يمثل الإعلام الجديد، إحدى الإشكاليات الكبرى للأمن المعاصر، وذلك من خلال ما تبثه مواقع التواصل الاجتماعي التابعة لجهات إرهابية من أفكار ضالة ومضللة، وشائعات مغرضة، وأخبار كاذبة وحاقدة، مما شكل قلقاً دولياً تعاني منه أغلب دول العالم وشعوب الأرض.
وتنبع خطورة الأفكار من كونها صانعةَ الفعل، ويمكن من خلالها تجنيدُ وتغيير فكر الكثير من الشباب نحو التطرّف والانحراف.
الحرب العالمية الرابعة تتمثل في حروب الإعلام، خاصة في ظل انتشار وسطوة وسائل الإعلام الجديد
وإذا اعتبرنا الحربين العالميتين الأولى والثانية، حَرْبَيْ أسلحة وذخائر، ثم الحربَ الباردة وسباقَ غزوِ الفضاء حرباً عالمية ثالثة، فإن الحرب العالمية الرابعة تتمثل في حروب الإعلام، خاصة في ظل انتشار وسطوة وسائل الإعلام الجديد.
ولقد نجحت التنظيمات الإرهابية في توظيفها للإعلام الجديد بكل ما يحويه من أشكال التواصل في العالم الرقمي، وأشكال التواصل الإلكتروني المختلفة، والتي أصبحت ممكنة من خلال استخدام تقنيات الحاسب الآلي، في نشر استراتيجيتها متعدّدة الأهداف، من الاستقطاب والإقناع، إلى التهيئة والإعداد والتجنيد والتدريب والتمويل والتجهيز، والتجسير والتفخيخ والتفجير، ومن ثم الإمعان في القتل بأساليب إجرامية موغلة في الإجرام والتشفي.
تستثمر تنظيمات الإرهاب تقنيات الإعلام بمهارة فائقة، في تمدّد الإرهاب والدعاية له بصور بشعة
وتَستثمر تنظيماتُ الإرهاب تقنياتِ الإعلام بمهارة فائقة، وتُجري عليها بعضَ التعديلات الفنية، التي تجعلها أكثرَ أداءً وفاعلية وتأثيراً في تمدّد الإرهاب والدعاية له بصور بشعة يتم اجتزاؤها بعناية، لبثّ الخوف بقصدٍ أو من غير قصد، وإشاعة الذعر والهلع في نفوس الناس.
وقد ذكرت شبكة فيسبوك العالمية، أن مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي كوسيلة للتواصل في نقل الأحداث والنشر والإعلام والتسويق، أصبح عددُهم بالمليارات من البشر على مستوى العالم، وأن الشباب هم الأكثر حضوراً وتفاعلاً في العالم الافتراضي، حيث يتواصلون وينشرون الأخبار بالمحتوى المكتوب أو بالصورة أو الفيديوهات، ويتبادلون كلَّ ما يدور في حياتهم الشخصية بسهولة، بالإضافة إلى إنشاء المدونات وإجراء المحادثات الفورية التي تتيح التواصل مع الأصدقاء والزملاء، وتقوِّي الروابط بين أعضائها في هذا العالم الإلكتروني الافتراضي، وهذا ما استغلته «المنظمات الإرهابية»، لتطلّ علينا بوجهها الأسود وبأفعالها الإجرامية، لتستهدف شباب العالم ببثّ سمومها المتطرّفة وأفكارها الهدامة.
الإنترنت وزيادة معدّلات الإرهاب
سمحت ثورةُ الإنترنت للجماعات الإرهابية بإخفاء عملياتها بطرق جديدة، أكثر تعقيداً عن سابقتها التقليدية
من خلال الإعلام الجديد بات من السهل أن يتطرّف الشاب وينضم للجماعات الإرهابية، وهو في أي مكان بعيداً عن أهله ومعارفه، فيمكن له ذلك وهو في غرفة نومه، أو من خلال هاتفه الجوال، الأمر الذي تسبب في انتشار الفكر المنحرف المتشدّد والفتاوى الضالة، وزيادة الأعمال الإرهابية والغلو والتكفير. فيكفي أن نعرف أن 80% من الذين انتسبوا إلى تنظيم داعش تم تجنيدُهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لذا فمن المستبعد أن تتخلى المنظمات الإرهابية مثل “داعش” عن استخدام وسائل الإعلام الجديد، بل ستتوسّع ترسانة هذه الجماعات حتماً في الفضاء السيبراني (الإلكتروني)، حيث لا تحتاج عناصرها – في هذا الفضاء – إلى التسلل، ولا تحتاج إلى تحويل الأسلحة من دولة إلى أخرى.
