سمح تطور أنظمة الإنترنت ومرورها عبر أجيال جديدة تزامنًا مع ما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة، بتقديم عدة مفاهيم ومتغيرات جديدة باتت اليوم تحتضن كل العلوم والمجالات، من بينها أنظمة الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، بحيث أصبحت الآن تشكل الثورة الجديدة لحقبة ما بعد النفط بفضل ما يعرف بإنترنت الأشياء، الذي جعل كل ما هو موجود بالإنترنت مرتبطًا ببعضه بعضًا مما أدى إلى تغيير بدور الإنترنت كشبكة بمفهومها التقليدي المتعارف عليه نحو مستويات تحمل دقة عالية في معالجة المواضيع والبيانات، والربط بينها عبر الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات في مختلف المجالات، سواء في الاستخدام التقني والصناعي للمنظمات والمؤسسات أو عبر الاستخدام الشخصي للأفراد.
وقد ألقت هذه التطورات بظلالها على تطبيقات الإنترنت، ومن بينها شبكات التواصل الاجتماعي التي استفادت من تلك التقنيات، سواء في تقديم وبث المحتوى والتحكم فيه أو في طبيعة تداوله بين المستخدمين، فاستخدام المنصات الاجتماعية يمهد الطريق للأفراد للتقارب والتعارف وتبادل الآراء واحتضان النقاشات حول قضايا الشأن العام وتوجيهه، فلم يعد للمعلومات أي احتكار كما كان سابقًا في الإعلام الجماهيري، بل أصبح الوصول إليها سهلًا بمجرد الولوج إلى تطبيقات الشبكات الاجتماعية، وبات المستخدم العادي صانعًا لمحتوى يتم الترويج له ومشاركته عبر أكثر من وسيط اتصالي، يحمل قائمة واسعة من الأدوات التفاعلية والتي تضفي على الاستخدام نوعًا من المرونة والجاذبية، غير أنها قد تستخدم سلبيًا وفق سياقات وتقنيات وآليات توجه الأفراد نحو مضامين جاهزة ومعدة لأغراض معينة، منها “غرف الصدى” للتحكم في المستخدمين الذين يتشاركون في نفس التفكير والرأي العام مما يسهل من عملية التلاعب بهم، إضافة إلى التطبيقات الترفيهية والتفاعلية، ناهيك عن تقنيات متطورة تستخدم الذكاء الاصطناعي كالتزييف العميق.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة “الرسالة” للدراسات الإعلامية في عددها الصادر في نوفمبر 2023 دراسة بعنوان “استخدام تقنية التزييف العميق وآلية غرفة الصدى في التلاعب بالرأي العام الرقمي عبر الشبكات الاجتماعية”، من إعداد الدكتور دبيح يوسف بجامعة 20 أوت 1955 بالجزائر، والتي نستعرضها على النحو التالي:
- الرأي العام الرقمي في ظل الشبكات الاجتماعية
مع بداية الألفية الجديدة تطورت شبكة الإنترنت وتحديدًا عبر ظهور الجيل الثاني للويب الذي مكن من بروز تطبيقات اتصالية وتفاعلية من بينها شبكات التواصل الاجتماعي كوسائط اتصالية مهمة في حياة المستخدمين، جعلها تتربع على هرم الاستخدام اليومي والواسع الذي شمل عدة مجالات فاقت وظيفة التواصل، فقد كسر قاعدة الشبكات الخاصة بالتراسل والترفيه، وتحقيق إشباعات شخصية ومحدودة، وبفضل هذه التطبيقات الكثيرة والمميزة أصبحت اليوم تتوزع عبر عدة ممارسات ومجالات، فضلًا عن تنوع جهات الاستخدام، سواء من الأفراد والمنظمات والحكومات والمؤسسات الإعلامية وغيرها.
وبينما كان سابقًا يتشكل الرأي العام في الفضاء العمومي التقليدي ويخضع لشروط وآليات تفرضها أطراف محددة سواء كانت السلطة، أو وسائل الإعلام الجماهيرية، والتشكيلات السياسية، لكن في العقد الأخير تغيرت المعادلة بفعل التطورات التقنية التي أرست قواعد جديدة للعبة، فأنظمة الذكاء الاصطناعي وخوارزميات الشبكات الاجتماعية باتت اليوم تملك من القوة والتأثير ما لا تملكه الأطراف السابقة، فقد أصبح الأمر الناهي في كثير من المواضيع ووضع القرارات العامة إضافة إلى رصد وتتبع الأحداث الجارية بكل مرونة وانسيابية.
وقد عززت التفاعلية الكبيرة للمستخدمين عبر الشبكات الاجتماعية فيما يخص الموضوعات الاجتماعية والسياسية من فرضية قوة الفضاء الافتراضي، وهو ما أسس لمفهوم جديد ذي صبغة تقنية هو “الرأي العام الرقمي” الذي يتخذ من مختلف التطبيقات الرقمية منطلقًا للتوسع والتأثير، وهو مساحة لا تملك عليها السلطات أي تأثير أو رقابة.
