اكتسب مفهوم “انهيار السياق-context collapse” رواجًا كبيرًا وهو جزء من نظرية تواصل تستند بدورها إلى تصور محدد للعالم الاجتماعي، وتمثل تسطيحًا لجماهير متعددة ومتميزة في الشبكة الاجتماعية، بحيث يصبح الأشخاص من سياقات مختلفة جزءًا من مجموعة واحدة من متلقي الرسائل.
ويُنظر إلى هذا عمومًا على أنه مشكلة، تُشوّه الافتراضات “العادية” حول التواصل، وتتطلب الحذر واستراتيجيات للإصلاح، فهذه المشكلة ناتجة عن السمات المحددة -الإمكانيات والقيود- للتواصل عبر الشبكات الاجتماعية، والتي تُعقد تقنيتها استعاراتنا عن المكان والزمان، بما في ذلك الاعتقاد بأن الجماهير منفصلة عن بعضها البعض، فقد نقلتنا إلى عالم “جماهير شبكية” أقل شفافية.
وتشير الدكتورة فاطمة الزهراء السيد الأستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة في مقال نشرته بالمجلة العربية لعلوم الإعلام والاتصال، إلى أن جذور نظرية انهيار السياق تعود إلى عالم الاجتماع إيرفنغ غوفمان حيث تشير الفرضية المركزية إلى أن لكل رسالة اتصالية سياقها الخاص الذي أُنتجت فيه وجمهورها الخاص الذي وجهت له، وأنه لا يمكن فهم الرسالة بشكل صحيح إلا من خلال هذا السياق وهذا الجمهور، أما إذا تم تداول الرسالة خارج سياقها ومن غير جمهورها فالأرجح أن يساء فهمها الأمر الذي قد يسبب حرجًا لمنتجها أو يجعلها تبدو غامضة وفي أفضل الظروف تبدو غير ذات معنى.
- أشكال انهيار السياق على شبكات التواصل الاجتماعي
في الوقت الذي اجتهد فيه الباحثون في محاولة حصر أشكال انهيار السياق، وسعت دراسة نشرتها مجلة بحوث الدراسات الإعلامية من إعداد الباحثة مها أحمد الجبر، إلى حصر الجهود لتحديد أشكال انهيار السياق وفقا للسياقات الظرفية والاجتماعية والمعلوماتية داخل شبكات التواصل الاجتماعي، وكانت كالتالي:
- انهيار السياق المكاني: يشير إلى أن الوسائط الإلكترونية ألغت الحواجز أو الجدران بين المواقف الاجتماعية وأن الحفاظ على سياقات مميزة عبر الإنترنت أمرًا صعبًا بشكل خاص بسبب خصائص تلك الشبكات.
- انهيار السياق الزماني: فالحفاظ على سياقات مميزة عبر الإنترنت يعد أمرًا صعبًا بسبب خصائص تلك الشبكات ومنها تجاوز الاتصال الرقمي لوحدة الزمان، كما أن المحفوظات الرقمية تسمح بانهيار السياق الظرفي بسهولة والتصميم الرقمي لا يخبر المستخدمين أن الآخرين في وضع عدم الاتصال.
- انهيار السياق المعلوماتي: وجود حالة يفشل فيها الأفراد في التفكير في معلومات المصدر عند معالجة محتوى الأخبار، وتسمى تلك الحالة “عمى المصدر- source blindness” فطبيعة تصميم الوسائط الاجتماعية تفشل في ربط معلومات المصدر بالمحتوى ذي الصلة.
- انهيار السياق الاجتماعي: قد يحدث هذا الانهيار للسياق عندما يتم دمج الجماهير المتباينة في جمهور واحد، مما يخلق مواقف غير مريحة. وبمقارنة التفاعل في شبكات التواصل الاجتماعي مع التفاعل المباشر وجهًا لوجه نجد أن السياق الاجتماعي المحدد في شبكات التواصل يختفي، حيث يتواصل الفرد مع الأصدقاء والمعارف وأفراد الأسرة وغيرهم في وقت واحد، علاوة على ذلك فإنه لا يمكن للفرد التنبؤ دائمًا بالسياق الذي يتم فيه استقبال اتصالاته.
- تآمر وتصادم السياق
وفقًا لدراسة نشرتها المجلة العلمية لبحوث الصحافة من إعداد الدكتور حمزة السيد، يمكن التمييز بين نوعين من الانهيار هما: “تآمر السياق- Context Collusions”، و”تصادم السياق-.”context collision
ويعرف “تآمر السياق” بأنه العملية التي من خلالها يقوم الفاعلون الاجتماعيون بالانهيار والطمس والمساواة في السياقات عن عمد باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، أما “تصادم السياق”، فيحدث حين تتداخل البيئات الاجتماعية المختلفة مع بعضها البعض بشكل غير متعمد وغير متوقع.
ومع ذلك، فإن النوع الذي يحظى بقدر أكبر من الاهتمام هو تصادم السياق ومن ثم فإن الفرق الرئيسي بين التآمر والتصادم هو القصدية أو العمدية.
- استراتيجيات مختلفة للتعامل مع انهيار السياق
تشير مجلة الاتصالات الحاسوبية في دراسة نشرتها العام الماضي 2024 إلى أن انهيار السياق يؤدي إلى عدم التوافق بين العرض الذاتي المقصود للأفراد وتوقعات الجماهير من مختلف الدوائر الاجتماعية، وقد أشارت الأدبيات الحالية إلى استراتيجيات مختلفة للتعامل مع هذا الاختلال، وتتضمن إحدى الاستراتيجيات الشائعة إنشاء قوائم أصدقاء متعددة (مثل التجميع) وتعديل إعدادات الخصوصية (مثل التصفية أو الحظر أو إلغاء الصداقة) للتنقل بين التفاعلات مع جماهير مختلفة.
وتتألف استراتيجية أخرى من الحفاظ على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي المتميزة لفصل جهات الاتصال المهنية عن الأصدقاء أو العلاقات الشخصية الأخرى.
كما قد لا يُقلل آخرون بالضرورة من حجم المشاركة، بل يتبنون استراتيجية “مقاس واحد يناسب الجميع” من خلال تقييد التنوع اللغوي للمحتوى الذي يشاركونه أي أنهم يُقيدون عرضهم الذاتي ليتوافق مع توقعات جمهورهم “الأكثر صرامة” – سواء كان هذا الجمهور يشمل الشبكة بأكملها، أو منصات محددة، أو مجموعات مميزة.
وختامًا، يمكن القول إن انهيار السياق على منصات التواصل الاجتماعي يشترك في التعامل مع المعلومات على الملف الشخصي الخاص بالمستخدم والتعامل مع المعلومات من الأصدقاء، وكذلك التعامل مع المعلومات من السياسيين أو العلامات التجارية أو المعلومات المتعلقة بالمهن والوظائف المختلفة، ولذلك تحتاج هذه الظاهرة إلى المزيد من البحث لتناول هذه الجوانب المتنوعة.