وقد سمحت ثورةُ الإنترنت للجماعات الإرهابية بإخفاء عملياتها بطرق جديدة، أكثر تعقيداً عن سابقتها التقليدية.
فالجماعات الإرهابية أصبحت تدرك أهمية الإنترنت، من خلال ما يوفّره من خدمات موثوق بها، وشروطٍ ميسرة، وهُويّاتٍ افتراضية. وقد استغل تنظيم “داعش” الإنترنت في بث عمليات الإعدام التي كان يقوم بتنفيذها في الأسرى، وذلك لبثّ الرعب والفزع في نفوس أهالي المناطق التي كان يرغب في السيطرة عليها، وهو ما تحقق جزئياً في هروب واستسلام مدن وقرى لـ”داعش”، خوفاً من تعرّضهم لمصير مَن قبلَهم. كذلك استغل التنظيم تجنيدَ العديد من الشباب حول العالم، حيث بلغ عددُ البلدان التي انضم منها أفراد إلى تنظيم “داعش”، نحو 70 دولة.
وتمتلك الجماعات الإرهابية تقنياتٍ عاليةً وحِرَفيةً في نشر أفكارها، عبر طرق جذابة ومبهرة للشباب في كافة أنحاء العالم، وقد ظهر ذلك جلياً في ما بثه الإرهابيون من مقاطع فيديوهات أبهرت المتلقّي في الإخراج والتصوير بتقنيات عالية، كما في حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، ونحر الضحايا المصريين في ليبيا وقطع رقابهم وكأنها أفلام سينمائية، إضافة إلى ملابسهم السوداء والإكسسوارات والأسلحة، وتوظيف كلّ ذلك كعواملَ لإقناع الشباب بأنهم مصدرُ قوة، معتمدين على أن اللقطة المصوَّرةَ الواحدة في الإعلام، تُغني عن ألف كلمة، ويدركون أنها خيرُ وسيلة للتأثير على الشباب، وتعتمد الجماعات الإرهابية على دراسات نفسية وسيكولوجية للشباب، ودراسة حالاتهم الاجتماعية، ومخاطبة مَن يريد تحقيقَ أحلامه وطموحاته، فيتخيّل أن ما يقوم به الإرهابي من قتل ودمار هي أعمال إنسانية، وجهادٌ، وتميّز، وكثير من جرائم الشباب ارتُكِبت لتحقيق الشهرة والقيادة بين زملائه وأقرانه.
فيسبوك وتويتر الأكثر ترويجاً للإرهاب
وعلى صعيد تجنيد أتباع جُدد ونشر الأفكار والمعتقدات، يُعتبر «فيسبوك» من أكثر وسائل التواصل الاجتماعي استخداماً في تجنيد المتطرفين، وغالباً ما تقوم الجماعات الإرهابية بإنشاء «مجموعة» على «فيسبوك» لاجتذاب المتوافقين فكرياً معها، وكذلك يعتبر «تويتر» أحدَ أهم وسائل التواصل الاجتماعي التي تُستخدم للتفاعل والتنسيق أثناء العمليات الإرهابية، وتكمن الميزة الأساسية في «تويتر» بالنسبة إلى الجماعات الإرهابية، في أنه يوفر مجتمعاتٍ افتراضيةً متغيرة، تتكون بصورة تلقائية خلال الأحداث الكبرى، وهو ما تستفيد منه تلك الجماعات، من خلال متابعة أحدث المعلومات عن أي قضية تَظهر في المجال العام.