- تقنية التزييف العميق
تدخل هذه التقنية ضمن تكنولوجيا معالجة مقاطع الفيديو عبر مؤثرات فنية وصوتية عالية الدقة، وتعد هذه التقنية “من بين العديد من التطورات التي شهدها مجال الذكاء الاصطناعي في توليد المحتوى الإعلامي المركب، فهذه المجموعة من الأدوات والأساليب تتيح الفرصة لخلق أحداث واقعية غير حقيقية لأشخاص يقولون أو يفعلون أشياء لم يفعلوها، إضافة إلى خلق صور لأشخاص أو أشياء وهمية أو حتى لأحداث لم تقع حقيقية.
وتعد هذه التقنية من أحدث الاستراتيجيات المتبعة للتأثير وقلب الموازين في مجال الدعاية الرقمية، وهي أداة مهمة للضغط على الجهات المستخدمة لها تتيح الأفضلية خاصة في مجال الابتزاز السياسي، إضافة إلى أنها مجال ربحي لمن يمتلك الحس التصميمي، بحيث يمكنه التلاعب بالأفراد والمنظمات أو الحكومات بسهولة تامة، خصوصاً أنها تقنية مصممة بدقة يصعب معها اكتشاف حقيقة المقاطع، وهو ما يسهل توجيه الحشود والتحكم في اتجاهاتهم ومشاعرهم.
ولهذه التقنية تبعات مهمة في مجال الرأي العام، أبرزها ممارسة التضليل وفبركة الأحداث، خاصة وأن الحشود تسير وفق مبدأ القطيع عبر تتبع المحتوى الأكثر تداولًا، وهو ما يخلق رأيًا عامًّا، حتى ولو كان ذلك بعيدًا عن المصداقية، يضاف إلى أنها وسيلة للاستقطاب الجماهيري بالنسبة للفئات ذات الاستخدام غير النشط، بحيث تسمح لهم بالتفاعل ومشاركة المقاطع ومختلف المحتويات المنشورة.
- توظيف “الكويز” في جمع البيانات والتلاعب بها
منصات التواصل الاجتماعي وخصوصًا فيسبوك مليئة بما يسمى “الكويزات” وهي عبارة عن ألعاب ترفيهية تعتمد على تقديم المستخدم لمعلوماته وتعبئتها لتحيله إلى نتيجة اللعبة، وبالتالي فهي وسيلة لجمع بيانات المستخدمين واستغلالها في مآرب أخرى، فكثيرًا ما تواجه الشبكات الاجتماعية قضية الخصوصية ومدى احترامها لبيانات المستخدمين والذي غالبا ما ينتهي إلى النفي من جانب المنصات.
- غرف الصدى
تتعدد أساليب توجيه الرأي العام في البيئة الرقمية نحو استراتيجيات أخرى، وترتبط بشكل وثيق بما تقدمه تلك المنصات الرقمية، وهنا نتحدث عما يسمى بغرف الصدى، هذه الاستراتيجية تعد مما يتم الاستعانة به في الشبكات الاجتماعية، مثل فيسبوك وتلغرام وكلوب هاوس وغيرها، وهي مرتبطة أكثر بالخوارزميات الشبكية، وهذا من خلال حصر المحتوى الدعائي للمستخدمين مما يجعلهم يتعرضون لمحتوى موجه بالدرجة الأولى، ويتم هذا الأمر عبر الاطلاع والتفاعل فقط مع المحتوى الذي يتوافق مع أفكارهم وميولهم وقناعتهم واهتماماتهم، ويتواصلون مع أولئك الذين يؤمنون بآراء مشابهة فحسب، فتسود حالة من الوهم بوجود توافق واسع النطاق، والتي بدورها قد تكون معلومات مضللة أو تشوه منظور الفرد بحيث يواجه صعوبة في التفكير في وجهات النظر المعارضة والمختلفة.
وتؤدي غرف الصدى إلى زيادة الاستقطاب الاجتماعي والسياسي والتضليل المُمنهج عبر إغراق المستخدمين بمحتويات موجهة ومعدة مسبقًا، مما يتيح لخوارزميات الشبكة خلق تفاعلية كبيرة وصدى أوسع وتثبيت أفكار، وفي خضم ذلك يتم التأثير بطريقة مرنة وناعمة.
وختامًا، يمكن القول بأن شبكات التواصل الاجتماعي بات بإمكانها التلاعب بالرأي العام بكل سلاسة ومرونة نظير استخدام بعض تقنيات الذكاء الاصطناعي في غير محلها مما يجعلها أداة لجمع البيانات أو توجيه الحشود افتراضيًا.