رد وزير الخارجية الإيراني بتغريدة قال فيها “إيران لا تعبأ بالتهديدات لأننا نستمد الأمن من شعبنا، لن نبادر بالحرب لكن يمكننا دوماً الاعتماد على وسائلنا في الدفاع”.

تبادل دونالد ترامب التراشق الكلامي على تويتر، مع زعيم كوريا الشمالية ووزير الخارجية الإيراني وكذلك مع بعض المسئولين في بلاده

وشهد موقع “تويتر” مشادة كلامية أخرى بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عندما وصف أحد حلفائه السابقين السيناتور الجمهوري بوب كروكر بأنه يفتقر إلى الشجاعة، وردّ عليه كروكر قائلاً إن البيت الأبيض تحول إلى دار لرعاية البالغين. فشنّ الرئيس الأمريكي هجوماً عنيفاً ضد السيناتور الجمهوري عبر سلسلة متتابعة من التغريدات.

ومؤخراً شهد موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” سجالاً عنيفاً وصل حد التطاول بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره البرازيلي جايير بولسونارو. بدأ الخلاف عندما نشر أحد مؤيدي بولسونارو عبر موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” منشوراً يسخر فيه من بريجيت ماكرون زوجة الرئيس الفرنسي، وقارنها بشكل غير لائق بزوجة الرئيس البرازيلي ميشيل بولسونارو، وكتب مؤيد الرئيس البرازيلي على المنشور المصحوب بصور للرئيسين برفقة زوجتيهما “هل تفهمون الآن لماذا يضطهد ماكرون بولسونارو.. إنها الغيرة”، فردّ الحساب الرسمي للرئيس البرازيلي على المنشور ضاحكاً بعبارة “لا تُهِن الرجل”.

وعلق الرئيس ماكرون على الواقعة واصفاً تصرُّفَ نظيره البرازيلي بـ”الوقح للغاية”، لتنتقل المعركة بعد ذلك بين الرئيسين إلى المجال السياسي.

  • عدم التوفيق في الكتابة:

أظهرت بعض الدراسات المتخصصة في مجال تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، أنه ليس من الضروري أن يعكس عددُ المتابعين الضخم لمسئولٍ ما على حسابه الشخصي في “تويتر” قدرته على التأثير، وأوضحت أنه يوجد عدد من السفراء لهم تأثير أكبر بالرغم من أن عدد متابعيهم أقلّ من نظرائهم.

وأرجعت سببَ ذلك إلى أن كيفية التغريد تلعب دوراً هاماً في إحداث التأثير، مستشهدةً بوزير الخارجية السويدي “كارل بيلدت”، الذي اتهمته بأنه ارتكب خطأً إعلامياً عندما نشر تغريدةً كتب فيها “أغادر ستوكهولم متوجهاً إلى دافوس. نتطلع إلى عشاء برنامج الغذاء العالمي الليلة. الجوع العالمي مشكلة ملحة!”. وقال متابعوه إن لديه مشكلة في الصياغة، مما أضرّ بصورته بدلاً من تعزيزها.

مثال آخر على عدم التوفيق في كتابة التغريدة أو التصريح، عندما غرّد السفير الفرنسي في الولايات المتحدة الأمريكية قائلاً “إن العالم يقترب من نهايته عندما تم انتخاب دونالد ترامب رئيساً.. عار على أولئك الذين صوّتوا له في الولايات المتحدة”. واعتُبرت هذه التغريدة مثيرةً للجدل للغاية.

السفير الفرنسي بواشنطن غرّد عقب انتخاب ترامب قائلاً: “العالم يقترب من نهايته.. عار على أولئك الذين صوّتوا له في الولايات المتحدة”

من أجل تجاوز هذه المشكلة، اتجه بعض المسئولين الحكوميين للالتحاق بدورات تدريبية في مجال وسائل التواصل الاجتماعي، فيما قام البعض الآخر بتعيين خبراء في الاتصالات لتشغيل حسابات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم، تكون مهمّتهم نشر الآراء السياسية الخاصة بالمسئولين بأفضل طريقة ممكنة.

 

الخلاصة:

كانت أساليب الدبلوماسية التقليدية تعتمد بشكل صارم على التفاعلات بين المسئولين الحكوميين، وعلى الرغم من أن الدبلوماسية العامة سعت لتغيير هذا النهج، إلا أن التفاعل ظلّ من جانب واحد، بينما فتح تطوُّرُ وسائل التواصل الاجتماعي وظهور الدبلوماسية الرقمية، المجالَ أمام المسئولين الحكوميين للحوار والتفاعل ثنائي الاتجاه مع الجمهور بشكل مباشر، وهو ما حقّق منفعةً متبادلة بين الطرفين، فمِن جانب تستطيع الحكومة إيصالَ رسائلها إلى الجمهور والسعي لإقناعه بها، ومن جانب آخر يستطيع الجمهور التعبير عن رأيه ونقلَ وجهة نظره للجانب الرسمي الذي يتكوّن لديه تصوّر واضحٌ وفهمٌ أفضل للرأي العام حول بعض القضايا.

إلا أن هذا لا يعني أن الدبلوماسية الرقمية أصبحت بديلاً للدبلوماسية التقليدية، وإنما امتداداً لها، حيث وفرت الأولى وسائلَ جديدة للمساعدة في إتمام عملية التواصل بشكل أكبر وأسهل، فالأساليب التقليدية للدبلوماسية لا تزال مهمة، ولن تحلّ التكنولوجيا محلَّ الخبرة المكتسبة.. وحتى الآن لا يوجد يقين حول طبيعة المستقبل الذي ستخلقه الدبلوماسية الرقمية في مجال العلاقات الدولية خلال السنوات المقبلة، ولكن اليقين يتعلق بأن الدبلوماسية التقليدية ستبقى جزءاً مهماً في إدارة الشأن الدولي.

ومن الضروري أن تخضع الدبلوماسية الرقمية للقنوات السياسية والدبلوماسية الرسمية، وألا يتم استخدامُها كوسيلةٍ شخصية، وذلك لضمان قيامها بدورها الفعّال، وألا تتمّ عملية التواصل مع الجمهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل شخصي أو ارتجالي، وإنما وفق أسس علمية مدروسة وعلى دراية تامة بطبيعة الجمهور الذي ستُقدَّم إليه الرسالة والتوقيت المناسب لها، حتى يضمن المسئولُ تحقيقَ أكبر قدر من المكاسب والفائدة المرجوّة، وهو ما يُحتّم إخضاع المسئولين والسياسيين والكوادر الدبلوماسية، لدورات تدريبية متخصصة ونوعية في هذا المجال.

زر الذهاب إلى الأعلى