أوجه استفادة الإرهاب من شبكة الإنترنت
تقدم شبكة الإنترنت وفضاؤها الإلكتروني، خدماتٍ قصوى للجماعات الإرهابية، والتي كان من المستحيل أن تحققها قبل ظهور هذه الشبكة في الوجود، ومن أهم تلك الخدمات كما ذكرها عدد من المتخصصين ما يلي:
استطاعت الجماعات الإرهابية تبادل المعارف بطرق جديدة ومبتكرة، فوصفات المتفجرات متوفرة بسهولة على شبكة الإنترنت
1 – التنقيب عن المعلومات، حيث أن شبكة الإنترنت عبارة عن مكتبة هائلة ومليئة بالمعلومات الحساسة والخطيرة، وتوظيفها لهذه المعلومات في تحقيق أهدافها وغاياتها الإرهابية.
2 – الاتصالات، حيث تساعد الشبكة الإلكترونية على الاتصالات بين أعضاء الخلية الإرهابية بعضهم ببعض والتنسيق فيما بينهم، ويرجع ذلك لقلة تكاليف الاتصالات مقارنة بالوسائل الأخرى، كما تمتاز بوفرة المعلومات التي يمكن تبادلها بالصوت والصورة، أضف لذلك السرية والخصوصية الكبيرة التي من الممكن تفعيلها بسهولة.
3 – التعبئة وتجنيد إرهابيين جدد، وهذا الأمر يحافظ على استمرار الخلية وبقائها، وهم يستغلون تعاطف الآخرين من مستخدمي الإنترنت مع قضاياهم، ويجتذبون الصغار بعبارات حماسية مثيرة خاصة من خلال غرف الدردشة الإلكترونية.
4 – إعطاء التعليمات والتلقين الإلكتروني، وذلك بواسطة مواد مرئية ومسموعة تشرح وببساطة طرق صنع القنابل والأسلحة الكيماوية وغيرها.
5 – التخطيط والتنسيق، حيث تعد شبكة الإنترنت وسيلة اتصال بالغة الأهمية بالنسبة للمنظمات والخلايا الإرهابية، إذ تتيح التنسيقَ لشنِّ هجماتٍ إرهابية، ويستخدم أرباب الإرهاب emails و chat rooms لتدبير الهجمات الإرهابية وتوزيع الأدوار وتنسيق الأعمال والمهامّ لكل عضو في الخلية.
6 – الحصول على التمويل، حيث أن أرباب الإرهاب يحصلون من الإنترنت على قوائم إحصائية سكانية للتعرّف على الجمعيات الخيرية والأشخاص ذوي القلوب الرحيمة، ومن ثم يستجدوهم لدفع تبرعات وصدقات وزكوات لأشخاص اعتباريين أو مؤسسات خيرية تمثّل واجهةً لهؤلاء الإرهابيين، وذلك بطرق لا يشك فيها المتبرع مطلقاً، بأنه يساعد إحدى المنظمات الإرهابية.
7 – مهاجمة المنظمات الإرهابية الأخرى، حيث أن الإنترنت حلبة مصارعة بين المنظمات وبين الخلايا وحتى أعضاء الخلية الواحدة، وتمتلئ المواقع الإلكترونية بالسباب والشتائم واللعان بل والتكفير بينهم.
8 – استطاعت الجماعاتُ الإرهابية استخدامَ الإنترنت في التواصل مع بعضها البعض عبر القارات، وهو ما كان يستغرق شهوراً في الماضي. ليس هذا فحسب، بل استطاعت الجماعات الإرهابية تبادلَ المعارف بطرق جديدة ومبتكرة. فوصفات المتفجرات متوفّرة بسهولة على شبكة الإنترنت، وكذلك طرق تجهيز العبوات الناسفة التي كان يتم استخدامُها في مناطق الصراع من العراق إلى أفغانستان. وبذلك يكون الإنترنت قد وفّرَ لهذه الجماعات مساحاتٍ افتراضيةً للتدريب، بعيداً عن خطر قصف الطائرات بدون طيار.
9 – تستخدم الجماعات الإرهابية مواقعَ التواصل الاجتماعي كأداةٍ لتحديد أهدافها والتعرّف عليها ومراقبة تحركاتها، خاصة في إطار عمليات الاغتيالات التي تطال بعضَ رموز الأجهزة الأمنية أو السياسية في الدول المستهدفة، وذلك إما بمراقبة مَن يمتلك حسابات على تلك المواقع، أو مراقبة دائرة أصدقائهم ومعارفهم للوصول إليهم، وجمع البيانات اللازمة عن تحركاتهم، وتوفير الوقت والجهد اللازمين للقيام بذلك على أرض الواقع، وأيضاً لضمان سرية المراقبة.
10 – تُعدّ وسائل التواصل الاجتماعي مهمةً لتلك الجماعات، في إطار ما أسماه البعض «شبكات الكوادر»، التي تُعدّ أحدَ أساليب استخدامها كمساحاتٍ افتراضية مغلقة، تعمل على التواصل بين كوادر التنظيم المسلّح، كأداة عابرة لقيود المكان، وذلك من أجل مهامّ عدة، منها التدريب على تكوين خلايا تنظيمية، واستقطاب مزيدٍ من الكوادر وتدريبهم على استخدام الأسلحة، والتنسيق للعمليات المسلحة وتوقيتها، والتدريب على صنع القنابل البدائية.
المواجهة والرّدع
أمام هذا الخطر الداهم من استغلال الجماعات الإرهابية للإنترنت والفضاء الإلكتروني، يتحتم على الجميع دون استثناء، البحثُ عن أساليبَ عمليةٍ وناجعة، للحدّ من هذه الخطورة التي تزداد يوماً بعد يوم.
ضرورة استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في دحض الأفكار الإرهابية، من خلال الترويج للفكر الوسطي المعتدل وبيان ضلال هذه الأفكار
ومن أساليب مواجهة هذا الخطر وردعه لحماية المجتمع الإنساني من شروره، استخدام نفس الوسيلة وهي شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، في دحض الأفكار الإرهابية، من خلال الترويج للفكر الوسطي المعتدل، وبيان ضلال هذه الأفكار، وإيضاح أنها ليست من صحيح الدّين، بالإضافة للدور الأمني في هذا الإطار، من خلال تَتبُّع هذه المواقع ورصد ما يدور فيها، والتنسيق مع المجتمع الدولي لضبط العناصر التي تقوم بنشر الفكر الإرهابي، كلّ ذلك من خلال فريق مدرب ومؤهل يتمتع ببعض المهارات الاتصالية ومزوّد بالمعرفة في مجال دراسة السلوكيات، وحالات انفصام الشخصية وكيفية التعامل معها، وأنواع التصرّفات العنيفة والسيطرة على الغضب، للتعامل بشكل مباشر مع مواقع التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة، وتتضمن هذه الآلية استخدامَ ذاتِ الأسلوب الذى يستخدمه الإرهابي، من خلال نشر إعلام مضاد من محاضرات وفتاوى وأناشيد، تضمن بيان عدم صحة ادعاءاتهم، من خلال أئمة وعلماء ومختصين، ولابد من التكامل بين محتوى برامج التوعية واستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة، التي تشكل عاملاً مؤثراً في تحقيق برامج التوعية لأهدافها المرجوّة.
ولا يخفى على أحد كذلك أهمية تكاتف مختلف الجهات من مجتمع مدني وجامعات وأندية وهيئات دينية وثقافية وقطاع خاص وإعلام، إلى جانب دور الدولة، في تحصين الشباب من التطرّف والاستجابة لمحاولات تجنيدهم في صفوف المنظمات الإرهابية، واهتمامها ببرامج وأنشطة نشر ثقافة الحوار واحترام وقبول الآخر، وحوار الحضارات والتعايش السلمي مع بني البشر كافة دون استثناء، ونبذ ممارسات الإقصاء والتهميش ضد أي مجموعة عرقیة أو اجتماعية، ونشر ثقافة إنماء الحس الوطني والوحدة الوطنیة لدى المواطن.